من يتأمل الشهور القليلة التي مرت في ظل حكم الرئيس مرسي يفاجأ بقدر الحروب الضارية التي خاضها الرجل في كل الاتجاهات خلال شهور قليلة، حروب تبدأ من المؤسسات الحاكمة وتصل إلى طوائف الفقراء العاطلين الذين انتخبوه أملاً في العمل والاستقرار والوصول إلى عالم أفضل، مروراً بالقانون والدستور والجهاز الإداري للدولة والشركاء الأساسيين معه في الثورة والقوى السياسية الجديدة والتقليدية والتي لا غنى عنها في ظل أنظمة الحكم الحديثة، وكأنه ليس رئيساً منتخباً وفقاً لقواعد دستورية وقانونية معترف بها من قبله قبل غيره، ولكن كرئيس جاء على إثر انقلاب عسكري على السلطة الحاكمة التي لا يعترف بأدواتها ولا رموزها ولامؤسساتها أو قوانينها أو دستورها. بالتأكيد ما حدث في مصر غير ذلك، إذ أنه رئيس أقسم على احترام القانون والدستور والمؤسسات، ولعلنا جميعاً نتذكر عدد المرات التي أقسم فيها، وعدد الأماكن التي خب بها وجدد قسمه على أرضها، نتذكر كلماته العاطفية حين كرر فيها شكره لسائقي الميركوباص والتوك توك وعاملي التراحيل وراكبي المترو وغيرهم، واعداً إياهم بمستقبل باهر في عضون أيام وليس شهور، أقسم للجميع في برنامجه الانتخابي بالأمن والأمان والنظافة وتحسين الدخل وخلق فرص للعمل، ووعدالجميع بالاستقرار والحياة الكريمة وتبني كل شعارات ومباديء الثورة
لكن طوال الأشهر التي انقضت من حكمه كان خط سيره في نقيض ذلك، فالأزمات التي اختلقها منذ بداية حكمه لم تكن على أجند برنامجه الانتخابي ولا أجندة أي من معارضيه، فالجميع كان قد ارتضى بتوازن السلطات الموزع ما بين السلطة النفيذية التي يرأسها بحكم منصبه، والسلطة التشريعية التي ظلت باقية في يد المجلس الأعلى للقوات المسلحة بحكم إعلان دستوري صادر في أعقاب حل البرلمان قضائياً، والسلطة القضائية التي تمثلت في استقلالية القضاء، والإعلام الذي ظل الجميع يؤمن بأنه السلطة الرابعة في الدول المدنية الحديثة
لكن هذا التوازن تم إخلاله عن عمد، فلم تمض أيام على بداية حكم الرئيس حتى فوجيء الجميع بإطاحته برئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة ونائبه، وإعادة تشكيله للمجلس، وضم السلطة التشريعية إليه هو، وليس إلى أي مؤسسة أخرى، وذلك تحت غطاء أنه الجهة الوحيدة المنتخبة، لتصبح السلطة التنفيذية والتشريعية في يده وحده، ثم ما لبس أن دخل في معركة مع القضاء، ساعياً إلى ضمه لسلطته التنفيذيه عبر وزير العدل، ومن ثم أطاح بالنئب العام ويؤسس في إعلانه الدستوري لأن يكون النائب العام بالتعيين من قبل رئيس الدولة، مما يجعله موظفاً لديه وليس محامياً للشعب
ولم تنته هذه المعركة حتى دخل في معركة مع الإعلام أو القنوات التليفزيونية عبر اليد اليمني للجماعة، فضلاً عن أن مجلس الشورى المعطل بحكم أنه لم يكن قد اكتمل تشكيله قام بإعادة هيكلة رؤساء ومجلس إدارات الصحف القومية، وبدأ في اتخاذ إجراءات لمعاقبة الصحف والقنوات التليفزيونة كما حدث مع جريدة الدستور وقناتي دريم والفراعين، هكذا فتح النار على كل المؤسسات، ودخل في حروب سريعة الانتشار مع كل رموزها، لتصبح الدولة ككل مختطفة في يد تيار أو جماعة يقودها الرئيس ظاهرياً بحكم منصبه، كما لو أن جماعته أو فيلقه هبط فجأة من السماء وقام في غفلة من الزمن باحتلال البلاد.
