ينتظر التونسيون اللحظة التاريخية التي يقر فيها الدستور التونسي الجديد ، فقد صدر مؤخرًا على موقع المجلس الوطني التأسيسي مسودة الدستور الذي سيعرض للمناقشة والتصويت في الجلسات العامة بالمجلس التأسيسي الوطني، وذلك للمصادقة عليه لتأخذ صبغة قانونية وتشريعية كدستور للجمهورية الثانية. يأتي ذلك في الوقت الذي تحتفي تونس في 14 يناير / كانون الأول الجاري بإحياء الذكرى الثانية لانتفاضتها التي كانت الشرارة الأولى التي انتشر لهيبها في مصر ثم ليبيا واليمن وقد أدّت إلى سقوط أنظمة هذه البلدان التي كانت في السابق تحكم بقبضة من حديد.
قنابل موقوتة
ويجمع التونسيون على أن العام الجاري سيكون عام الدستور، الذي تأسس لأجله المجلس الوطني التأسيسي وانطلق النقاش حوله في 23 أكتوبر الماضي. ورغم تفاؤل بعض قيادات "الترويكا" الحاكمة، يعتقد المراقبون أن تونس ستشهد خلافات حادة حول الدستور الجديد، خصوصا أن المسودّة المعروضة للنقاش تتضمن فصولا مثيرة للجدل وقنابل موقوتة تم وضعها بذكاء ولن تنكشف أثارها الحقيقية إلا في المراحل المقبلة. ويرى خبراء القانون الدستوري أنها تهدّد بديكتاتورية جديدة وبالتأسيس لدولة دينية على أنقاض الدولة المدنية.
ومن الملاحظات على الدستور الجديد اعتماده في التوطئة على نظرية "التدافع" لرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي بدل "التنافس السياسي"، وعدم الإشارة إلى المنظومة العالمية لحقوق الإنسان من قريب أو من بعيد، وعدم وضوح الرؤية في مسائل حرية المعتقد والمساواة بين المرأة والرجل ووجود فصل يمنع الملاحقة القضائية لرئيس الدولة بعد تخليه عن مسئولياته عما قد يكون قام به أثناء الحكم.
وأكّد النائب بالمجلس الوطني التأسيسي الحبيب خضر عن حركة النهضة والمقرر العام للدستور أنه لا يستبعد المصادقة على الدستور الجديد بأغلبية الثلثين منذ قراءته الأولى.
وقال ان الدستور الجديد سيكون جاهزا في الربيع المقبل وأن حصيلة هذه الحوارات المتواصلة بالجهات منذ 23 ديسمبر الماضي، ستعرض على أنظار هيئة الصياغة لبلورتها.
وأضاف أنه سيتم الانتهاء من النقاش العام الخاص بمسودة الدستور في يناير الجاري، و أن أخر محطة في الحوار الوطني ستكون في 23 منه، حيث ستقوم هيئة التنسيق والصياغة بالصياغة النهائية للدستور، مؤكدا أن الدستور الجديد سيكون جاهزا لكافة التونسيين في الربيع المقبل.
تحصين القضاء
هذا وقد أطلقت نقابة القضاة التونسيين مبادرة ل "تحصين القضاء" وذلك على خلفية ما احتوته مسودّة الدستور التونسي الجديد في باب السلطة القضائية من مضمون هزيل لا يؤسس لسلطة قضائية مستقلة مستقبلا حسب ما أعلنته رئيسة نقابة القضاة التونسيين روضة العبيدي .
وأوضحت العبيدي خلال ندوة صحفية عقدتها بمقر نقابة القضاة بقصر العدالة أن "المبادرة" تقوم على تحصين القضاء هيكليا من خلال إحداث هيئة وقتية أو مجلس أعلى للقضاء مستقلا يكون بعيدا عن التجاذبات السياسية وكذلك عبر سن القانون الأساسي للقضاة لأن مواصلة العمل بقانون 1967 الذي دجّن القضاء لا يؤسس لكل هذه المطالب.
ووصفت رئيسة نقابة القضاة التونسيين مشروع الدستور ب "الكارثي" وب "الضربة الموجعة " التي يتكبد الجميع نتائجها السلبية. مؤكدة سعي مشروع الدستور إلى تدجين القضاء وجعله آلية في يد السلطتين التنفيذية والتشريعية بما يتعارض مع التأسيس لقضاء مستقل يحمي المواطن ويضمن حقوقه كما شددت العبيدي على رفض القضاة الانخراط في مشروع المجلس الأعلى للقضاء ومقاطعتهم لكل ما يتعلق به من انتخاب أو ترشح أو تصويت.
وأعربت عن استعداد النقابة للتصعيد في وقت باتت فيه كل أشكال التحرك الاحتجاجي مباحة ، كما وصفت المجلس الوطني التأسيسي ب "خائن الشعب" مضيفة أن المجلس التأسيسي خان الشعب وخان نفسه وان كل الأحزاب قد خانت برامجها وتنكرت للوعود التي قطعتها على نفسها أولا وعلى الشعب ثانيا.
