إنّ مسرحية كتابة الدستور بمشاهدها وفصولها المتعددة، لا يمكن فصلها عن الحالة السياسية العامة منذ الثورة وحتى الآن، كما لا يمكن أن تمر على أي عقل - متأمل في طبيعة الأحداث - مرور الكرام، دون أن تترك شكوكاً وعلامات استفهام ضخمة!.
(1) الهرولة نحو «الموافقة» على الإعلان الدستوري، ودفع الرأي العام بكافة أطيافه للموافقة عبر توظيف الدين بإظهار الموافقة على أنها واجب شرعي، وما تواتر من مُصطلحاتٍ تدغدغ المشاعر آنذاك، لا يمكن تفسيره الآن إلا بتعمد تعطيل عقول الناس عن فهم المسألة على حقيقتها، تحقيقاً لمآربَ معينة، دُفنت وقتها في حُجَة السعي إلى استقرار البلد، الأمر الذي حرمنا جميعاً من دستور كامل حاكم للجميع، وقت أن كانت العقول مُنتبهة والنفوس مُستيقظة بفعل المستجد الثوري الحادث.
(2) شروع البرلمان في تشكيل لجنة تأسيسية للدستور، دون العرض على القوى الثورية والأحزاب المصرية، ودون وضع معايير واضحة ومحايدة لاختيار أعضاء اللجنة، أدي تقريباً إلى إنفراد تيار واحد بتلك اللجنة، فدار الجدال، وثارت الشكوك، وتطايرت الاتهامات، و دخل الكافة في دوامة الفعل ورد الفعل.. فريق بالاتهام وفريق بالنفي، الأمر الذي أدي إلى انسحابات بالجملة من اللجنة اعتراضاً على ما يسمى بسياسية «التكويش»، وفي النهاية صدر حكم قضائي مُلزم بإبطال تشكيل تلك اللجنة، مما سَربَ شكاً بأن ما حدث ما هو إلا «سيناريو» تم حبكة بغرض كسب الوقت لصالح فئة معينة، وهو شك له ما يبرره.
(3) ثم تدخل المجلس العسكري من أجل إيجاد صيغة توافقية بين حزبي الحرية والعدالة، والنور، من جهة، وباقي الأحزاب والتيارات من جهة أخرى، وذلك لضم بعض الشخصيات الليبرالية واليسارية إلى عضوية اللجنة بُغية تحقيق التوازن المنشود في تأسيسية الدستور، كي يكون الدستور الجديد معبرًا عن كل أطياف الشعب المصري وليس عن توجه واحد فقط.. والسؤال: ألم تكن هذه بديهية يتوجبُ على كل الأطراف فهمها دون تدخل من المجلس العسكري؟، أي لم تكن تحتاج كل هذا الوقت لهضمها!.
(4) بعد هذا اتجه البرلمان عبر اللجنة التشريعية إلى إنتاج قانون بمعايير اختيار أعضاء اللجنة التأسيسية، بحيث يتم مراعاة التنوع، والتوافق الوطني، وإعلاء مصلحة الوطن فوق الانتماءات الحزبية، واعتماد عدالة التمثيل، والحيدة، والاستقلال، والسمعة الطيبة، ومراعاة توفير معايير الكفاءة الموضوعية، وضم مجموعة متنوعة من الخبرات، وتمثيل المرأة، وشباب الثورة، والمناطق النائية بنسب معقولة، والحرص على ضم عدد مناسب من الفقهاء الدستوريين والقانونيين، وضرورة تمثيل المؤسسات الدينية كالأزهر الشريف، والكنيسة، والهيئات القضائية، والنقابات المهنية والعمالية، وأن يتم الاختيار وفقاً لقاعدة التمثيل الوطني الجامع، وليس وفقا للتمثيل الحزبي الغالب في البرلمان، وأن ترشح الجهات أعداداً كافية لممثليها، وأن يقدم مع كل طلب ترشيح سيرة ذاتيه مختصرة حتى يتمكن أعضاء مجلسي الشعب والشورى الاختيار والمفاضلة بين المتقدمين.. والسؤال: لماذا لم يتم ذلك منذ البداية، ولماذا تم الآن وبهذه «الفضفاضية» التي ستأخذ وقتاً طويلاً؟!.
(5) انتهت الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة، والأيام معدودة عن جولة الإعادة، ولم نعرف من هم الأعضاء المائة الذين سيكتبون دستور مصر، يعني لا أعضاء ولا دستور، وسيأتي الرئيس القادم بلا دستور، و«العُكَّاز» الوحيد الذي سيتم الاتكاء هو الإعلان الدستوري حتى يُكتب الدستور!.
والسؤال: ماذا سيكون شكل الدستور لو نجح الدكتور محمد مرسي، وماذا سيكون شكل الدستور إذا نجح الفريق أحمد شفيق؟.. التخمينات دائرة، والشكوك حائمة.. ولا يقدر أحدٌ على الإجابة إلا بشكل دبلوماسي لا يضع النقاط فوق الحروف.
صدقوني يا سادة.. قادمة في الطريق بعد الانتخابات الرئاسية حلقة نارية من الصراع لا تقل حرارة ولا إثارة هي: معركة الدستور، فلا يمكن أن يُستهلك كل هذا الوقت دون أن يكون في الرؤوس شبح التفصيل على هذا أو ذاك، وربما كان ذلك ورقة سيضغط بها طرف على طرف من أجل حسابات ما، أي أن الأمور لن تهدأ حتى بعد انتخاب الرئيس، لأن التربة قد هُيِّئَتْ لعدم الاستقرار، رغم أن البعض يمارس ترف التغني به، وهو لا يسعى إلى تحقيقه.