«انقلاب .. انتخاب .. توريث» هكذا سارت أشكال التطور السياسي لتداول السلطة في القارة السمراء، فبعدما أدت موجات الاستقلال التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية إلى ظهور عدد من القادة الوطنيين في أفريقيا، جاء العديد من الرؤساء إلى الحكم عبر انقلابات عسكرية، بعدها تقدموا للترشح لانتخابات عامة بشكل مدني فازوا بها بالفعل، ثم عملوا إصر ذلك على تكريس ظاهرة توريث الحكم عبر تعديل الدساتير في القارة الأفريقية. وكانت ظاهرة تعديل الدساتير في الدول الأفريقية قد استشرت، سواء لتلبية طموحات الرؤساء الأفارقة للبقاء في السلطة والترشح لفترات متعددة للرئاسة، أو تمهيدًا لعملية توريث الحكم. وفي النموذج الزيمبابوي، كان "روبرت موجابي" رئيسًا للوزراء منذ عام 1980، ثم قام بتعديل الدستور عام 1987 لينصب نفسه رئيسًا، وتمكن حزبه من الفوز في جميع الانتخابات منذ الاستقلال في أبريل 1980 حتى مارس 2008، وواجه أزمة خلال إجراء استفتاء شعبي في فبراير 2000، حيث رفض أغلبية الناخبين التعديلات التي كان "موجابي" قد اقترحها بشأن الدستور، والتي تمكنه من البقاء في السلطة، بعد انتهاء فترة رئاسته. ولكن يبدو أن هذه القاعدة انكسرت مع توقيع رئيس زيمبابوي روبرت موجابي مؤخرًا على دستور جديد للبلاد يحد من سلطات الرئيس الذي يناهز التسعين سنة ويحكم البلاد منذ 33 عامًا، لتقتصر ولايته على فترتين فقط مدة كل منهما خمس سنوات، ويحل محل وثيقة عمرها 33 سنة وضعت خلال الاحتلال البريطاني في عام 1979 في «لانكستر هاوس»، ومن شأن الدستور الجديد أيضًا تمهيد الطريق لانتخابات تشريعية ورئاسية حاسمة في وقت لاحق من هذا العام. حكم جديد وحول ردود الأفعال التي صاحبت هذا الحدث، والذي وصفه العديد من المراقبين بالتاريخي في إطار الانتقال السلمي للسلطة في البلاد، قال موجابي: "هذا الحدث مصدر بهجة عظيمة بكل تأكيد". وبدوره رحب رئيس الوزراء "مورغان تسفانغيراي" بتمرير الدستور وقال: "نحن شعب زيمبابوي فخورون ببدئنا رحلة تقوم على نظام حكم جديد"، إذ إنه رأى قبل ذلك أنه لا جدوى من إجراء انتخابات بدون دستور جديد. وكان الرئيس "روبرت موجابي" قد وقع اتفاقاًَ لتقاسم السلطة مع زعيم المعارضة "مورجان نجيراي" على إثر الأزمة السياسية التي عقبت الانتخابات العنيفة التي ثارت حولها نزاعات في عام 2008، وبموجبه يحتفظ "موجابي" بمنصبه رئيسًا للبلاد وسيطرته على الجيش، في حين يصبح "مورجان" رئيساً للوزراء، وتتولى المعارضة أجهزة الشرطة. من جانبه، قال رئيس البرلمان "لوفيمور مويو": إن تأسيس الدستور الجديد يدعو الجميع للشعور بالفخر - على حد تعبيره -، مشيراً إلى الاسترشاد بالانتقادات التي وجهت إلى مشروع الدستور الذي طرح عام 2000، وكان يمنح "موجابي" سلطات إضافية. تحديات مستمرة ورغم أن الرئيس "موجابى" لم يبدأ حكمه كطاغية، وإنما بدأ ثورياً محرراً، وبقي لأكثر من عقد من الزمان بعد توليه الحكم قائداً يحارب العنصرية، سواء في الداخل أو الخارج في ناميبيا وجنوب أفريقيا، إلا أنه واجهته العديد من التحديات سواء الاقتصادية (نتيجة أزمة طاحنة صاحبتها زيادة في العقوبات الغربية المفروضة على الاقتصاد)، أو السياسية التي برزت مع صعود قوى المعارضة وتراجع شعبية "موجابي". وعلى مستوى الأزمة الاقتصادية التي صاحبتها زيادة في السخط الشعبي، بلغت معدلات البطالة مؤخرًا أكثر من (80%)، فى حين سجل معدل التضخم نسبًا قياسية، واقتربت الأزمة السياسية لنظام "موجابى" من الوصول إلى مشهد النهاية المتوقع، فضلاً عن دخول زيمبابوي في دوامة الديون الخارجية نتيجة التوغل في النفقات والمشروعات الخدمية للحكومة، بالإضافة إلى النتيجة الأهم في حالة زيمبابوي، ألا وهي تزايد معدلات البطالة بشكل مخيف وصل حتى الآن إلى أكثر من (80%). وفي السياق ذاته، هدد الرئيس روبرت موجابي بأن بلاده ستؤمم جميع الشركات الأمريكية والبريطانية في زيمبابوي إذا لم يرفع الغرب عقوباته، مؤكداً أن الوقت قد حان لمقاومة العقوبات المفروضة عليه وعلى زعماء الحزب. وبالتالي ثار الجدل حول مدى تمكن الرئيس الزيمبابوي من تجاوز الأزمات التي تعصف ببلاده في غياب جميع أشكال الدعم السياسي والاقتصادي الدوليين، خاصة بعد