يتساءل الناس دائماً عن أسباب المواقف ويتساءلون أكثر اذا ما تغيرات هذه المواقف ..وقد يتصور البعض انه من العيب أن يتحول المرء عن رأيه ويتهمونه بالتردد وعدم الثبات على المبدأ ..ولكن الحقيقة على خلاف ذلك ولقد علمنا الإسلام لزوم الحق والتحول اليه حيث يكون ولا حرج في ذلك البتة.. ومن الملاحظ أن الخلفاء الراشدين قد عدلوا مواقفهم بعد خوض تجارب معينة سواء في مجال الفتوحات وإدارة الصراع أو في مجال المعالجات الاقتصادية للأزمات والمجاعات وغير ذلك بهدف توعية من بعدهم فمنهم من قال (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا وكذا)
ولقد أسس الفقهاء للعديد من القواعد الفقهية التي تؤكد على تغير الأحكام بتغير الأزمان والعادات فالحكم على الشئ فرع عن تصوره فمتى تغير الواقع تغير الحكم بشأنه ..ومن يتابع فتاوى الأئمة الأعلام يجد ان هناك تغيرات طرأت بتغير الزمان والمكان ولم يمنعهم شيئ من أن يقولوا بالرأي الجديد في الواقع الجديد ولهذا يقول الإمام النووي رحمه الله :
(المسلم الصادق يغير موقفه في اليوم أربعين مرة لأنه يدور مع الحق حيث دار أما المرائي فيثبت على حاله أربعين سنة مخافة قول الناس فيه) .
فعلينا نحن أبناء التيار الإسلامي أن نقَوَم مسيرتنا كل مرحلة كي نضع خلاصة مستفادة نستعين بها في رسم الرؤية المستقبليه لحركتنا ..ومن هذا المنطلق نطرح في عجالة محاور الدراسة التي قمنا بها وصولاً الى تكوين رؤية جديدة للواقع الجديد كي يتعرف الجميع على الخطوات التي اعتمدنها للمرحلة المقبلة .
ونبدأ بالحديث عن الموقف الدولي:
وفي هذا المجال قمنا بدراسة مجموعة من العناصر الهامة نوجزها فيما يلي:
1- الإنفراد الأمريكي بقيادة العالم وتعاظم دورها بعد أن سقط الاتحاد السوفيتي فانتهى عصر القطبين الكبيرين مما أسهم في زيادة الضغوط على التيار الاسلامي وتقليص مساحة الحركة أمامه .
2- ضعف الأقطاب الأخرى حيث بدت ضئيلة الإمكانات والتأثير وليس في المستقبل المنظور أي ظهور متوقع لها يحقق التوازن بل أننا رأينا كيف تستأنس الولاياتالمتحدة هذه الأقطاب الصغيرة تارة بالمال وتارة بالضغوط السياسية فضلاً عن إستهدافها للحركات الإسلامية ووضعها في بؤرة اهتمامها .
3- ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا التي يكون فيها الإسلام طرفاً فلم نشعر يوماً بالإنصاف من جانب الأممالمتحدة ومجلس الأمن حيث برزت الهيمنة الأمريكية على القرارات الصادرة .
4- حشد الجهود وإعلان الحرب على ما يسمى بالإرهاب لم يكن المقصود سوى الإسلام والمسلمين ولقد وجدت هذه الفكرة رواجاً في أوساط المتحالفين مما أعطى فرصة لتقوية التحالف واستمرار الضغط والحصار ضد الحركة الإسلامية على مستوى العالم .
عدم إمكان قيام الكيان الذي يعبر عن صورة المثلى للإسلام ويعطي الانطباع المتميز الذي يحقق قول الله تعالى (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ )
وهو مايجعلنا نصُلح من أنفسنا لتحيق ذلك الهدف المأمول.
6- إنتشار موجة العولمة وظهور نجاح مبدئي لمثلث الشر في إقتحام المنطقة ووضع أقدامه بهدف إبتلاع خيرات بلادنا متمثلا في (صندوق النقد الدولي- البنك الدولي - منظمة التجارة العالمية ) وهو ما يضع أعباء جديدة على أكتاف الحركة الإسلامية التي تعتبر المدافع الأول عن مصالح الجماهير.
وهكذا كانت دراستنا للموقف الدولي الذي بدأ متغيراً عن ذي قبل حيث أصبحت حركة الجماعات والتيارات الإسلامية مقيدة إلى حد كبير مما يجعل من الأهمية إعادة النظر .
ورسم ماهو جديد في تعاملنا مع الواقع خاصة أن الواقع المحلي لاينفصل أبداً عن الواقع الدولي بل هو جزء منه ويتأثر به سلباً وإيجاباً .
