في إطار مبادئ العلاقات الدولية، يمكن تصنيف محاور العلاقات التركية الروسية بصورة عامة إلى مجموعتين، الأولى تتعلق بما يسمى بالسياسة الأدنى التي تشتمل على التعاون في مجالات التجارة والطاقة والسياحة والاستثمارات والتربية والتعليم وغيرها من الأطر الاقتصادية، والثانية ترتبط بالسياسة العليا التي تشتمل على الجانب الآخر من العلاقات السياسية والعسكرية والقضايا الإقليمية وباقي المسائل الإستراتيجية. وعلى هذا الأساس فإن ثمة سمة أساسية سارت عليها العلاقات بين "أنقرة" و"موسكو" منذ زمن بعيد، ويؤكدها الواقع هذه الأيام، وهي وجود تناقض واضح بين هاتين المجموعتين من قنوات السياسة الدنيا والعليا، وبعبارة أخرى كان هناك تقارب في القنوات الاقتصادية شهد عليه توقيع إحدى عشرة اتفاقية إضافية، لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، بينما هذا التقارب لم يقِ من تباعد سياسي ليس من قريب الزمن، ولكن تبلورت محاوره في صراع دول أسيا الصغرى. لكن الأزمة السورية هي ما استدعت اعتقاد العديد من المراقبين باعتبارها الملف الأكثر حدة وإلحاحًا في دائرة الخلافات السياسية التركية – الروسية؛ لأنها الأزمة الأكثر حدة ودموية ووحشية في المشرق، ويقف البلدان منها على طرفي نقيض. تقارب اقتصادي وعلى الرغم من هذا التباعد الناتج عن الخلاف السياسي، إلا أن البلدين أعطتا أولوية للعلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما؛ محاولة لمعالجة الخلافات في بعض القضايا الإقليمية، وبالتالي كان هناك ارتباط وثيق بين "أنقرة" و"موسكو" في المحاور الاقتصادية من العلاقات الثنائية، التي شهدت توقيع 11 اتفاقاً في مجال التعاون الاقتصادي، بجانب صعود العديد من المؤشرات مثل تصاعد حجم التبادل التجاري بين البلدين ليصل إلى 34 مليار دولار، ومن المستهدف رفع هذا الحجم إلى 100 مليار دولار حسب ما أعلنه وزيرا الطاقة في البلدين. وفي مجال آخر من مجالات التعاون الاقتصادي، يلاحظ وجود نسب عالية في مؤشرات السياحة التي شهدت زيادة في حركة السفر بين البلدين أعقاب إلغاء تأشيرات الدخول وتخفيف الرسوم الجمركية عن السلع المتبادلة، كما تلبي "روسيا" الجانب الأكبر من احتياجات "تركيا" من الغاز الطبيعي، في حين تمر معظم خطوط نقل الغاز والنفط المستخرجة من دول أسيا الوسطى عبر الأراضي التركية. وفي سياق متصل من التقدم الذي أحرزه الجانبان، تواصل "تركيا" الاستحواذ على أكبر حصة في قطاعي الإنشاءات والمحاصيل الزراعية في السوق الروسية، إلى جانب خط التيار الأزرق للغاز الطبيعي، وتواصل أعمال إنجاز مشروع التيار الجنوبي، وتستمر الأعمال المتعلقة بقيام "روسيا" ببناء محطة للطاقة النووية في "تركيا" بقيمة عشرين مليار دولار. وفي مجال التعاون العسكري بين البلدين، لم يكن أقل تحسناً من نظيره الاقتصادي، حيث عرضت "روسيا" خلال مايو الجاري مساعدتها على "تركيا" في إنتاج منظومات مضادة للجو ومنظومات الدرع الصاروخية، واقترحت على شركائها في "تركيا" شراء منظومة "أنتيه – 2500 " (إس – 300 في إم) الدفاعية في مجال تصميم وسائل الدفاع الجوي، كما شهدت الدورة الحادية عشرة لمعرض إسطنبول الدولي "IDEF – 2013" عرض "روسيا" لأكثر من 200 نموذج للأسلحة الذي أُفتتح في وقت سابق من مايو الجاري. والجدير بالذكر أن هذا التعاون بين البلدين في مجال قنوات السياسة