الانسحاب من منظمة الكومنولث. من ناحية أخرى، ترجع المعارضة في زيمبابوي - بالإضافة إلى العديد من القوى الأجنبية والهيئات الدولية - التدهور الاقتصادى في زيمبابوي إلى سوء الإدارة والفساد المستشري في الطبقة الحاكمة. أما الأزمة السياسية، فقد جاءت تصريحات الرئيس "روبرت موجابي" حول أنه لن يدعو مراقبين غربيين للإشراف على الاستفتاء الدستوري والانتخابات العامة المقررة العام الجاري، مرتبطة بخلاف آخر قد يثور داخل الحكومة الائتلافية برئاسة الخصم السياسي "مورجان تياجيراي"، وصرحت حركة التغيير الديمقراطي بأنها ستعارض خطط حزب موجابي في اختيار مراقبي الاستفتاء والانتخابات. محددات عديدة والحقيقة أنه يتطلب استشراف المشهد السياسي القادم في زيمبابوي الوقوف على خلفيات مواقف وأدوار القوى الفاعلة على الساحة الداخلية والإقليمية والدولية. فعلى الصعيد الداخلي، ورغم القيود التي فرضها الدستور الجديد على سلطات الرئيس، تظل حقيقة تراجع شعبية الرئيس "موجابي" وإمكانية إقصائه عن حكم البلاد في الانتخابات المقررة هذا العام مسار شك، خاصة وأنه لا يزال قادرًا على التلاعب بالتناقضات الداخلية والتوازنات الإثنية، والاقتصادية والاجتماعية المتمثلة في قضية الأرض، وامتلاك البيض لأجود أراضي البلاد، رغم قلة عددهم (1%) من السكان في ظل دستور لا يطبق بأثر رجعي، مما يتيح له إمكانية الترشح في الانتخابات القادمة والأخرى اللاحقة لها حتى فترة عشر سنوات. وعلى الصعيد الإقليمي، ورغم الانتقادات العلنية من جانب بعض القوى والمؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية الأفريقية لممارسات النظام السياسي في "زيمبابوي"، ورغم الضغوط على حكومات القارة لاتخاذ مواقف أشد صلابة في مواجهة نظام "موجابي"، فيشير الواقع إلى أن مثل هذا الموقف غير ممكن من جانب كثير من الدول الأفريقية؛ في ظل واقع ضعف إمكانات الدول الأفريقية وما تملكه من أدوات ضغط في مواجهة بعضها البعض على الأصعدة المختلفة. وعلى الصعيد الدولي، يمكن التمييز بوضوح بين موقف القوى الغربية بزعامة بريطانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدةالأمريكية، الداعي لتوقيع مزيد من العقوبات على النظام ورموزه وتقديمهم إلى محاكمات دولية، وموقف قوى دولية أخرى كالصين وروسيا لا تعبأ كثيراً بتلك الدعوات ومبرراتها، بل وتعارضها إذا ما مست مصالحها الاقتصادية ومكانتها الدولية. مسارات ثلاثة وفي ضوء تلك المحددات، يمكن القول أن المشهد السياسي في زيمبابوي سوف يتخذ أحد المسارات الثلاثة، والتي يصبح معها المشهد السياسي في زيمبابوي مفتوحاً للعديد من النهايات التي سيحددها اللاعبون الباقون على المسرح السياسي، وإذا كان فصل إقرار الدستور الجديد قد تم بالفعل، فإن ستارة النهاية لم تسدل بعد، ليصبح أمامنا أحد المسارات التالية. فعلى مستوى المسار الأول تتمثل محدداته في بقاء الأوضاع على ما هي عليه ما بين شد وجذب بين طرفي المشهد السياسي في زيمبابوي، على مختلف الأصعدة إلى أن تجري الانتخابات المقررة، أو يتحقق أحد المسارات الأخرى. ومن ضمن هذه المسارات، هو المسار الثاني الذي يمكن أن يتم عبر خروج "روبرت موجابي" من المشهد السياسي وتولي شخص آخر مقاليد السلطة، لكنه يبقى من داخل الحزب الحاكم، لكن هذا المسار قد يزيد من تعقيد الأمور ويبعد من احتمالات الانفراج السياسي بعد اتفاق "موجابي" وحزبه الحاكم على اقتسام السلطة مع المعارضة التي يقودها "مورجان تياجيراي". وبالتالي، إذا كنا قد قللنا من الاحتمالات أمام المسارين السابقين، فلا يبقى إلا المسار الثالث الذي يتمثل في خروج "موجابي" من الساحة السياسية، ولكن هذه المرة لصالح قوى المعارضة، بعد اتخاذه لموقف تقاسم السلطة بينه وبين تياجيراي الذي يتولي رئاسة الحكومة منذ أزمة انتخابات عام 2008. ولكن بعد سرد واقع التطور السياسي التي مرت به أحد النماذج الأفريقية، فإنه يمكن القول أنه مع عدم وجود نظم ديمقراطية حقيقية في هذه الدول، يظل هناك جدل وشك حول مدى جاهزية دول القارة الإفريقية على إنهاء ظاهرة التوريث عبر تفعيل حالات تقاسم السلطة، باعتباره حلاً للخلافات والمشكلات السياسية والداخلية في القارة. باحث بمركز الدراسات والبحوث