الفنون دائما تتداخل، وفي الآونة الأخيرة شاهدنا رسامين يستلهمون أعمالهم من وحي قصائد شعر، وكذلك شعراء يبدعون نتيجة تأثرهم بمشهد مرسوم .. " محيط" حاور عدد من المبدعين حول هذه التجربة ومدى نجاحها ووصولها للجمهور ..
يرى الناقد والشاعر د. شوكت المصري أن أي إبداع يعتمد على فكرة التأثير والتأثر، فالمبدع يتأثر بحالة معينة ثم ينقلها من الواقع إلى شكل أو صورة متحركة لتصوير سينمائي، أو إلى جملة في حالة الإبداع الأدبي، أو إلى لوحة تشكيلية بالألوان.
وفكرة العلاقة بين الشاعر والفنان التشكيلي أساسها أن مادة كلاهما هي التصوير، وهذا قاسم مشترك فيما بين الفن التشكيلي والعمل الأدبي وخصوصا الشعر، وهو أن الأساس فيهما هو فكرة الصورة، وإن كانت الصورة تعتمد على اللون في حالة الفن التشكيلي، أو على اللغة في حالة الشعر.
في تاريخ الفن والإبداع تأثر كثير من الفنانين العالمين وكتاب وشعراء كبار بأعمال بعضهم البعض، وهذا رصده الدكتور عبد الغفار مكاوي باقتدار شديد في كتابه الشهير "قصيدة وصورة"، تحدث فيه على سبيل المثال عن لوحة "الموناليزا"، التي استوحاها شعراء إيطاليين وفرنسيين وإنجليزيين، ولوحة "السكستين" لمايكل أنجلو استوحاها أكثر من عشرة شعراء، وذلك على مستوى الأدب والفن التشكيلي العالمي.
د. شوكت المصري أما على مستوى التراث الأدبي سنجد كتاب "كليلة ودمنة" حينما ترجم على يد عبد الله بن المقفع، وبدأ طبعه عربيا، قام الفنانين برسم هذه الحكايات على صفحات الكتاب، وهذا أيضا تأثر في الفن القصصي. ثم كتاب ألف ليلة وليلة من التراث الشعبي العربي، والذي امتلئ برسومات تعبر عن الحكايات المكتوبة في الكتاب.
بينما السير الشعبية كالزناتي خليفة وبني هلال والزير سالم والأميرة ذات الهمة وغيرها التي كانت تحكى شعرا وغناءا على ألسنة المداحين في الموالد والمناسبات الشعبية، نجد أن المخيال التشكيلي أو الفني أو التصويري احتفى كثيرا بمحاولة تصوير شخصيات بالسير الشعبية، ونقلها حتى ليس فقط على لوحات، وإنما على أزرع وأجساد الأشخاص في شكل أوشام أو رسومات بواسطة الفنانين الشعبيين. ونجد أيضا أنه في الذاكرة الشعبية في موسم الحج، كان يكتب بعض الأبيات والأغاني والرسومات والآيات القرءانية مع بعض الرسومات ذات الطابع الديني ابتهاجا بعودة الحجاج والمعتمرين من الأراضي الحجازية.
وأكد د. شوكت المصري أن كثير من شعراء الحداثة المصريين والعرب تأثروا بلوحات فنانين عالميين أو مصريين، منهم الشاعر محمد عفيفي مطر في قصيدته "رعوية نورج حسن سليمان في لوحته" والتي تأثر فيها بلوحة "النورج" واعاد رسم أو صياغة هذه اللوحة في قصيدة من قصائد ديوانه "المنمنمات". وكذلك الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في ديوانه "كائنات مملكة الليل"، الذي استلهم في إحدى قصائده لوحة للفنان سيف وانلي.
أحمد الجنايني
أما الفنان والأديب أحمد الجنايني فقال بأن ثمة علاقة قديمة تربط بين الفنون وبعضها، فالفن التشكيلي ارتبط بالموسيقى والشعر، والرسم والشعر بالتحديد لهما علاقة منذ سنوات بعيدة فكنا نرى مقامات الحريري التي كانت رسوم وكتابات معا، ورباعيات الخيام في كل طبعاتها سواء العربية أم الفارسية، وكذلك أشعار ألف ليلة وليلة، وكتاب "فن الهوى" الذي قدمه المفكر الكبير ثروت عكاشة للمكتبة العربية واستلهم منه بيكاسو أعمال جيدة .
