إذا كان شارع المعز لدين الله الفاطمي قد نال شهرته , وحظي باهتمام الدولة , فامتدت له يد العناية والترميم , فأنقذت آثار مصر الإسلامية من عوادي الزمن , فإن شارع الصليبة؛ والذي يصل ما بين السيدة زينب وحي الخليفة , ينتظر نفس الاهتمام , ويتشوق إلى وسائل الدعاية والتطوير ليحتل مكانته اللائقة به كمتحف مفتوح لآثار مصر من دولة المماليك والعثمانيين. السائر في الشارع تخطف أبصاره على الدوام المساجد بمآذنها التي تشق عنان السماء ترفع راية التوحيد , وقبابها البديعة بأشكالها المختلفة , وشبابيكها الرائعة , فإذا ما نال العطش من السائر عطف على سبيل أم عباس أو سبيل قايتباي المحمودي يروي ظمأه المتزايد إلى إبداع الفنان المسلم.
وجولة شبكة الإعلام العربية "محيط" تأخذنا اليوم إلى "ثنائية" جميلة , مسجد وخانقاة للصوفية شيدهما أمير مملوكي قوي في دولة أولاد الناصر محمد بن قلاوون , يفصل بينهما شارع الصليبة , وعدد من السنوات تبلغ خمس , فقد سبق المسجد البحري أخيه القبلي في البناء , حتى إذا ما اكتمل الأخير نقل إليه الأمير شيخو العمري أرباب الصوفية وجعله قاصرا عليهم دون غيرهم.
"محيط" سوف يقصر رحلة اليوم على المسجد البحري , والذي يبلغ طول واجهته نحو 43 مترا , وفوق المدخل ترتفع المئذنة والتي تقوم على قاعدة مربعة. وكما تقول الدكتورة سعاد ماهر في موسوعتها "مساجد مصر" فأن المئذنة تتكون من ثلاث دورات , الأولي عبارة عن جزء مثمن الأضلاع , والثانية والثالثة مستديرتان , وتنتهي المئذنة بطاقية على شكل قبة.
صحن المسجد مستطيل الشكل , يبلغ طوله 16.5 مترا وعرضه 10.5 أمتار , تطوقه من جميع أربعة إيوانات , أعمقهم الإيوان الشرقي والغربي , ويتوسط الصحن فسقية للوضوء , وهي عبارة عن بناء مثمن الشكل ارتفاعه متر واحد , وبكل ضلع فتحة تنساب منها مياه يتوضأ بها المصلين .
ومن الصحن نعبر إلى الإيوان الشرقي ؛ وهو إيوان القبلة , مستطيل الشكل , عرضه أكثر من 20 مترا , وعمقه 14 مترا , ويحوي صفين من الأعمدة تقسمه إلى رواقين , في شكل هندسي بديع.
والمحراب تعلوه قمرية مستديرة مغطاة بالجص المخرم والزجاج المعشق , ويكتنف جانبيه عمودين , يعلوهما تاج كورنثي. وعلى يمين المحراب يوجد المنبر المصنوع من الحجر. ويوجد بإيوان القبلة دكة مبلغ الصلاة , وهي أيضا من الحجر , وترتفع على أربعة جدران , بطول 4.5 أمتار , وعرض 2.15 متر.
ينافس الإيوان الغربي نظيره الشرقي في العرض والعمق , لكنه يقل عنه بعض الشئ. فيما يبدو الإيوانين الشرقي والغربي أقل مساحة وعمقا.
من هو الأمير شيخو؟
لكي نتعرف على صاحب هذا المسجد البديع , يجب علينا أولا أن نقلب في صفحات التاريخ المملوكي , والذي يخبرنا بأن المماليك لم يؤمنوا أبدأ بمبدأ وراثة العرش , وإنما شعر كل أمير بأنه هو الأحق والأجدر بكرسي السلطنة في القلعة , ولذلك تنافسوا عليه , بيد أنه في حالة وصول الأمراء إلى مرحلة "توازن القوى" ؛ فلا يستطيع أحد منهم القضاء على خصمه الذي يدانيه في القوة والسلطنة يلجئون إلى إتباع نموذج السلطان/ الطفل , فيما يديرون هم من وراء الستار أمور الدولة , ريثما تسنح لهم الفرصة بالاقتتال , ليظفر الأقوى بالعرش.
والصراع بين أمراء المماليك لم يكن بدعة في نظام دولتهم , وإنما كان هو القانون الذي ساروا عليه منذ قتلهم ل "توران شاة" ابن نجم الدين أيوب , وترسخ مبدأ "الحكم لمن غلب" مع مقتل الملك قطز على يد رفيقه بيبرس , ومن بعد بيبرس جاء المنصور قلاوون؛ الذي خلع ابن أستاذه بدعوى صغر سنه.
كانت فترة حكم أسرة قلاوون دليلا على عدم إيمان المماليك بمبدأ وراثة العرش , فهذه الأسرة التي لم يبرز منها سلاطين أقوياء باستثناء مؤسسها المنصور قلاوون وابنه الأشرف خليل (فاتح عكا 1291 م), والناصر محمد (الذي تولي السلطنة ثلاث مرات , واستدامت فترة حكمه مجتمعة ما يربو عن الأربعين عاما) , جاء استمرارها نتيجة لأن الصراع بين الأمراء الكبار لم يجد من يحسمه.
وظهر هذا جليا بعد وفاة الناصر محمد , إذ تعاقب على عرش السلطنة ثمانية من أبنائه على مدي 21 عاما , مما يكشف حجم الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي , والمدهش أن حكم الكثير منهم انتهي بالقتل أو السجن على أيدي الأمراء الذين صاروا أصحاب السلطة الفعلية , والآمر الناهي في أمور البلاد والعباد.