"تسليح المليشيات"
هذا وقد حذرت منظمة غير حكومية من أن مسودة الدستور التونسي الجديد الذي أعده البرلمان تفتح الباب أمام "تسليح ميليشيات" لا تنتمي للجيش أو لجهاز الأمن الوطني. وقالت "الجمعية التونسية الاورومتوسطية للشباب" ان الفصل 95 من مسودة الدستور 'يشرع بصفة صريحة تسليح مجموعات لا تنتمي لا لسلك الأمن الوطني ولا لسلك الجيش أي بمعنى آخر ميليشيات مسلحة من شأنها ان تدخل تونس في دوامة عنف ونزاع مسلح".
وأضافت "نرجو إلا يكون ذلك تمهيدا لنهاية مريعة لتونس المدنية الحديثة المسالمة والمتمدنة". وتهدف "الجمعية التونسية الاورومتوسطية للشباب" إلى توثيق علاقات تونس بالدول الأورومتوسطية.
وتستعمل المعارضة ومنظمات أهلية تونسية اليوم عبارة "ميليشيات" عند الحديث عن "الرابطة الوطنية لحماية الثورة" غير الحكومية التي لها فروع في مختلف مناطق البلاد، والمحسوبة على حركة النهضة الإسلامية الحاكمة.
وتقول المعارضة إن رابطة حماية الثورة "ميليشيات إجرامية" تحركها حركة النهضة لضرب خصومها السياسيين فيما تنفي الحركة هذه الاتهامات باستمرار.
وفي كانون الأول / ديسمبر 2012، أعلن راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة رفضه مطالب المعارضة ومنظمات أهلية بحل رابطة حماية الثورة وقال انها "ضمير الثورة" التي أطاحت في 14 كانون الثاني/يناير 2011 بالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
وينص الفصل 95 من مسودة الدستور التونسي الجديد على أن "الدولة وحدها التي تنشئ القوات المسلحة (الجيش) وقوات الأمن الوطني، ولا يجوز إنشاء تنظيمات أو أجهزة مسلحة غير منضوية تحت الجيش الوطني أو الأمن الوطني إلا بمقتضى القانون".
الحقوق والحريات
ويؤكّد الخبير الدستوري قيس سعيّد أنّ هناك مسائل أخرى يجب التوقف عندها وتتمثل أساسا في الحقوق والحريات، مشيرا إلى أنّ المجلس التأسيسي يتجه إلى إدراج العديد من المسائل التي يمكن أن تجد مكانا لها في تشريعات غير الدستور، إلى جانب إمكانية تخصيص قسم كامل داخل السلطة التنفيذية يتعلق بمؤسسات الجيش والأمن حيث كان من الأجدى الاقتصار على ذكر ذلك ضمن المبادئ العامة ومن دون أن يخصص لذلك قسم كامل.
وأضاف أستاذ القانون الدستوري أنّ هناك اتجاها نحو إدراج العديد من الهيئات التي ستوصف بأنها دستورية، وتتمثل أساسا في عدد من المطالب وإدراج كل هذه الهيئات في نص الدستور بالرغم من أنّ الدستور يجب أن يحتوي المبادئ الكبرى التي تتعلق بالحقوق والحريات والنظام السياسي فوظيفة الدستور الأساسية هي تحقيق الحرية سواء في مستوى المبادئ أو في النظام السياسي.
وأشار قيس سعيد إلى أنّ الأصل هو أنه لا يوجد نص قانوني يخلو من النقد وفي مسودة الدستور تبدو العديد من المفاهيم غامضة وهو ما يفتح باب التأويلات وفي اتجاهات مختلفة بل متعارضة أحيانا ومنها ما ورد في مشروع التوطئة، مشددا على أنّ بعض المفاهيم ذات محتوى متغير وبالتالي يمكن أن تترتب عليها آثار قانونية خاصة في مستوى التشريعات. وأكد على ضرورة توضيح هذه المفاهيم التي يمكن أن تتغير بتغيّر الجهات أو الأشخاص الممثلة لهذه الهيئات.
مناطق رمادية
من جهته، أشار المرصد العربي للأديان والحريات في التقرير الأول الذي أعده حول مسودة مشروع الدستور إلى وجود بعض النقائص تتعلق بإشكالية العلاقة بين الحريات من جهة والدين من جهة أخرى.
وقال المرصد انه توجد "مناطق رماديةّ" في المسودّة و"نقصد بها عبارات تتميز بالغموض والإبهام وقد توظّف مستقبلا توظيفا سيّئا، وقد تفتح الطريق لتأويلات متباينة فتتعطل إحدى الوظائف الأساسية للدستور، وهي ضبط قواعد العمل السياسي وتأطيره".
وأردف: "إذا اتسع مجال التأويل في نصّ الدستور، وهو نصّ قانوني، تراجعت قدرته على تحقيق هذه الوظيفة. ونحن نأخذ بعين الاعتبار أن قراءتنا تعتمد المسودّة، وقد يرجع جزء من هذا الغموض إلى الصياغة التي ستحظى بالمراجعة قبل بداية جلسات المناقشة العلنية لفصول الدستور".
