فى شتاء 1992 توجهت للجزائر لحضور مؤتمر الصحافة الدولية .. كانت ملاحظتى الأولى ارتداء جنود الأمن والشرطة أقنعة وأغطية سوداء تغطى وجوههم بالكامل مع فتحة صغيرة للعينين .. سألت لماذا ؟ .. قالوا حتى لا يعرف الأرهابيون وجوههم ويصفوهم مع عائلاتهم .. أستفسرت !.. اجابوا أنهم قتلوا الألاف من رجال الجندرمه "البوليس” وأسرهم .. أحداث العنف بالجزائر خلفت وراءها 500 ألف قتيل .. أى نصف عدد ضحايا حرب الأ ستقلال ضد فرنسا التى راح ضحيتها مليون قتيل . تذكرت الواقعة وأنا أقرأ أخباراً تفيد أن بعض البلطجية والمخربين يوقفون السيارات للاطلاع على هوية من فيها بحثا عن رجال الامن .. فى مصر أصبح ضباط الشرطة هم المطلوبون للتصفية وليس المجرمين .. الأمن فى مصر يشعر أن مستقبله مظلم لأن الرئيس مرسى والحكومة وحزب الحرية والعدالة لا يريدون الأعتراف بأن هناك أزمات سياسية وأقتصادية وأجتماعية وهى المسئوله عن تفجر العنف فى الشارع وتحدث الأنفلات الأمنى .. رجال الشرطة المصرية – لأول مرة فى تاريخهم - يعلنون العصيان المدنى ويغلقون الأقسام ويطالبون برحيل الوزير .. رجال الأمن فى بر مصر لا يحميهم أحد ، ولو دافعوا عن أنفسهم وأستخدموا سلاحهم الميري ، يقدمون إلى المحاكمة بتهمة قتل الثوار وسفك دماء الشهداء، مع أن الجميع يعلم أن من فى الشارع لا هم ثوار ولا شهداء..
زاد الطين بله أن الرئيس مرسي ورئيس الوزراء قنديل تراجعا عن وعودهما لرجال الشرطة بأن يستخدموا الحسم مع العناصر الأجرامية .. ويبدو أن ضباط وجنود الشرطة يشعرون أن هناك توجهاً من حكومة الأخوان لأنشاء شرطة خاصة بهم أو ميليشيات تدافع عن مقراتها وتحمى المنشآت ، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام حرب أهلية فى ربوع البلاد ثم زاد الأمر سوءاً عندما وافقت النيابة العامة على مشروع قانون لحزب الحرية والعدالة يسمح للمواطنين وشركات الأمن الخاصة بالتمتع ب " صفة الظبطيه القضائية" كرد على أعلان معسكرات الأمن المركزى وأقسام الشرطة فى القاهرة والمحافظات أضرابها عن العمل بحجة عدم أنشغال الجيش بالأمن الداخلي .. بيان النائب العام سيفتح الباب للأخوان والسياسين المعارضين لإنشاء شركات أمن تعمل لحسابهم ، وتطلق كل منها الرصاص على الأخرى بدعوى مكافحة أعمال الشغب وتتحول الشوارع عندئذ إلى برك دم .. القانون سيضفى شرعية على أى ميليشيا مسلحة فى المستقبل ، ويصبح لكل حزب سلاحه ورجاله وأمنه مثلما هو الحال فى لبنان والعراق والصومال واليمن .. وبدلاً من أن تكون هناك شرطة واحدة للدولة يصبح لدينا ميليشيات لها زيها الخاص وعلمها المميز .. وهذه مصيبة سوداء لا أعلم أن كان حزب الحرية والعدالة يدركها أم لا !
إن كل المصائب التى حدثت فى الدول الافريقية مثل مالى وسيراليون والكونغو بدأت عندما حصلت الميليشيات على غطاء قانونى لأنشائها .. إن هذه الفكرة العقيمة التى يروج لها الأخوان بعيدة كل البعد عن فكرة اللجان الشعبية التى مارست عملها بعد ثورة يناير 2011 عندما غابت الشرطة عن عملها نتيجة لحرق الأقسام وقتل الضباطوسرقة السلاح وتهريب السجناء من محبسهم ، وهذا مشهد مختلف تماماً عن غياب الشرطة المصرية الأن ..
أنه تمهيد رسمي لأحلال ميلشيات أخوانية محل جهاز الشرطة وهى سابقة لم تحدث فى التاريخ أن تأمرت الدولة المصرية على تفكيك مؤسساتها عمداً مما يؤدى إلى فشل هذه المؤسسات ، وهو ما يفسر إصرار السلطة الحاكمة على وضع الشرطة فى مواجهة الشعب والأعتماد على الأمن فى مشاكل تحتاج حلولاً سياسية وأقتصادية وأجتماعية ..
أن الظبطيه القضائية للمواطنين تعطى غطاء شرعياً للميليشيات الأسلامية ويشرع ممارسة الأجرام علناً .. ثم من هو هذا المواطن الجسور الذى يمكنه القبض على بلطجى مسلح ب"سنجة" أو مدفع رشاش .؟؟. وهل أصبح المصريون جميعاً من فصيلة " سوبر مان " ليصدر لهم هذا القانون .؟!
للأسف لقد فقد الرئيس والحكومة خيط الأتصال مع المواطن المصرى غير المنتمى للاخوان .. والأخطر من ذلك أن المصرى العادى تراجعت ثقته بالدولة التى يفترض أنها ترتكز على مؤسسات عريقة مثل الشرطة والقضاء والجيش.. إن أخطر ما يواجه السلطة الحاكمة فى مصر عدم إدراكها أن الناس بأتت تخشى ظهور " كيانات موازية "لمؤسسات الدولة الشرعية مثل القضاء والشرطة والجيش ..
