تمنيت ألا يتحدث، لكن سائق التاكسي العجوز الملتحي بدأ مباشرة بالحديث عن الأوضاع السياسية، فتوجست من اشتباك بين قناعاتي وقناعاته .. إلا أنه فاجأني بعبارتين . الأولى أوجز فيها مشكلته، دون أن يخل بكونها مشكلة عامة، قال : «السائق يخاف من الزبون، والزبون يخاف من السائق .. كيف إذن نعمل ونعيش؟»، ثم أضاف بعض الانتقادات للحكم الحالي معبرًا عن الاستخلاص الذي اقتنع به : « سعيدة بقى ياسي مرسي»! هذا الحوار، غير المرتب، يضيف ضمن ملاحظات كثيرة معنى غير جديد، وهو أن حالة «عدم الرضى العام» لا تقتصر على فئة مجتمعية دون أخرى، وأن التصورات المسبقة بشأن أن الفقراء، أو الفئة الأفقر في أدنى الطبقة المتوسطة، هي من الفئات التي تؤيد حكم الإخوان .. تلك التصورات ليست صحيحة.
لقد قامت تلك القناعات على أساس أن الآلة الانتخابية لجماعة الإخوان إنما تحقق رضاءً ما للفقراء حين تقدم لهم «رشاوى انتخابية» على أبواب اللجان، استنادًا إلى سطوة «الزيت والسكر».. إلا أن الواقع يقول إنه بعد ظهور نتائج الانتخابات تبدأ الاحتياجات اليومية في فرض شراستها على المواطنين الذين لن تستمر حياتهم اعتمادًا على «رشوة انتخابية»، كما لن يعيشوا بالإعانات التي قد توفرها من حين لآخر بعض الجمعيات أو آليات خيرية غير معلنة لجماعة الإخوان .
فيما سبق، كان يمكن لتنظيم غير معلن ومعارض أن يكتسب بعض التأييد من خلال هذه المنظومة، الراشية أو الخيرية، لكن وجود هذا التنظيم في الحكم فرض علىه ضغوط المطالب الواسعة لعدد مهول من السكان .. وأصبح مفترضًا فيه أن يطعم الملايين، وأن يكون مسؤولاً عن التزامات محددة وثابتة .. وليست طارئة .. أصبح علىه أن يكون «أهل حكم»، وليس مجرد «بتاع ربنا»، يحل مشكلات انتخابية مؤقتة على طريقة «بابا نويل» أو حتى «روبين هود» .
بمعنى أعمق، إذا كان الفقراء فئة مجتمعية غير راضية، انزعجت تمامًا حين بشرتها الحكومة بتوزيع ثلاثة أرغفة في اليوم لكل مواطن، فلما تبدى غضبها تراجعت الحكومة .. فئة يتوقع الكثيرون أن تكون مطالبها هي المفجر لما يُوصف بأنه «ثورة جياع».. فئة تكتوي الآن أكثر من غيرها بتبعات الأزمة الاقتصادية القاسية وشح الموارد وتراجع المخزون في مختلف السلع الاستراتيجية وارتفاع معدل التضخم .. إذا كان هذا : من أذن الفئة الاجتماعية التي يستند إليها حكم الإخوان ؟ ما هي الطبقة العريضة التي تحقق مصلحة من وجوده ؟
أي حكم، ديموقراطي كان، أو ديكتاتوري، في أي دولة، في أي حقبة تاريخية، لابد له من «سند» و«ظهير» .. لابد أن يكون محققًا لمصلحة اجتماعية ما .. يمكن على أساسها لهذا «الظهير» أن يكون مدافعًا عن الحكم من أجل مصالحه .. لا من أجل أيديولوجيته . واقعيًا هذا غير متحقق الآن .. لا توجد فئة اجتماعية عريضة لها مصلحة في وجود الحكم بصيغته الحالية .
أحد الأسباب التي انتهى بها حكم الرئيس مبارك - بغض النظر عن تقييمه الديموقراطي والسياسي - هي عدم كفاية الموارد لتلبية احتياجات الفئات الاجتماعية التي كانت تستفيد من وجوده .. في ذات الوقت الذي فشلت فيها الحكومة في أن تضمن آليات تحقق العدالة الاجتماعية، بينما كانت تحقق معدلات نمو إقتصادية عالية نسبيًا .
إذ بنى مبارك حكمه على أساس توفير الحد الأدنى المقبول لفئات الفلاحين والعمال والموظفين الذين انبنى على مساندتهم حكم يوليو 1952 في الأصل . في ذات الوقت الذي نمت فيه الطبقة المتوسطة واتسعت فيه الطبقة الرأسمالية .. ما يعني أنه كان يحقق «مجمع مصالح اجتماعية» .. واجهت ضغوط الأزمة السكانية - لأسباب مختلفة - فانهارت المعادلة في لحظة.. لاسيما حين اعتقدت الجماهير أنه يمكن توفير معادلة بديلة .. فاختار البعض أن يشارك في 25 يناير .. واختار البعض الآخر ألا يساند نظام الحكم بأن يبقى في بيته .
في الدول العريقة ديموقراطيًا، وخلال مناقشة البرلمانات للميزانيات السنوية، يموج أي مجتمع بنقاش عام حول المستفيدين من مشاريع الميزانيات، وتحسب كل فئة المكاسب والخسائر، كيف سيعود علىها القرار المالي وكم ستتكبد من الضرائب الواجب دفعها .. وتختار كل حكومة انحيازاتها وتقرر على أساس ذلك أي المصالح سوف تغلب على الأخرى. المستفيدون هم الذين يدافعون عن وجود تلك الحكومة أو غيرها . وبقدر اتساعهم وحجم أغلبيتهم وتأثيرهم يستمر هذا الفريق في الحكم أو يترك موقعه .