وأضاف أن عبارة حقوق الإنسان التي ترد في مسودة الدستور "غير محدّدة بمرجعية واضحة.. ومن المعلوم أن العبارة في ذاتها فضفاضة تستعملها الأنظمة الدكتاتورية والأنظمة الديمقراطية على حدّ سواء، ولا يتضح الفارق بين الاستعمالين إلا بربط حقوق الإنسان بالمرجعية الدولية المعروفة".
واقترح المرصد أن تضاف الى التوطئة عبارة "ويقوم فيه الحكم على احترام حقوق الإنسان بمفهومها الكوني وكما حدّدتها المواثيق والمعاهدات الدولية المصادق عليها".
وأشار المرصد العربي إلى أن عبارة حقوق المرأة التي ترد في مسودة الدستور "غير محدّدة بمرجعية واضحة". وأوضح أنّ العبارة "فضفاضة ومستعملة في أدبيات الحركات الأكثر تشدّدا وانغلاقا ومعاداة للمرأة، ولا تتضح فائدتها إلا بربطها بالمنظومة القانونية التونسية الصادرة بعد الاستقلال، وبإدراج مبدأ المساواة بوضوح، وبالفصل بين حقوق المرأة وموضوع الأسرة".
استفتاء شعبي من جانبه اعتبر رئيس الحكومة التونسية حمّادي الجبالي أن عدم التوافق بين مختلف القوى السياسية بخصوص صيغة النظام السياسي في مسودة الدستور الجديد للبلاد سيفرض التوجه نحو استفتاء شعبي. وتعترض كتابة دستور تونس خلافات بين القوى السياسية حول طبيعة نظام الحكم المقبل، ولم يتوصل نواب المجلس التأسيسي إلى توافق حول شكل هذا النظام حتى الآن.
ولفت رئيس الحكومة في لقائه الدوري مع المؤسسات الإعلامية التونسية المحلية ، إلى أهمية الانتباه إلى الخلاف القائم حول طبيعة النظام السياسي في الدستور الجديد قائلاً: "عدم الاتفاق بنسبة تصويت تقدّر بالثلاثين في المجلس التأسيسي ستجبرنا إلى التوجه نحو الاستفتاء، الأمر الذي قد يضيّع علينا شهرين إضافيين أو أكثر". مضيفاً "سنتحمّل مسئوليتنا كاملة في ذلك إذا ما لزم الأمر".
وفي هذا السياق صرح المقرر العام للدستور الجديد حبيب خضر قائلا "التوافق ضروري في صياغة الدستور الجديد ولا يجب على أي حزب أن يفرض إرادته على الآخرين".
وسيتم تقديم مسودة الدستور، التي أعدتها اللجان التأسيسية، إلى اللجنة العامة في المجلس التأسيسي الوطني لإقرارها وبالمصادقة على هذه المسودة ستولد الجمهورية الثانية.
وكان رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر، قد قال في تصريحات صحفية مؤخرًا: إن الانتهاء من كتابة الدستور الجديد سيتم في مدة لن تتجاوز أكتوبر المقبل.
وقال الناطق الرسمي باسم حزب التحرير التونسي، رضا بلحاج ، إن مشروع الدستور التونسي الجديد على منهجية لا ترضي الأمة.
وأضاف بلحاج، على هامش تظاهرة ينظمها الحزب في محافظة قابس الواقعة جنوب شرق تونس تحت عنوان "أمن الأمة العقائدي والتشريعي"، بأن الدستور على منهجية تضيّع حقوق البلاد والعباد .
وأكّد بلحاج رفض الحزب للدستور، قائلا: "سنضاد هذا الدستور وسننظّم في هذا الإطار وقفة جماهيرية الجمعة المقبلة لنبين موقفنا منه".
وكان الناطق باسم حزب التحرير - في مناسبة سابقة - ندّد بمشروع الدستور لعدم التنصيص فيه على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع وتنظيم كل ما يتعلّق بشؤون الناس ومصالحهم، واعتبر ذلك أكبر جريمة في حق الأمة وحق الثورة التونسية.
وشهد الدستور التونسي معارك حقوقيّة بين المنظمات المدنية من جهة وحزب النهضة الإسلامي من جهة أخرى خاصة ما يتعلق بالحريّات ووضع المرأة، ففي مطلع أغسطس / آب الماضي اعتمدت "لجنة الحريات والحقوق" في المجلس التأسيسي مشروع قانون تقدمت به حركة النهضة الإسلامية، ينصّ على مبدأ "التكامل" بين الرجل والمرأة عوضا عن "المساواة"، ما أثار احتجاجات في صفوف المعارضة ومنظمات المجتمع المدني. مواد متعلقة: 1. تونس .. مطالب شعبية يائسة فى عام 2012 2. تونس : حزب السبسي يتهم "النهضة" بدعم ميليشيات هاجمته 3. 2013 في تونس .. سنة الرهان على الانتقال الديمقراطي