لقد تعلل كثيرون بان الخبر الذى نشرته جميع المواقع الألكترونية والصحف بدفع قطر 250 مليون دولار لحماس لتحمى الرئيس مرسي ، هو خبر مدسوس وغير صحيح .. ثم هانحن نكتشف أن الأخوان أصدروا قانون الظبطية القضائية ليفصلوا بميليشيات خاصة بهم .. من ثم أصبح المصريون يشعرون أن السلطة الحاكمة تود إقامة " دولة أخوانية موازية " تتمتع بالثقة وتنفذ الأوامر والتعليمات بعيداً عن القوانين التى كانت سائدة فى الستين عاماً السابقة ..
الأخوان يريدون التأسيس لخلافة إسلامية بقوانين "تفصيل" ليس لها علاقة بتشريعات الدولة المدنية التى عرفتها مصر طوال قرن من الزمان أو أكثر ..
يحتاج الرئيس مرسي أن يعلم أن المصرى العادى خائف من الغد .. يرعبه التفكير فى خبزه وحريته ومبدأ تداول السلطة وحقوق المرأه والأقباط ومناهج التعليم ، وما زاد على ذلك خوف المصريين على أمنهم وحياتهم خصوصاً وهم يرون الدولة فى قمتها تسلح الشعب ضد بعضه البعض بحجة مواجهة الغياب الأمنى ، مع أن الأزمة التى تلهب الشارع الآن سياسية وأقتصادية وإجتماعية كما أسلفت ..
كان المصريون يتصورون أن الأخوان يملكون برنامجاً أقتصادياً ناجحاً يخدم طموحاتهم البسيطة .. لم يستطيع الرئيس تقديم نفسه وشرح برنامجه بطريقة مقنعة .. بل أن ممارسات الدولة تركت انطباعاً بان القرار أنتقل إلى يد فريق لا يملك برنامجاً للحكم ولا تصوراً لمواجهة أعباء المرحلة الأنتقالية بالأضافة للتعامل المرتبك مع استحقاقات الملفات الموروثة ..
الأغرب أن الرئاسة لا تكترث كثيراً بالشارع الملتهب وتعزو ذلك إلى مؤامرات المعارضة والفلول وأتحاد البلطجية مع الألترس والثوار .. علقت الرئاسة مشاكل مصر كلها فى رقبة الشعب " السوبر مان " ، وقالت له أتفضل حل ، فنحن فعلنا ما نستطيع لكم ، لكن العيب فيكم لأنكم لا ترون إنجازاتنا العظيمة !!
سيادة الرئيس حتى لو كنا من فصيلة " السوبرمان " فلابد أن نخاف من الأصوات المحذرة من الأفلاس وأخرى من " العرقنة " او " الصوملة " وثالثة من التجربة الجزائرية الدامية التى تحدثت عنها فى بداية المقال ..
لقد صدعنا الأخوان بأن مصر مؤهلة لتكون – تحت قيادتهم – تركيا أخرى .. لكنهم نسوا ان لكل بلد تجربتها وتاريخها .. فالحزب الذى يرأسه اردوغان ويفوز بالأغلبية لا يكمن نجاحه فى أنه حزب إسلامى فقط ، ولكن نجاحه ارتكن إلى تجربة طويلة ومريرة من العيش فى ظل دستور علمانى وتحت رقابة لصيقة من جيش اتاتورك القوى الذى ما زال يحسب حسابه .. اردوغان نجح لأنه بنى على من تولي المسئوليه قبله سواء تانسو شيللر أو تورجوت أوزال وديمريل الذين وضعوا أساس نمو أقتصادى متواصل وأحترام لإرادة الناخبين ..
ولعلنا نتذكر أن الأخوان رغم ترحيبهم الكبير ب " أردوغان" لم يخفوا أمتعاضهم عندما تحدث عن نجاح تجربته لأعتماده نموذج الدولة المدنية والدستور العلمانى .. سيادة الرئيس صعب أن تقارن نفسك ب
"أردوغان" أو " ماهتير محمد " .. هذان السياسيان لا يتحدثان عن مؤمرات خارجية وأنقلابات و"الحارة المزنوقة " .. لقد وضع الرجلان برنامجاً ناجحاً ، والشعب المصرى ذكى جداً ، لو شعر انك تملك حلولاً لمشاكله وأزماته ، فسيلتف حولك ويبدأ العمل .. لكنك حتى الان بلا رؤية .. حتى قطر حليفتك ترفض إمدادك بالأموال مجدداً لانها لا ترى أساساً أقتصادياً تبنى عليه نهضتك المزعومة ، وأمريكا أعطت تعليمات ضمنية لصندوق النقد ليتباطأ فى إجراءات القرض ..
سيادة الرئيس .. إجراءاتك الأخيرة تؤكد أنك أما تريد أن تحكم من يوافقوك حتى لو كنت على خطأ .. أو أنك تقول للمصريين عليكم بتحمل مسئوليتكم عن الأمن والأقتصاد والعدالة الأجتماعية فأنتم الذين طالبتم بها فى 25 يناير .. ونحن يا سيادة الرئيس لسنا من نسل " سوبرمان " ولن نقبل بدولة موازية على أرضنا لها ميلشياتها وقضائها وحكومتها وبرلمانها بل وتعليمها .. لقد عشنا سبعة آلاف عام شعباً واحداً .. ولن تنجح تجارب تقسيمنا إلى شيعه وأحزاب .. سيادة الرئيس أنت رئيس لجميع المصريين فلا تساعد "رجال المقطم" على بذر الشقاق بين المصريين بدعوي الخيانة والعمالة وغيرها ..
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أوالقائمين عليه