وتناولنا في العنصر الثاني موقف الحكومات المسيطرة على زمام الأمور فوجدنا الآتي:
1- إنها حكومات مستبدة تتظاهر بأنها ديموقراطية ولكنها تعتمد الأساليب القمعية في قهر الشعوب وتزداد يوماً بعد يوم في جبروتها مستغلة حالة الصراع لدائر مع التيار الإسلامي على المستوى الدولي.
2- جهل الأنظمة بمصالح الأمة وتقديم مصلحة البقاء في الحكم على مصالح الجماهير فلم تفكر أبداً في احتواء الأزمات الداخلية بل استغلتها في تحقيق مآربها ولم تعبأ بمزيد من القتلى والجرحى في صفوف الشرطة أو أبناء الشعب المعارضين لسياسات الأنظمة.
3- إستغلت الحكومات المستبدة حالة الصراع المسلح في تدشين مجموعة من القوانين المقيدة للحريات وتشويه صورة الإسلاميين و التشكيك في نواياهم وأهدافهم النبيلة .
4- أدي استمرار الضغوط الداخلية على الأنظمة إلى زيادة الارتماء في أحضان الغرب والاستجابة لطلباته وتقديم التنازلات التي تنال من الشخصية الإسلامية وتصب في صالح المشروع الأمريكي الصهيوني.
لقد كانت هذه هي العناصر التي نظرنا فيها بشأن موقف الحكومات حيث بات الصراع الداخلي بالصورة التي كانت دائرة جديراً بإعادة النظر حتى لاتؤدي الأمور إلى غير مراد الإسلامية وتفوت المصالح المرجوة ويكسب أعداء الإسلام ...
ولقد تناولنا في العنصر الثالث موقف الشعوب المسلمة وذلك على النحو التالي :
1- عدم القدرة على حشد الشعوب لخوض غمار صراع ضد نظام يدٌعي الإسلام ويزعم الوطنية إذا ما قورن بالقدرة على حشد في مواجهة عدو أجنبي.
2- عدم تفهم الجماهير لقضايا الحاكمية ومشروعية عزل الحكام الممتنعين عن إقامة شرع الله ادى إلى تفشي موجة من الاستغراب والاستنكار فلم تقف إلى جوار المواقف الصحيحة ولم تنصر أصحاب المبادئ السامية .
3- تعرضت الشعوب إلى حملة إعلامية حكومية لعبت فيها وسائل الإعلام بمشاعر المواطنين وكسبت الجولة مستغلة أخطاء المجاهدين في التطبيق فصارت حركة التيار الإسلامي بلا غطاء إعلامي مقنع لعامة الناس .
4- تفشي حالة الفقر في قطاع كبير من المواطنين جعلهم يلهثون وراء لقمة العيش وليس لديهم وقت فراغ ينظرون فيه إلى ما يجري حولهم من صراع .
كانت هذه أهم عناصر النظر في الموقف الشعبي الذي نستطيع أن نؤكد أنه كان سلبياً بل كان أحياناً يقف في الصف الحكومي من آثار التزييف الإعلامي للحقائق وعدم وصول رؤية التيار وأهدافه إلى عقول وقلوب الجماهير .
أما عن العنصر الرابع من هذه الدراسة فيتمثل في موقف المعارضة ووجدناه يتلخص في الآتي:
1- النظر إلى الجماعات الإسلامية باعتبارها بديلاً عنها ومنافساً قوياً على الساحة جعل بعض القوى تغض الطرف عن الممارسات الحكومية القائمة والتجاوزات الحادثة خلال فترات التسعينات.
2- تصورت بعض القوى السياسية أن التحالف مع الحكومة سيحقق بعض المكاسب لها ويعطيها المزيد من الامتيازات والمساحات والنمو على حساب التيار الإسلامي.
3- قامت بعض القوى الساسية بالهجوم الإعلامي على التيار الإسلامي بشكل شرس أظهر الجماعات في موقع المخطئ في حق الحكومات المستبدة فضاعت الحقيقة بين السطور .
وهكذا رأينا الموقف السلبي لمعظم قوى المعارضة ولم نشهد منهم مواقف مؤثرة لصالح احتواء الصراع ولا نستطيع أن ننكر وجود بعض الشخصيات الوطنية والأقلام الشريفة الواعية التي طالبت بحل المشكلة في اطار تدخل سياسي كي تخرج البلاد من أزمتها ولكن النظام لم يستجيب لذلك بل تحرك لممارسة الضغوط حتى يتراجع أصحاب المواقف الجيدة وواصل مسيرة المواجهة على المستوى المحلى والدولي أيضاً .
