حددت مصر شهر فبراير المقبل موعداً نهائياً لإقرار أعضاء اللجنة الفنية الإثيوبية السودانية المصرية المشتركة التي ستقدم التقرير النهائي حول تقييم الآثار المتوقعة جراء إنشاء سد النهضة الإثيوبي , جاء الموقف المصري ومعه السوداني متأخراً بعض الشيء رداً على الاتفاقية التي وقعتها دول المنبع لنهر والتي تسعى إلى إسقاط حق مصر في استخدام الفيتو على إقامة أي مشروعات تنفذها دول المنبع بشكل منفرد ودون إبلاغ القاهرة , طبقاً لما نصت عليه لمعاهدة عام 1929 م , واتفاقية عام 1959 م , التي حددت نصيب مصر من المياه ب 55.5 مليار متر مكعب , وحددت نصيبا السودان ب 18.5 مليار متر مكعب. وترى أديس أبابا من خلال الاتفاقية الجديدة أنها في حل من إخطار مصر والسودان بإقامة أية مشروعات على نهر النيل بزعم أن مصر لم تخطرها ببناء السد العالي في مطلع ستينيات القرن الماضي رغم أن السد العالي لا يؤثر مطلقاً على حصة إثيوبيا من المياه لأنه شمالها وليس جنوبها كما أن مصر دولة مصب وليست دولة منبع , وتروج اديس أبابا أيضا لتكريس مبدأ جديد في تقسيم حصص المياه وفقا لمبدأ ( الانتفاع النصف والمعقول ) وتثير قضية أنها المصدر لما يقترب من 86 % من مياه النيل التي تصل مصر والسودان ومن ثم تتصرف طبقاً لما تراه دون الرجوع لدول المصب .
جاء ذلك في وقت تخلت فيه مصر عن عمقها الإفريقي برغبتها , وتركت المجال مفتوحاً أمام قوي إقليمية ودولية عديدة , حيث تواجدت الصين بقوة إضافة إلى الدول الأوروبية المتواجدة أصلاً منذ عهد الاستعمار القديم , ودخلت مؤخراً تركيا وإيران إلى هذا المضمار , والدور الأخطر هو الدور الإسرائيلي حيث تريد الدولة العبرية تطويق مصر واللعب في شريان الحياة وهو نهر النيل ثأراً لعدم وصول مياه النهر إليها عبر سيناء عندما طلبت ذلك من الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات , وعادت وطلبت ذلك من نظام مبارك , لذلك خططت مراراً للحصول على حصة من مياه النيل من أثيوبيا مروراً باريتريا ثم عبر أنابيب تمر في البحر الأحمر , ووضعت خططاً موازية لإبرام اتفاقيات ثنائية مع دول حوض النيل ( دول المنبع ) , وفي المقابل العلاقات العربية الإفريقية عامة , والمصرية الإفريقية خاصة بدت فاترة في شتى المجالات وكأنها غير معنية بملفات التعاون ولغة المصالح خاصة ملف مياه النيل رغم أنه الملف الأخطر وسوف تزداد خطورته في المستقبل , في حين أن هذه العلاقات ذات جذور تاريخية , وأبعاد وإستراتيجية في آن واحد .
لكن ظلت مهملة لعقود طويلة إن لم تكن لقرون طويلة باستثناء سنوات قليلة شهدت تحسناً لهذه العلاقات تمخض عنها تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية التي تحولت لاحقاً إلى الاتحاد الإفريقي , إضافة إلى المساعدات المصرية لإفريقيا , والمساعدات التي تقدمها الصناديق الخليجية , وهيئات الإغاثة وغيرها .
تجري إثيوبيا حاليا دراسات لإنشاء 17 سداً لتوليد الطاقة الكهربائية من مياه الإثنى عشر نهراً التي تجري في أراضيها , من بينها ثمانية سدود كبيرة , إضافة إلى سد الألفية العظيم أو سد النهضة على النيل الأزرق على مسافة 40 كيلومتراً من حدود جنوب السودان في إقليم شنقول وهذا النهر يمد مصر بحوالي 59 % من إجمالي حصتها , ومن المتوقع أن يولد هذا السد 5.250 ميجاوت من الطاقة الكهربائية بعد اكتماله في مدة تتراوح بين 4 و 5 سنوات , وبتكلفة 4.8 مليار دولار , هذا السد هو الأضخم في إثيوبيا والعالم , إذ تساوي الطاقة الكهربائية التي سيولدها ثلاثة اضعاف الطاقة التي يولدها السد العالي , ويحجز 62 مليار متر مكعب من المياه , وهذه الكمية تساوي ما يقترب من نصف كمية المياه الموجودة في بحيرة ناصر.
