نظم المجلس الأعلى للثقافة ندوة في الذكري الرابعة لرحيل المؤرخ الكبير د. رؤوف عباس حامد الذي توفى عام 2008 ، وحضر الندوة عدد من كبار المثقفين ورجال الفكر وزملاء الراحل الكبير . قدم الندوة د. عبادة كحيلة أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة ورفيق الراحل في مشوار حياته ، والذي صرح لشبكة الإعلام العربية "محيط " بأن الراحل قدم عطاء كبيرا للإنسانية في وقت ضاعت القيم والقدوة لدى الأجيال. وقال أن ثلاث كتب قدمت للراحل هذا العام ، الأول ترجمة والثاني حرره الدكتور ناصر إبراهيم والثالث حرره الدكتور عبادة . كما صدرت كتب حول الراحل بتحرير الدكتورة إيمان يحيى والدكتور أحمد زكريا الشلق وكتاب الدكتور عبادة بعنوان "رؤوف عباس رجل من هذا الزمان " . واعتبر عبادة أن الراحل كان بقامة جمال حمدان والعقاد وطه حسين ، وقد شهدت بذلك كافة المحافل العلمية . زوجة المؤرخ تتحدث تحدثت السيدة "سعاد الدميري"، زوجة الدكتور رؤوف عباس ورفيقة كفاحه وام ابنه الوحيد "حاتم رؤوف" والذي يعمل مهندسًا ، عن رحلة عطائه فقالت أنها لم تنساه أبدا فهو يعيش معها ومع أبناء الجيل الجديد بأعماله التي لم تكن تعلم كيف جاء بوقت لينجزها. الإخوان في فكر رؤوف عباس تحدث د ناصر إبرهيم أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة القاهرة عن نظرة رؤوف عباس للإخوان المسلمين ، خاصة أن تلك الجماعة تشكل فصيلا سياسيا هاما على الساحة بعد الثورة . وقد عالج المؤرخ د. رؤوف حركة الإخوان كجزء من ظاهرة سياسية اجتماعية كبيرة ماجت بها البلاد، خلال الحقبة الواقعة بين ثورتى 1919 و1952م، وهى الظاهرة التى أطلق عليها اصطلاحاً "الحركات الايديولوجية" أو "الحركات السياسية ذات التوجهات الايديولوجية"؛ وعنى بها كل من (الحركة الاشتراكية، والإخوان المسلمين، ومصر الفتاة)، مركزاً تحليله للسمات الرئيسة التى جمعت بين الحركات الثلاث؛ سعياً إلى وضعهم داخل سياق التطورات السياسية العامة لتلك الحقبة: فكل من هذه الحركات الايديولوجية استند إلى أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة ، وكل منها رفض منهجية الأحزاب التقليدية (الليبرالية) القائمة على أسلوب التفاوض فى سبيل استكمال الاستقلال الوطنى، وإهمال المسألة الاجتماعية. بيد أن السمة المشتركة الأكثر أهمية التى يلفت رءوف عباس الانتباه إليها أن الحركات الثلاث اتفقت جميعاً فى عدم تمثلها للأطر المرجعية التى استمدت منها أفكارها، وعدم توصلها إلى صيغة رصينة لمشروع نهضوى يتلاءم مع الواقع المصرى الاقتصادى والاجتماعى.
