عانى أهل النوبة الكثير من الظلم سواء قبل الثورة أو بعدها، ووصل ذلك إلى حد التهميش للشخصية النوبية التي مثّلت دور "السفرجية والبوابين" في المسلسلات والمسرحيات المصرية، فضلاً عن التهجير من أراضيهم لأربع مرات وجمود الرغبة السياسية في إيجاد حل جزري لمشكلتهم. ومع تطور الأحداث الراهنة في مصر، وفي ظل ما تعيشه البلاد من أزمة الشك السياسي، عاد "ملف النوبة" إلى الاشتعال من جديد، بعد تصاعد التساؤلات من جانب ناشطيه حول تعامل الإخوان المسلمين مع قضيتهم.
وازداد الاهتمام خاصةً بعد قيام عدد من الناشطين النوبيين، بتصعيد الملف إلى المجلس الدولي لحقوق الإنسان في الأممالمتحدة، وهو ما أدى إلى انقسامات بين مؤيد ومعارض ورافض لفكرة التدويل. نموذج دارفور وبعد الحديث عن احتمالات قيام بعض الشخصيات النوبية بتدويل قضية النوبة، ساد الخوف من إمكانية تكرار النموذج السوداني في انقسامه بين الجنوب والشمال، بعد صراعات متواصلة في إقليم دارفور، فضلاً عن الخطر الذي قد يفتح الباب أمام التدخلات الأجنبية في الشأن الداخلي المصري.
وحذَّر الكاتب "علاء الأسواني" من سقوط بعض المصريين في مشاريع استعمارية عن طريق السماح بتدخل أطراف أجنبية لحل قضاياهم داخل مصر قائلاً: "هناك خيط رفيع بين المطالبة بالحق والسقوط في مشروع استعماري، ولا أرى سبباً مقنعاً للنوبيين أو الأقباط، ولا لغيرهم، لإدخال أطراف خارجية أجنبية في قضاياهم".
ومن جانبه، اعتبر الكاتب "سعد هجرس" أن تبنى الولاياتالمتحدة لقضايا النوبيين حيناً والأقباط أحياناً لا يدل على حُسن نيتهم أو رغبتهم البريئة في الدفاع عن حقوق الأقليات، مطالباً بحل القضايا الداخلية بعيداً عن التدخلات الأجنبية، وانتقد في الوقت ذاته إهمال الدولة لقضايا الأقليات مما يدفعهم إلى اللجوء للخارج، مستشهداً على ذلك بمنح بعض المسئولين أراضي النوبة لمستثمرين عرب بدلاً من إعادتها لأهل النوبة، معتبراً أن هذه السياسة "تهدم ميزة التعددية في مصر وتتعامل معها بشكل يفتقر إلى الحكمة والموضوعية والعدالة، وينطبق ذلك على النوبيين وبدو سيناء والأقباط أيضا".
من جهته، أعرب الأديب إدريس علي، أحد القيادات النوبية، عن انزعاجه الشديد من تدويل ملف النوبة، قائلاً: "لا توجد قضية أقلية نوبية في الوطن العربي أو في مصر، لكن هناك مشكلات موجودة عند النوبيين، ومن يريد تدويل ملف النوبة هم «مرتزقة» ويتاجرون بالقضية ويبحثون عن الشهرة، فلا يوجد أي تمييز أو تطهير عرقي، ولا تمارَس ضدنا العنصرية، ولا يوجد في القانون أو الدستور أي مادة تجعل النوبيين من الدرجة الثالثة".
تمكين وعودة وفي هذا السياق، طالب "عصام شيحة"، المستشار القانوني لحزب الوفد، بمشاركة أبناء النوبة في مجلس الشعب كدائرة مستقلة يمثلها نائبان نوبيان، كما طالب بسرعة تكوين هيئة لإدارة الأزمة تعمل على تلبية مطالب النوبيين وأهمها العودة إلى الأراضي المحيطة ببحيرة السد العالي، وإعادة النظر في رفع قيمة التعويضات الخاصة بهم، بالإضافة إلى الاهتمام بالتنمية البشرية والاقتصادية والتعليم، مع ضمان حقهم في التمسك بهويتهم وثقافتهم الخاصة بجانب مصريتهم.