الدنيا، أخذ شكلاً مؤسسياً من خلال تأسيس مجلس التعاون التركي - الروسي في مايو 2010، الذي تضمن لقاءات سنوية منتظمة بين البلدين. خلاف سياسي ورغم الانتعاش المتحقق على مستوى العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين، فإن ثمة خلافات سياسية أخرى بينهما جمدت من التوافق السياسي الموازي تجاه القضايا الإقليمية المشتركة، بعضها يعود إلى تاريخ شائك من الصراع طوال قرون، وبعضها الآخر يعود لاعتبارات جيوسياسية حديثة. بيد أنه كان هناك الكثير من ملفات الخلاف، تمثلت في اختلاف سياسة "روسيا" و"تركيا" بشأن منطقة القوقاز، وتضارب المواقف المتعلقة بالسياسة الداخلية من قبيل مشكلتي الشيشان والأكراد، ومشكلة المضائق التركية المستمرة منذ عصور، والخلافات في السياسة البلقانية والقضية القبرصية، فضلا ًعن الاختلافات في سياق إسترتيجيات حلف الناتو. والحقيقة أن هذه الملفات النائمة نسبياً في الوقت الحالي لم تشكل عبئاً مباشرًا على العلاقات، وإنما كان جوهر الخلاف متمثل في اختلاف الأسلوب في التعامل مع الأزمة السورية، وتناقض مواقف الطرفين حول العديد من المسائل المتعلقة بهذه الأزمة، من حيث تغيير النظام في سوريا، ونظام الدفاع الصاروخي الذي جرى نشره في "تركيا"، ومشكلة صواريخ باتريوت. واحتلت الأزمة السورية موقع الصدارة خلال المباحثات التي عقدت بين وزيري خارجية البلدين مؤخراً، ليتقرر خلالها الموقفان، فالجانب الروسي أعلن رفضه للجهود التي تعمل على تنحي "الأسد" عن السلطة، معتبراً ذلك خروجاً عن الحل السلمي للأزمة، بينما أشار وزير الخارجية التركي إلى أن بلاده تبحث عن أرضية مشتركة لحل الأزمة السورية، مؤكدًا على استمرار الحوار مع "روسيا"، معتقداً أن لغة "لافروف" المباشرة حول "سوريا" لم تكن مصادفة، بل ولّدتها تطورات فاجأت "موسكو" ولعبت فيها "أنقرة" دورًا ملموسًا، مثل قرار الائتلاف الوطني السوري، وتشكيل حكومة مؤقتة لإدارة المناطق المحررة، ومنح الائتلاف مقعد "سوريا" في الجامعة العربية. احتمالات التحالف وبعد التعرض لكلا الجانبين من التقارب والتباعد بين البلدين، فمن الواضح (رغم الخلافات بينهما) تقدير "تركيا" و"روسيا" لضرورة معالجة هذه الخلافات بالتهميش والتجاهل، ومحاولة البحث عن توافق، بدون أن تؤثر على تطوير علاقاتهما الاقتصادية والتجارية. وليس هناك شك في أن هذا السلوك المتبادل يأتي في إطار من البراجماتية البالغة، ولكن لا يمكن أن نقر باستمرار هذا المسار من العلاقات التجارية والاقتصادية المتنامية في المستقبل؛ لأن الأمر مرتبط بقضايا إقليمية سريعة التغير ومواقف دولية مرنة التبدل والتحول. ولكن يمكن التكهن بذلك المسار من العلاقات وفق هذه المتغيرات على المستوى الإقليمي وبخاصة الأزمة السورية؛ لأنه من المحتمل تغير موازين العلاقات في حال تطور الأزمة وخروجها عن حسابات الأطراف المختلفة، كحدوث تدخل عسكري في "سوريا" بتأييد أو مشاركة تركية. وهذا هو احتمال يتسبب في مزيد من العلاقات السلبية على صعيد الخلافات، قد تسمم السياسات الإيجابية في قنوات التعاون الاقتصادي والعسكري، بل قد تصل إلى احتمال القضاء عليها. وختاماً، فإنه يمكن القول أن سيناريو بقاء التعاون الاقتصادي والسياسي يتمثل في احتياج البلدين لبعضهما البعض أمام سلسلة من المشاكل السياسية، التي تحتاج إلى مزيد من الوقت لحسمها.