وفي هذه الفترة المضطربة بزغ ثلاثة أمراء أقوياء , هم الأمير صرغتمش (صاحب الجامع المشهور الذي يقع بجوار جامع أحمد بن طولون ) والأمير طاز (صاحب القصر الشهير بشارع الصليبة), وثالثهما الأمير شيخو العمري.
كان شيخو من مماليك الناصر محمد , وحظي عند الملك المظفر حاجي بن محمد بن قلاوون بمكانة عالية , وزادت وجاهته , حتى كان يشفع في الأمراء المغضوب عليهم , ويخرجهم من ظلمات السجون إلى نعيم رضا السلطان.
ولأن الأيام دول , ولا تصفو أبدا على حال , فقد انتهت سلطنة المظفر حاجي , وجاءت أيام سلطنة الناصر حسن , فاستبد به الأمراء ثلاث سنين , فثار على وضعه الذليل , وقبض بعض الأمراء الذين ينازعونه سلطنه , ومنهم شيخو الذي قال في تأثر لنائب دمشق لحظة وضع الأغلال في يديه " والله يا أمير ما أعرف لي ذنباً غير أني كنت جسرا بينهم، أمنع بعضهم من الوصول إلى بعض".
وفي سجن الإسكندرية , عاني شيخو الظلمة والوحشة عدة شهور إلى أن انقضت الأيام العصيبة بخلع الناصر حسن , ليتولي من بعده أمور البلاد أخيه الملك الصالح , وفرح أهل الإسكندرية بإطلاق سراح شيخو , وكذلك أهل القاهرة الذين استقبلوه بالأفراح والزينات , وغطت المراكب صفحة النيل فرحا بمقدمه , وزين الأمراء شارع الصليبة وأشُعلت الشموع , وخرجت مشايخ الصوفية إلى لقائه , فسار في موكب مهيب حتى طلع القلعة وقبل الأرض بين يدي السلطان الملك الصالح , فأقبل عليه السلطان وخلع عليه ثياب السجن وألبسه تشريفا جليلا.
وكان للأمير شيخو أن يخدم سلطانه الذي أخرجه من السجن , فاجتهد في قتال الأمراء العصاة , فسار على رأس حملة إلى الشام يتعقب بها الخارجين على حكم الملك الصالح , وحز رؤوسهم , وعاد إلى مصر , ولكن ليسافر جنوبا في الصعيد لقتال العربان الذين رفعوا راية العصيان منذ فترة , وقطعوا الطريق برا وبحرا , واستعمل شيخو معهم الشدة "وأمسك عدَة منهم ووسطهم حتى سكنت الفتنة بأرض مصر وذلك في آخر سنة 754 هجريا" كما يقول المؤرخ المقريزي في كتابه "الخطط والآثار".
ولم تكن لأيام الصفاء أن تدوم طويلا بين شيخو والملك الصالح , إذ مال السلطان عنه وعن رفيقه الأمير صرغتمش , ونال الحظوة منافسهما اللدود الأمير طاز . وبلغ شيخو أن السلطان دبر مؤامرة مع أخوة طاز للقبض عليه وعلى صرغتمش , فأسرعا وجمعا العسكر وقبض على السلطان , فكانت مدة سلطنة صالح ثلاث سنين وثلاثة شهور وثلاثة أيام!
واتفق رأي شيخو وسائر الأمراء على إعادة السلطان حسن إلى كرسي السلطنة بعدما بلغهم حرصه على الصلوات الخمس والإقبال على التعلم طوال مدة محبسه. وأتبع شيخو ذلك بإخراج الأمير طاز من مصر إلى حلب نائبا بها ومعه أخوته.
الآن صارت الأمور كلها راجعة إلي شيخو . يقول المقريزي "وزادت عظمته وكثرت أمواله وأملاكه ومستأجراته حتى كاد يكاثر أمواج البحر بما ملك وقيل له قارون عصره وعزيز مصر" , وجعل كل الأمراء من خدمه , حتى قيل أنه كان يدخل كل يوم ديوانه مبلغ 200 ألف درهم , "وهذا شيء لم يسمع بمثله في الدولة التركية".
وجاءت لحظة النهاية لقارون المماليك , لكن لم تهتز الأرض من تحته أو تنشق وتبتلع كنوزه كما فعلت مع قارون موسي , وإنما سارت الأيام سيرها الطبيعي , حتى كان الثامن شعبان سنة 758 هجريا , وجلس شيخو في دار العدل بالقلعة , يقف بين يديه أصحاب المظالم والشكاوي , ثم تقدم منه أمير مملوكي , لا يبدو على وجهه ما يخفي في صدره , وبعد قليل من الحديث , هوي إليه بالسيف , فاتقي شيخو الضربة بيده , فأصابها السيف وكذلك جرح وجهه , فُحمل إلى بيته عليلا. وقًبض على الأمير القاتل , وعرف الناس أن اسمه "باي" , وحرص كل الأمراء الأقوياء على التنصل من الجريمة , حتى السلطان حسن نفسه زار شيخو العليل أكثر من مرة , وأراح "باي" الجميع وأقر بأنه جاء إلى شيخو ليقضي له أمرا وينقله من مكان عمله إلى وظيفة أخري أكثر سلطة ونفوذا فلم يهتم به , فعزم على قتله. وكي يبرهن الأمراء على براءتهم قرروا سجن باي ثم قلعوا عينيه وطافوا به شوارع القاهرة.
وبقي شيخو عليلا من تلك الضربة إلى أن مات ليلة الجمعة 16 ذو القعدة 758 هجريا , ودفن في الخانقاة , وبقيت كتب التاريخ وأحجار مسجداه يحكيان سيرته.