السؤال المطروح الآن هل دولة إثيوبيا في حاجة إلى كل السدود التي بدأت في تنفيذها منذ العام 1973 م , وهل هي في حاجة إلى إقامة 17 سداً على 12 نهراً , ولماذا تركز إثيوبيا إنشاء السدود على النيل الأزرق بصفة خاصة وهو النهر المزود الرئيسي لمصر والسودان بالمياه ؟
الإجابة على هذه الاسئلة توضح أن هناك عدة أساب تقف وراء الاهتمام الإثيوبي غير المسبوق بإقامة السدود وإنتاج الطاقة الكهربائية وهي تطمح لأن تكون قوى إقليمية مهمة في مجال الاقتصاد والطاقة النظيفة , وبالفعل بلغت نسبة النمو في هذه الدولة الإفريقية في حدود 10 % خلال عام 2010 م , طبقاً لمجلة الإيكونمست التي ذكرت أن إثيوبيا تعد رابع اقتصاد في العالم من حيث النمو , بينما احتلت الصين المرتبة الخامسة , وإضافة إلى متطلبات هذا النمو وما يواكبه من استهلاك الطاقة الكهربائية , فإن أديس أبابا تطمح لأن تكون مصدراً مهما للطاقة النظيفة و سوقاً لهذه السلعة الحيوية خاصة لدول الجوار التي تعاني من نقص في مصادر الطاقة , وقد وقعت إثيوبيا بالفعل مذكرة تفاهم لتصدير 500 ميجاوت إلى كينيا , كما تسعي لتصدير الكهرباء إلى دولة جنوب السودان مقابل البترول ، بل تطمح لتصدير الكهرباء أيضاً إلى شرق السودان , وجيبوتي , واليمن .
من الطبيعي أن تستفيد إثيوبيا بالمياه الموجودة على أراضيها وهي بالطبع دولة ذات سيادة ومن حقها تقيم مشروعات تنموية على ترابها الوطني , لكن ليس على حساب الدول الشريكة في مياه النهر , وليس على حساب الاتفاقيات المبرمة مسبقاً بحجة أنها موقعة في عهد الاستعمار , لأن الاتحاد اللإفريقي أقر وأعترف بالحدود المرسومة في عهد الاستعمار القديم وهذا الإقرار هو الذي جعل إثيوبيا تضم المنطقة التي سيقام فيها سد النهضة وهي منطقة بني شنقول وقامبيلا هذه المنطقة الحدودية كانت جزءً من السودان حتى العام 1896 م , عندما ضمتها إثيوبيا واعتبرتها واحدة من الاقاليم الثلاثة عشرة , ومازالت قبائل سودانية تسكن هذه المنطقة , بل أن هذه القبائل تعترض علي تنفيذ هذا السد , كما أن حركة تحرير بني شنقول الإثيوبية المعارضة أصدرت ثلاثة بيانات بتاريخ 1 / 9 / 2012 م , نفت من خلالها الاعتراف بتوقيع الحكومة الإثيوبية اتفاقية مع بعض عناصرها , بل قررت الحركة من خلال هذه البيانات فصل الموقعين من جانبها واعتبرتهم لا يمثلوها وهم : جعفر زروق , أحمد التوم بروزة , و البدري هاشم .
وتضمنت البيانات الثلاثة أيضاً توجيه إنذار إلى الشركة الإيطالية ( ساليني ) الني تنفذ مشروع سد النهضة وحذرتها من مقاضاتها , مع تأكيدها على حقها في اتخاذ أي وسيلة لإيقاف تنفيذ هذا المشروع الذي وصفته بأنه سوف يهجر سكان الإقليم ويحرمهم من ثرواته , بل ذكرت البيانات أن الحركة مستمرة في اتخاذ ما تراه مناسباً من أجل الحصول على حق تقرير المصير .
مع إننا نقر أن الخلاف بين حركة تحرير بني شنقول والحكومة الإثيوبية هو شأن إثيوبي داخلي وليس لأحد غير الإثيوبيين التدخل فيه إلا انه يكشف خلافات داخلية , إضافة إلى خلافات شركاء النهر وعدم وجود توافق مطلق على سد النهضة حتى داخا إثيوبيا نفسها , لذلك نأمل أن يكون الإرث المشترك بين الدول العربية وإثيوبيا أو الحبشة كما تقول الأدبيات العربية وسيلة للتقارب وليس التباعد , وأن تكون المصالح المشتركة أداة للتعاون والاستثمارات المشتركة , وليس للاختلاف وتهديد المصالح الإستراتيجية العليا للجانبين فالعلاقات التاريخية وثيقة ولذلك يجب أن تكون العلاقات المستقبلية أكثر قوة ومتانة في ظل الوفاق التاريخي والتلاحم الجغرافي .