وأكد الكاتب "الأسواني" أن استرداد النوبيين لأراضيهم التي تخلوا عنها من أجل مشروع السد العالي حق مشروع لهم، وليس تفضلاً من الدولة، وإنما هو أقل ما تقدمه لأهل النوبة الذين قدموا الكثير لمصر، مضيفا: "ويكفي أن نتذكر أن الكهرباء التي تصلنا اليوم دفعوا هم ثمنها بالأمس، إلا أن سلب الدولة لحقوقهم ليس حالة منفصلة، بل يتصل بحالة الاضطهاد العام التي يعاني منها جميع المصريين"، داعياً إلى الاعتراف بالخصوصية الثقافية لأهل النوبة التي لا تتعارض مع الثقافة العربية أو الإسلامية، وإنما هي فصل من فصولها.
وانتقد "أحمد إسحاق"، رئيس لجنة متابعة القضايا النوبية، تأخر الدولة في حل مشكلة النوبة مقارنةً بسرعة حل مشكلات أخرى، قائلاً: "الرئيس مرسي وعد بالحل السريع لقضية النوبة، ومشكلتنا عمرها 45 عاماً وبحت أصواتنا من الحديث عنها والمطالبة بحقوقنا ولم يتم حلها"، مؤكداً أن أهالي النوبة ليسوا ضعفاء ولن يستسلموا أمام المستثمرين الذين يريدون شراء أراضي النوبة.
ومن شأن عمليات التهجير الأربعة التي واجهها النوبيون، إضعاف التراث النوبي، واختفاء الرقصات والأغاني والفلكلور النوبي. استمرار الأزمة ويرى بعض المفكرين النوبيين أن ثورة 25 يناير لم تخدم قضية النوبة، بل ظل الامتداد لما كان يحدث قبلها، لكن بتفاوت في درجات الظلم، ومارس نظام الإخوان الذي وصل إلى سدة الحكم بعد الثورة، نفس أساليب النظام السابق في المماطلة لحل المشكلات العالقة في ظل التخبط العام لحكومة قنديل الحالية. وانتقدوا تعامل الحكومة المصرية مع مشاكل النوبة وغيرها، وكأنها لا تمثّل جزءً أصيلاً من الوطن، على الرغم من أن اللغة والتاريخ النوبي من العناصر الأساسية للثقافة المصرية. سيناريوهات محتملة ويستخلص مما سبق احتمالية وقوع أحد السيناريوهين التاليين، يتمثل الأول في فهم الحكومة المصرية لخطورة تصاعد القضية النوبية، ومن ثم محاولة التوصل لحلول جذرية لتهدئة الأوضاع من خلال عقد حوار بنّاء بين القادة السياسيين والمهتمين بالقضية مع عدد من النوبيين ومحاولة وضع مجموعة من الحلول لبعض مشكلات النوبة وليس جميعها، كمحاولة لامتصاص موجة الغضب التي باتت تتصاعد بين النوبيين.
ويتمثل السيناريو الثاني، والذي يهدد بمستقبل الوضع الأمني لمصر في حالة حدوثه، في تصاعد حدة الأزمة ولجوء النوبيين لقوى خارجية لحل مشاكلهم، مما يفتح الطريق للتدخل الأجنبي في كافة شئون مصر الداخلية، لكن يظل هذا السيناريو مستحيلا في ظل تمسك النوبيين أنفسهم بحضارتهم التي لا يمكن أن تنفصل بأي حال من الأحوال عن الحضارة المصرية.
ويعتبر العديد من النشطاء الحقوقيين أن عدم تفهم الحكومة المصرية لطبيعة الحقوق التاريخية لأبناء النوبة، هو ردة للقضية النوبية والعودة بها إلى نقطة الصفر؛ الأمر الذي يتطلب التعامل مع ملفات النوبة وبدو سيناء تعاملاً سياسياً طويل المدى وليس تعاملاً أمنياً عقيماً.