لعل ترتيب المعارك التي خاضها الرئيس تذكرنا بترتيب المعارك التي خاضتها الحملة الفرنسية على مصر، فالأمر بدأ باحتلال الأسكندرية، وبعدها بأيام رشيد، ثم القاهرة، ثم الصعيد، ثم محاولته فتح عكا في فلسطين، يذكرنا بسعي نابليون إلى رسم حالة من الديمقراطية التي جاء لينقلها إلينا من بلاده، فالتاريخ يذكر لنا أنه أول من أقام مجلس شورى في مصر، لكن نابليون لم يخجل من إعدام عمر مكرم حين علم بأنه ليس موالياً له.
يمكن القول أن ما فعله الدكتور مرسي كان من الممكن أن يكون مقبولاً لو أنه تم في أعقاب انقلاب عسكري عضده توافق شعبي ، لكن الإشكالية أنه جاء بعد ثورة وفترة انتقالية وعبر صناديق الانتخاب وبطرق قانونية ودستورية أقسم عليها، الإشكالية أن التوافق الشعبي حول ما قام به الرئيس حتى الآن موجوداً، حتى وإن تم تغليف حملاته العسكرية أو السياسية على مختلف المؤسسات المصرية باسم الاستقرار أو جلب
فقد فوجيء المواطن البسيط الذي أمل فيه خيراً أنه في مواجهة نيران الرئيس وجماعته، وأن الضرائب وغلاء السعار لم تستهدف سوى تلك الطوائف التي ذكرها في خطابها العاطفي الأول، فوجيء الجميع بارتفاع أسعار سلع لم يكن يتوقعون ارتفاع أسعارها ، بدءاً من اسطوانات الغاز وصولاً إلى الكهرباء والمياه والمواد الغذائية، وليس انتهاء بتعويم العملة التي تعني الضريبة العامة على الكل بدءاً من الملياردير حتى العاطل أو العاجز أو المحروم منهم، وكأن المواطن أصبح عدواً مستهدفاً وليس شخصاً حالماً بالرخاء والتنمية والاستقرار، وهو ما أكد في ذهنه أن التيار الذي وصل إلى السلطة ليس سوى نوع من الاحتلال الجديد للبلاد.
لعل التشابه بين ما تفعله السلطة الجديدة في مصر وبين ما يفعله أي احتلال في أي مكان كبير إلى بعيد، بدءاً من اقتناص السلطة بالقوة، مروراً بالإطاحة بكل المؤسسات الحاكمة، وزرع رجال سلطة الاحتلال على رأسها، وبث مخبريه بين أعضائها، لتكوين جبهة مؤيدة له في كل منها، بما يبرر أمام العالم وربما أمام المحتل نفسه أنه مقبول شعبياً، وأن هناك من يرغب في وجوده
ويزداد التشابه حين نتأمل الخطاب المسوق لوجود هذا الاحتلال، فالفرنسيون حين جاءوا إلى مصر طبعوا منشورات تؤكد على أنهم جاءوالمحاربة الفساد وتحرير المصريين من العثمانين، وأنهم مع الإسلام وضد الحكام المماليك، أما الإنجليز فقد جاءوا بدافع حماية السلطة الشرعية الممثلة في الخديوي توفيق، وأنهم مع الخلافة والإسلام والرغبة في دفع مصر للحاق بركب العالم المتقدم، أما الألمان فحين فكروا في دخول مصر أثناء الحرب العالمية الثانية ألقوا من طائراتهم على مدينة الأسكندرية مطبوعات تقول أن هتلر مسلم، وأن اسمه محمد هتلر، وأنهم جاءوا لتخليص مصر من الإنجليز، هكذا يصبح الإسلام والاستقرار أو التحرير بمثابة كلمات السحر التي يحملها أي احتلال كمسوغ لوجوده، وبعدها تتشابه الأدوات والأفعال والأطماع
ودائماً ما تقوم النخبة التي تعارض وجود هذا المحتل بتكييف أوضاعها معه، أما المواطن الذي حلم بالخلاص على يد الوافد الجديد فإنه الوحيد الذي يدفع الضريبة الكاملة لهذا الاحتلال، فلا أحد ينسى أن الشعب المصري (خارج القاهرة والأسكندرية) كان شعباً من الحفاة في ظل الاحتلال الإنجليزي، وأن التعليم كان مقصوراً على الأغنياء، وأن أول ما يسعى إليه الفرنسيون كان القضاء على القوة العسكرية الممثلة في المماليك، أما انجلترا فلم تسمح بزيادة تعداد الجيش المصري إلا مع معاهدة 36 حيث إرهاصات الحرب العالمية الثانية كانت تضرب أوربا، وكان الإنجليز بحاجة لتأمين الجانب المصري، ولعل المؤرخون يذكرون أن الذين الجيش بعد هذه المعاهدة هم الذين قاموا بثورة يوليو، والشاهد هنا أن الاحتلال دائماً ما يضعف قوات الجيش في الدولة المحتلة لصالح بناء أوشلاقاته الخاصة، وأن الدخلية على يديه تصبح هيئة مدنية تختص بتأمين المنشآت، في حين يقع العبء الأمني الحقيقي على عاتق أجهزة ذات سلطات إلهية تحاسب الناس على نياتهم كما كان يفعل البوليس السياسي.