في الدول الديكتاتورية، خصوصًا إذا كانت تميل إلى قدر أعلى من القسوة في وأد الرأي الآخر، وفي تقييد المعارضين، لابد أن تكون هناك طبقة مستفيدة أكبر من غيرها .. تُمثل عماد البقاء للحكم . وقد كان لأدولف هتلر على نازيته مشروعه الاجتماعي من أجل الجنس الآري والأمة الألمانية .. إلا أن توسعه العسكري أدى إلى هزيمة لا تقوى أي طبقة بأي حجم من مواجهتها .
وفي الاتحاد السوفيتي، تحمَّل العمال والفئات العريضة من الشعب المناخ غير الديموقراطي لأنه كانت هناك مصالح متحققة ومضمونة، انهارت مع نشوء الاحتياجات العصرية، ومع عدم قدرة النظام على تلبية المتطلبات .. نتيجة لأنه تورط في سباق عسكري فاق قدراته الاقتصادية بمراحل حين فرض علىه رونالد ريجان خوض التنافس بمشروع «حرب النجوم» .
وفي الصين، التي لم تزل شيوعية، وتحكم بحزب حديدي واحد، كانت ولم تزل هناك فئات سكانية عريضة تعتمد على وجود نظام الحكم في تحقيق المتطلبات الاجتماعية والأمنية .. بل وأدى تطور النظام وانفتاحه الاقتصادي إلى إتاحة مزيد من الفرص أمام تلك الطبقات للنمو والانتقال الاجتماعي إلى ما هو أعلى .. ولهذا يمكن أن يواجه الحكم - ولو إلى حين - ضغوطًا تتعلق بالاحتياجات السياسية والعصرية .
ما هي المصلحة التي يحققها حكم الإخوان لهذه الفئة الاجتماعية أو تلك ؟ العمال والفلاحون لديهم مشكلات لا تبدأ برغيف العيش ولا تنتهي بانهيار مستوى الخدمات . إن الفلاح البسيط يواجه الآن مشكلة عدم توفير السولار اللازم لري قيراط أرض. والعمال لم ينالوا مكسبًا إضافيًا بل تراجع مستوى حياتهم أمام الضغوط الاقتصادية وزيادة معدلات البطالة. والطبقة الوسطى تواجه شبح الفقر، والفئة الاجتماعية العلىا في الطبقة الوسطى تعاني من تدهور مستوى المعيشة وتراجع معدلات النمو الاقتصادي، والضغوط تلاحق بدورها الطبقة الأغنى .. نتيجة لصراع حاد بين الحكم والرأسماليين الذين تحقق تراكمهم الرأسمالي في عصور سابقة .
الفئات المختلفة لكل منها مشكلاتها، الموظفون يواجهون مشكلات في التراتبية نتيجة لاقحام الانتماء الأيديولوجي في الأوضاع الوظيفية وفق ما يعرف باسم «الأخونة» . والشباب يواجهون غد مظلم سياسيًا واقتصاديًا. والعاملون في الشرطة يعانون من ضغوط متنوعة تبدأ باضطراب في المهمة المكلفين بها وشرعيتها ولا تنتهي بالمتاعب المالية. ومجتمع القوات المسلحه غير مرتاح . والصحافيون يفقدون أهم ما تقوم علىه مكاسبهم المهنية وهو حرية الرأي . والقضاة يواجهون تعديًا على استقلالهم ووضعهم القانوني والدستوري .. وغير ذلك كثير.
حين نتحدث عن ظهير اجتماعي مساند للحكم فإن هذا لا نعني به «تنظيم سري» أو «حزب علني»، هذا أو ذاك لا يمثل فئة اجتماعية .. إن هذا هو الحكم الذي يحتاج لمساندة .. ومهما بلغ حجم ذلك الحزب أو تلك الجماعة فإنها لا تقوى على أن تعمل وحدها في المجتمع بدون حلفاء ومساندين لديهم مصالح واضحة ومتحققة من وجود هذا الحزب أو تلك الجماعة في صدارة الحكم. فإذا كان هذا الحزب منغلقًا ولا يمكنه الانفتاح على الآخرين، ولا يستطيع ضم غير من يثق فيهم إلى عضويته، فإن هذا يجعله منعزلاً .. بلا سند . وإذا كان لا يقوى على بناء التحالفات نتيجة لنزعته الاستحواذية وغير الراغبة في اقتسام الكعكة مع الآخرين .. فإن هذا يجعله وحيدًا في مواجهة التحديات والمشكلات المتراكمة .
إن من الممكن لأي إجراءات عنيفة، أو ذات طابع غير ديموقراطي، أو اضطهادية بموجب توظيف القانون، أن تسكت المعارضين هنا أو هناك .. لكن هذا لا يقوى على الصمود ولا يحقق لحكم - أيًا ماكان مستوى قبولنا أو رفضنا له - إمكانية البقاء .. ببساطة لأن هذا الحكم لا يحقق مصلحة اجتماعية لفئات عريضة أو طبقات واسعة تستطيع أن تدافع عنه. على العكس من هذا يكتسب الخصوم المجتمعين والفئويين يومًا تلو آخر في ذات الوقت الذي تنهار فيه شرعيته القانونية والأخلاقية والسياسية .. حينئذ لانكون في مواجهة (مجمع مصالح إجتماعية) وإنما أمام ( مجمع مغاضب عامة) .