وإذا تحدثنا عن العنصر الخامس وهو موقف الجماعات الإسلامية نسطيع أن نسجل هذه الملاحظات :
1- عدم قدرة الفصائل على حسم النزاع و إقامة الشريعة الإسلامية على النحو الذي يريده الجميع دون دخول في صراع دموي طويل المدى..
2- عدم وجود استراتيجية تجمع بين معظم الجماعات يكون لكل فصيل فيها دوره أنشاء معارك جانبية وتصادماً حركياً ترتب عليه اختلاف القلوب وضعف الانجازات ...
3- إستمرار أخطاء الممارسات أضعف من شعبية التيار الإسلامي عند القاعدة الشعبية ففقدت أهم عناصر استمرار المقاومة ..
4- تعرض الجماعات لاختراقات أمنية كبيرة أصبحت تمثل خطراً على الهياكل التنظمية وتحرم التنظيمات من التحضير الطويل المدى فلم تكن هناك فرصة للحشد والتجميع مما شل حركة التيار واجهض مساعيه للتغير .
5- ضعف الأداء الإعلامي ترتب عليه غياب الغطاء المقنع لاستمرار الصراع فضلاً عن القصور في معالجة الاخطاء التي وقعت بشكل يخفف من حدة السلبيات .
هذه هي مجمل الملاحظات على التيار الإسلامي الذي لم تكن له القدرة على إنهاء الصراع أو الحشد الامن أو المعالجة الموضوعية لاستمرار القتال وعدم وجود سقف مناسب للمطالب يكسب به مساحة من التأييد الشعبي.
وبعد أن انتهينا من دراسة هذه العناصر الخمسة اتضحت لنا خلاصة إجمالية نعرضها في النقاط التالية :
1- الخناق على مصادر تمويله وعلى كوادره وأنشطته المختلفة والأمر يحتاج إلى مزيد من الوقت حتى يتحقق التغير في هيكلة النظام الدولي وتظهر الأقطاب التي تكون على حساب نفوذ الولاياتالمتحدة .
2- إن الحكومات مستفيدة من استمرار الصراع الدائر وتوظفه لصالح تكريس الاستبداد وتزداد اقتراباً من الغرب وتقدم المزيد من التنازلات ولا تعبأ بالخسائر التي تلحق بالمواطنين أو قوات الأمن.
3- إن الشعوب في حاله خمول ولا تتفهم طبيعة الصراع ولا تساند الحركة بشكل يحقق لها النمو والاستمرار مما جعل أولوية دعوة الجماهير تتقدم على غيرها .
4- تأثر حركة الدعوة الى الله حيث تم تقييد الأنشطة ومنع الوجود في كثير من القطاعات مما شل حركة الدعوة لصالح تيارات أخرى أخذت قسطاً أكبر من الحرية .
5- إمتلاء السجون والمعتقلات بالجماعات الإسلامية من شتى الاتجاهات وتعرضهم للإيذاء البدني الذي يستهدف عقيدتهم وتفكيك روابطهم الأسرية وتشريد الأبناء.
6- تنامي المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة وازدياد النفوذ الإسرائيلي واستمرار الاعتداءات على الشعب الفلسطيني دون رد فعل عربي وإسلامي يحقق الردع والحماية .
وبناء على ما تقدم من نتائج ودراسة تفصيلية للاختيارات المختلفة ومراعاة المصالح الشرعية وترتيب الأولويات والنظر في المآلات والسننٌ الكٌونية والقدرات والامكانات وجدنا أنه لابد من إعادة النظر بطرح بديل اكثر فاعلية يفي بالغرض ويتلافى السلبيات التي تضخمت ويستفيد من المساحة المشروعة ويحفظ الثوابت ويحتفظ بحالة القبول في الشارع السياسي وكذا نقاط التفوق التي تمس القلوب عند الجماهير.
فرؤيتنا الجديدية ليست من باب الرخصة أو تقديم التنازلات لأحد بل هي ما نراه مناسباً لتيار يسعى الى ارضاء ربه بطريقة أقرب إلى تحقيق الأهداف من غيرها ..وتتضمن النقاط الآتية :
1- دعم المقاومة في المناطق المحتلة وبذل المزيد من التضحيات من أجل استعادة الأرض السلبية في فلسطين وأفغانستان و العراق وغيرها من بلاد الإسلام لأن التجارب أثبتت أن خيار المقاومة هو الخيار الأقوى في دفع العدو المعتدي وإقامة شرع الله وإعلاء كلمته .