في ظل سعى السلطة الجديدة في مصر إلى بناء قوة أمنية خاصة بها فإننا نسمع عن لقاءات مصرية إيرانية لتكوين جهاز غير معلوم الصفة، لكن مهمته تكمن في السيطرة على الأجهزة الأمنية القديمة، وكأنها أجهزة خائنة أو معادية، كما نرى السعي الدؤوب لرضى الأمريكان، نرى الزيارات التي تعقبها الحروب على المؤسسات، وكأن مصر لم تعد بلداً قام بثورة على حاكم كان متهماً بولائه للغرب، بقدر ما أصبحت ولاية غربية في الشرق، أو على الأقل أصبحت بلداً محتلاً من قبل الأمريكان والغرب ولكن تحكمه سلطة محلية على نحو ما كان المماليك يحكمون مصر للعثمانيين، وكأن رئيسها ليس منتخباً من قبل شعبه وبقانون ودستور وطنه وبإشراف مؤسسات وأبناء وطنه لكنه معين من قبل جيش الاحتلال، وأن ما يجري من استفتاءات وانتخابات ليس إلا نوع الشو الدعائي الساعي إلى إضفاء نوع من الشرعية عليه، كما تفعل دائماً السلطات المعينة من قبل الاحتلال في بلادها، ولنا أن نراجع ما حدث من شوهات عراقية في ظلال الاحتلال الأمريكي لها، المدهش أن الجميع يعلم ذلك، لكنهم يستمرون في التعامل معه بنفس الجدية التي يتعاملون بها مع سلطات بلادهم، ربما لأت الاحتلال وسلطاته الجديدة يعرفون كيف يكونون لأنفسهم جماعات تمثيلية في كل قطاع، كي يضفوا ما تفعله السلطة نوعاً الشرعية، ويدفعوا بالأخرين للاحتذاء بهم.
يبقى السؤال حول مدى إيمان العالم بأهمية العقود والمعاهدات التي توقعها السلطات المحلية الواقعة تحت الاحتلال، فقهاء القانون يقولون أن معاهدات مثل هذه الدول لا تسري في حال قيام ثورة تطهر البلاد من الاحتلال، يقولون أيضاً أنه في حال ثبات فساد حاكم أو سقوط نظام فإن المعاهدات والعقود يعاد النظر فيها، وإما أن تسقط أو أن تجدد أو أن يتم توفيق أوضاعها، اي أن صلاحيتها لا تمتد لأكثر من بقاء السلطة التي وقعتها في الحكم، فمع زوالها ومجيء حكم وطني تتم إعادة النظر في كل شيء، ويؤخذ في عين الاعتبار دائماً مصلحة الدولة التي كانت منقوصة الأهلية، وهو الأمر الذي يجعل البلدان الكبرى ذات المصالح الكبري، تسعى إلا تخفيف قبضتها وصنع أشكال جديدة من الاحتلال، أشكال شبه وطنية، ذات صيغة مستقلة في ظاهرها، أشكال من السلطات القائمة على الشوهات الانتخابية الحرة، بما يضمن التحايل على القانون الدولي، ويوحي للجميع بأن تلك العهود والعقود ذات صيغة شرعية، لكن كل ذلك يسقط بخروج الجماهير إلى الشارع وإعلان أن تلك الأشكال ليست سوى أنظمة مديوكر صنعت لتتحرك من خلفها أيد الاحتلال ذو القفازات الناعمة.
** مدير النشر بقصور الثقافة المصرية
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أو القائمين عليه