الإخوان والوعي بطبيعة المرحلة
يقول الباحث : التحليل الذى قدمه رءوف عباس لدخول الإخوان المسلمين معترك الحياة السياسية رسم صورة فصيل سياسى واعٍ بمصالحه، محدد الاتجاه والأهداف، يعمل على تنمية قوة الجماعة، وادخارها للحظة التى يتعين استغلالها فى الوثوب على السلطة ، ولا مانع عندئذ من التعامل مع جميع المتناقضات السياسية طالما أنها ستدعم التوجه نحو الهدف المحدد : ففى بداية دخولهم لميدان العمل السياسى وجدوا أنهم أمام خيارين لا ثالث لهما : الارتباط بالوفد، أو الارتباط بالقصر (الملك). ولما كان الارتباط بالوفد يعنى الذوبان فى تنظيم سياسى يعبر عن الحركة الوطنية المصرية والانطواء تحت قيادة شعبية تتمتع بشرعية تاريخية مستمدة من ثورة 1919، والتسليم بالنظام البرلمانى اللبرالى الذى يقف الوفد حارسا له، فإن قيادة الإخوان فضلت الارتباط بالقصر طالما كان هذا الارتباط يوفر لها الحماية، ويضمن لها مزاولة نشاطها دون التعرض لخطر الوفد. وأشار إلي إن المعالجة الاستدلالية المدعمة بالشواهد مكنت رءوف عباس من إقناع القارىء بالأسباب التى جعلت كل من الإنجليز والقصر يتسابقان على احتضان هذا الفصيل السياسى بديلاً عن الوفد. وفى الوقت الذى بدأ الإنجليز يتأهبون فيه للتعاون مع الإخوان، والتحسب لمواجهة الموقف فى حالة فوز الإخوان فى الانتخابات بالحكم، حدث ما لم يكن فى الحسبان، فقامت ثورة 23 يوليو 1952، وكان ما كان من إلغاء الأحزاب السياسية وتعطيل العمل بدستور 1923 ثم إلغائه، ولم يبق على المسرح السياسى المصرى سوى الإخوان المسلمون الذين كانت علاقتهم برجال الثورة واضحة، وهنا بدأ الإنجليز البحث عن صفقة سياسية جديدة يعقدونها مع الإخوان.
ويتساءل الباحث : ترى لو عاش رؤوف عباس بيننا ليرى أن ثورة الشباب التى تنبأ هو نفسه بوقوعها قبل خمس سنوات من قيامها، قد جاءت إلى السلطة " بالفصيل الطريد" الذى وصفه فى واحدة من دراساته بأنه " نجح فى تبديد طاقات الحركة السياسية لقطاع عريض من الجماهير المصرية"، إنه الفصيل الذى يسعى دوماً إلى القفز فوق كاهل القوى السياسية للوثوب على السلطة ووضعها بين قبضتيه؟ مشيناها خطى وُلد "رؤوف عباس حامد" في 24 أغسطس 1939م، في أحد مساكن عمال السكة الحديدية ب"بورسعيد"، لأسرة فقيرة شأنها شأن السواد الأعظم من المصريين عندئذ. وكان والده عاملًا بالسكك الحديدية، يشغل أدنى درجات السلم الوظيفى الخاص بالعمل، وينتمي إلى قرية ب"جرجا" من صعيد "مصر". أما أمه فهي سيدة بورسعيدية من أصول دمياطية. التحق "رؤوف عباس" في الرابعة من عمره بكتاب يُعرف باسم "مدرسة الفتوح الجديدة الأولية" بأرض البدراوي التي تقع في ظهير شارع "شيكولاني" ب"شبرا"، فتعلَّم القراءة والكتابة وقواعد الإملاء والحساب في السنوات الثلاثة التي قضاها بالكتاب. ثم التحق في المرحلة الابتدائية بمدرسة السيدة "حنيفة السلحدار"، ثم التحق بنفس المدرسة بالمرحلة الإعدادية 1952-1953م، ثم المرحلة الثانوية بمدرسة شبرا الثانوية المقامة بقصر الأمير طوسون، ولكنه نُقل إلى مدرسة "طوخ" الثانوية، ثم مدرسة الشهداء منوفية وحصل على الشهادة