2- وقف الأعمال القتالية في المجتمعات الإسلامية والعمل داخل المساحة الآمنة التي تحقق الوصول بالدعوة إلى جماهير العريضة المتشوقة إلى معرفة دين ربها.
3- الإبقاء على حالة الخلاف العقائدي مع الأنظمة لكونها تستبعد الشريعة الإسلامية ولا تسمح للتيار الإسلامي بالوجود على الساحة وتفتح أبوابها أمام الفساد الوافد من الخارج .
4- إعتماد رؤية إصلاحية نتغلب فيها على نقاط ومرتكزات القوة في الأنظمة المستبدة ونمهد الطريق أمام الإدارة الجيدة للصراع السياسي.
5- قبول التعاون مع القوى السياسية المعارضة لتحقيق قدر أكبر من الحشد لصالح قضايا حقوق الانسان ومصالح البلاد المتفق عليها .
6- الدعوة إلى وقف النزاعات داخل التيار الإسلامي بتقديم مقترح للجبهة الإسلامية بما يتضمن من صور تعاون متعددة وطرق حل الخلافات ومرجعية من أهل العلم تحقيقاً للضبط الشرعي لمسيرة العمل الإسلامي .
7- الاستعداد لقبول النصائح والاستجابة لمعطيات الواقع وتطوير الأداء الى الافضل .
8- الإسهام في رفع المعاناة عن كاهل المواطنين والعمل على دعمهم في القضايا التي تمس قوتهم الضروري وحقهم في ممارسة حياة كريمة .
9- إعتماد رؤية إعلامية تستفيد من وسائل الإعلام وتطرح المشكلات وحلولها على الكافة وتحظى بالمصداقية والموضوعية عند الجماهير .
وختاماً فاننا نكون قد أوضحنا الأسباب الداعية إلى الانتقال لرؤيتنا الجديدة التي عرضنها تحت مسمى البديل الثالث كي تكون بين يدي أصحاب الشأن ينظرون فيها إلى ما ينفع ويصوبون ما شابها من أخطاء.
ولا شك أن التيار الإسلامي يطمح أن يكون له تأثير في الواقع القائم ولذا فإنه ينبغي أن يراعي هذه الملاحظات:
1- أن يبدأ بإصلاح النفس والتجرد الله تعالى والتشمير عن ساعد الجد وإمتلاك العزيمة القوية وكسب رضا الله تعالى واجتناب ما يسخطه والاستعداد لتحمل المشاق في سبيل دعوته ،يبذل ولا يبخل ،يضحي ولا يضن بجهده من أجل إعلاء كلمة الله تعالى .
2- معرفة أحوال المجتمع من خلال دراسة دقيقة وتوصيف لما يشتمل عليه من تصنيفات وتركيبات اجتماعية وكذا المشكلات الأساسية التي يعاني منها في شتى المجالات .
3- أن يتعرف على إمكانيات فيحسن إستغلالها ويوظفها في الإتجاه الصحيح والأكثر تأثيراً ويعمل على رفع قدراته بالتاهيل من ناحية وصور التعاون مع الآخرين من ناحية أخرى.
4- دراسة أوضاع الأنظمة الحاكمة ومدى مخالفتها للشرع ومستوى الأداء وتحديد نقاط القوة والضعف فيها وكيفية الاستفادة من القوانين الوضعية والتعرف على مساحات العمل المشروعة التي تكفل له التحرك الآمن.
5- الاختيار الدقيق بين الوسائل التي تناسب كل قطر وتخصيص وتوزيع الأعمال على القائمين بالأنشطة ووضع جدول زمني لإنجاز المهام .
6- إجراء تقويم دوري للأنشطة المختلفة وتطوير الأداء وفق ذلك كي نتلافى السلبيات وندعم الإيجابيات .
7- الالتحام بالجماهير لحل مشكلاتهم والعناية بقضاياهم هو طريق مشروع لكسب ثقتهم والارتقاء بحالة المجتمع إلى الدور المطلوب.
8- أن نتوقف عن كافة أنواع النزاع الداخلي الذي يظهر في صورة التراشق الإعلامي لكونه يفقد الثقة بالتيار كله ويعود بالضرر العام على الدعوة الى الله تعالى.
9- إستعمال التراث الفقهي الككبير الذي تركه سلفنا لمزيد من التوسعة عند إدارة الصراع مع الضبط الشرعي من جانب أهل العلم المعاصرين حتي تسير الحركة على الطريق الصحيح نحو أهدافها السامية التي نأمل أن تتحقق قريباً حيث فيها سعادة الدنيا والنجاة في الآخرة .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أو القائمين عليه