يقول الجنايني: طبقت ما ذكرته على نفسي، فأنا فنان تشكيلي ولكني شاعر أيضا وصدر لي أربعة دواوين؛ ثلاثة منها تمتزج باللوحات التشكيلية، ومنهم ديوان "عشرون رمحا من الأرق" وهو عبارة عن ديوان من الشعر التشكيلي، بعد ذلك صدر لي ديوان "قليلا من عصير الروح"، وهو أيضا ديوان من الشعر التشكيلي، أما الديوان الأخير وهو الأكثر تأصيلا لهذه العلاقة فهو ديوان "على جناح فراشة"، وعلى إثره قمت بعمل معرض كتجربة أولى في لبنان؛ حيث حولت 25 نصا شعريا منه إلى 25 لوحة، والنص الشعري هنا جملة شعرية قصيرة ومكثفة، لها علاقة بالتشكيل من ناحية الشكل البصري.
يتابع الجنايني: هناك تجارب كثيرة جدا لشعراء وفنانين في هذا المضمار، فلا يمكن أبدا أن ننسى الشاعر الكبير جبران خليل جبران حتى أن متحفه في قرية "مشري" في شمال لبنان يضم الكثير من أعماله التشكيلية فهو شاعر وتشكيلي معا.
وأرى أن المبدع إذا كان تشكيليا فعليه أن يعي أن البطل بالنسبة له الشكل البصري للكلام، والعكس إذا كان شاعرا سيستعين بالصور التشكيلية التي تخدم الشعر ، وعموما فعلاقة الشعر بالتشكيل هامة وهناك تجارب للمهداوي التونسي مع الفنان الألماني هنكر، فمعا قدما عملا تشكيليا بصريا؛ حيث عمل المهداوي على الخط العربي وجمالياته التجريدية بشكل مجرد، وتعامل الفنان الألماني مع ما قدمه المهداوي بتقديم شكل بصري يدعم هذه العلاقة ما بين تجريدية الخط واللون.
عادل مصطفى من جهة أخرى يرى الفنان الشاب عادل مصطفى أن هناك ما يسمى بوحدة الفنون، أي أن جميع الفنون في النهاية هي شيء واحد؛ لأن الشعر والموسيقى والتشكيل والمسرح جميعهم فن، أما عن الشعر والفن التشكيلي تحديدا فثمة تشابها كبيرا بينهما حيث أن كل منهما يحمل صورة مرئية أو مسموعة كما أن الإيقاع يشترك بينهما والنغمات والتوافق أو الهارموني، كما أنه يجمع بين الفنون أن جميعها نشاط إنساني مفعم بالإحساس، وكلها تستلهم من المجتمع حول الفنان.
وقد لجأت شخصيا لاستلهام نصوص شعرية في أعمالي التشكيلية مؤخرا، حيث تعرفت على مجموعة من الشعراء الشبان السكندريين، وشعرت بهذا التقارب الشديد ما بين الشعر والفن التشكيلي، وأثارتني مجموعة من النصوص كتبها الشاعر الشاب سامي عقل رئيس جماعة "حالة" الإبداعية، واستلهمت من أعماله وكتبت نصا كاملا في اللوحة ولكن بلغة بصرية تشكيلية، وقراءته واضحة للمتلقي، وأردت أن أحمل اللوحة بقيمة التشكيل في فن التصوير، والقيمة الأدبية للعمل الشعري المكتوب.
وتطور معي بعد ذلك استلهامي للشعر؛ حيث بدأ الشاعر سامي عقل يكتب نصوصا خاصة لي، تتواءم مع رؤيتي التشكيلية، فأصبحنا شريكين في عمل إبداعي واحد، وتحمل اللوحة توقيعنا معا، في تجربة جديدة، وهذا العمل لاقى استحسانا كبيرا من الجمهور، وقوبل بنقد عدد من المتخصصين، ولكن رغبتي في كسر القواعد دفعتني للاستمرار في هذه التجربة، وأذكر في هذه التجربة أعمال الفنان الراحل بكري محمد بكري وتجربته مع الشاعر علي قنديل، حيث مزج بكري بعض الأبيات الشعرية داخل عمله التصويري.