الثانوية 1957 م، وتخرَّج في كلية الآداب بجامعة "عين شمس" 1961م، وحصل على درجة الماجستير 1966م، وكان موضوع أطروحته "تاريخ الطبقة العاملة المصرية"، ثم حصل على درجة الدكتوراة عام 1971 م وكان موضوع أطروحته "الملكيات الزراعية الكبيرة في مصر"، وأشرف على الأطروحتين أستاذه المؤرخ الكبير الدكتور "أحمد عزت عبد الكريم". عُيِّن "رؤوف عباس" معيدًا بكلية الآداب بجامعة "القاهرة". وتدرَّج في مناصبها إلى أن صار أستاذًا في عام 1981 م، ثم رئيسًا لقسم التاريخ، فكان أصغر من تولوا هذا المنصب سنًا، ونهض بقسمه نهضة كبيرة، ودعمه بكفاءات شابة من المدرسين والمعيدين، وتولَّى وكالة كلية الآداب لشئون الدراسات العليا 1966-1999م فأعاد تنظيمها على نحوٍ يكفل لها حسن أدائها لمهامها. كان لسمعة "رؤوف عباس" العلمية والشخصية، أثرها في أن تولى عدة مناصب خارج الجامعة؛ فكان رئيسًا لوحدة الدراسات التاريخية بمركز الأهرام للدراسات السياسة والاستراتيجية، كما كان رئيسًا للجنة العلمية بمركز وثائق تاريخ مصر المعاصر، ورئيسًا للجمعية المصرية للدراسات التاريخية، فبدأ برئاسته عهدًا جديدًا لها، وجعلها في الصدارة بين الجمعيات العلمية داخل وطنه وخارجه، كما حصل على العضوية الشرفية لجمعية دراسات الشرق الأوسط شمال أمريكا (M.E.S.A) فكان أول عربي يحصل عليها. صدر ل"رؤوف عباس" نحو عشرين كتابًا باللغتين المصرية والإنجليزية في مجال تخصصه، وهو التاريخ الحديث والمعاصر؛ منها "شخصيات مصرية بعيون أمريكية"، و"اليابان في عصر مايجي"، و"التنوير بين مصر واليابان"، فضلًا عن سيرته الذاتية ذائعة الصيت، بجانب بعض الترجمات منها: "دراسات في تطور الرأسمالية" ل"موريس دوب"، و"يوميات طبيب هيروشيما" ل"متشيكوهاشيما"، ومراجعته لكتاب "الجذور الإسلامية للرأسمالية" ل"بيترجران"، "وما بعد المركزية الأوربية" للمؤرخ نفسه، و"تجار القاهرة في العصر العثماني" ل"نللي حنا"، وحاضر في العديد من الجامعات العربية والأوروبية والأمريكية واليابانية. ويُعد كتابه "مشيناها خطى" الذي يتناول سيرته الذاتية من أهم الإصدرات، حيث تحدَّث "رؤوف عباس" عن قصته وكفاحه ورحلته في البحث عن معنى الحياة والوجود، رواها بشكل سلس عذب، وأسلوب مشرق، دون أن يخجل من ذكر إى شىء عن حياته الاجتماعية. وأكَّد الكاتب على انحيازه إلى نظام "ثورة 23 يوليو 1952م"، وتناول الفساد داخل الجامعة وخارجها، والفساد في السلطة وكان لموقفه هذا الحرمان من العديد من الجوائز والمناصب القيادية. وقد دافع عباس عن معيدة قبطية حتى تعينت بقسم التاريخ بآداب القاهرة وهدد بالاستقالة إذا حدث تعسف معها بسبب دينها. وكان عباس من أوائل المتحدثين عن فساد السلطة، وقد حظي "رؤوف عباس" بتقدير المحافل العلمية في وطنه وخارج وطنه، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية 1999م. "رؤوف عباس" متزوج من السيدة "سعاد الدميري"، وله ابن واحد هو "حاتم رؤوف" ويعمل مهندسًا. وتوفى "رؤوف عباس" إلى رحمة الله ب"القاهرة" في يوم الخميس الموافق 26 يونيو 2008، ودفن بمدفنه بطريق "الفيوم" بمحافظة "6 أكتوبر.