تمر هذه الأيام ذكرى الشاعر الأمريكي إزرا باوند الذي يعد أحد أبرز آباء الحداثة الشعرية الأنغلو أمريكية، والشخصية الأكثر تأثيراً في تيارات وأساليب تلك الحداثة علي امتداد القرن العشرين. ولد "باوند" في مدينة هيلي بولاية أيداهو في الغرب الأمريكي، لكنه لم يبق هناك مدة طويلة، إذ رحل والداه به إلى ولاية بنسلفانية حيث بدأ دراسته، ولما بلغ الخامسة عشرة من عمره انتسب إلى جامعتها، وفي العام التالي بدأ دراسة الأدب المقارن، وحصل على درجته الجامعية الأولى في كلية هاملتون. عاد بعدها إلى جامعة بنسلفانية وحصل فيها على درجة الماجستير عام 1906. عمل مدرساً بعض الوقت في الجامعة نفسها ثم شد الرحال إلى أوربة لمدة وجيزة عاد بعدها إلى أمريكة ليبدأ عمله محاضراً في كلية واباش في ولاية انديانة، غير أن هذا لم يستمر طويلاً إذ إنه عاد إلى أوربا عام 1907، وبقي هناك معظم حياته. أصدر باوند أول ديوان شعري له "النور المطفأ" 1908 في البندقية، ثم صدر ديوانه الثاني "شخصيات" في لندن عام 1909 م. وصدر له أهم عمل تحت عنوان "هيو سلوين موبرلي" وهي قصيدة طويلة تتألف من عدة مقاطع تتصف بالغموض وتتضمن إشارات واقتباسات من أعمال أخرى، وكان لهذه القصيدة تأثير كبير في عدد من الشعراء. وفي إيطاليا نشر عام 1925 أول مجموعة من "الأغاني"، وبدءاً من العام 1932، انخرط في صف موسوليني، ونشر كتاباً في الدفاع عنه بعنوان "جيفرسون و/أو موسوليني" ، وبلغ حماسه للفاشية الإيطالية ذروته في الأحاديث الإذاعية الدورية التي كان يلقيها من راديو روما. حين احتل الحلفاء إيطاليا سنة 1945، ألقت القوات الامريكية القبض علي باوند ودخل السجن العسكري في بيزا. وفي تلك السنة تعرض لانهيار عصبي، وأعلن الاطباء أنه غير مؤهل نفسياً للمحاكمة، فنُقل إلي مصح عقلي قرب واشنطن قضي فيه 12 سنة، لكن عمله الشعري نال جائزة "بولنغن" عام 1949 م. حتي أفرج عنه سنة 1958 بعد سلسلة من حملات التضامن التي نظمتها شخصيات وهيئات ثقافية علي امتداد العالم. الأناشيد كتب باوند تحت عنوان "الأناشيد" مجموعة من القصائد تناهز ال 120 قصيدة طويلة أو متوسطة، ويقال إنها الإنجاز الوحيد العظيم للغة الإنجليزية في ميدان النوع الملحمي، منذ قصيدة ملتون "الفردوس المفقود" التي كتبها في القرن السابع عشر. وفي مطالع القرن الماضي لم يكن أعظم شعراء الإنجليزية "الإيرلندي و. ب. ييتس" يتردد في تسليمه قصيدته ليصححها باوند ويحذف ويبدل. كذلك الشاعر الكبير "ت. س. إليوت"، الذي عهد إلي باوند بقصيدته الأشهر "الأرض اليباب". وفي قصيدة "العيون" يقول: إمكثْ أيها المعلٌم، فإننا متعبون، متعبون ونتحسس أصابع الريح علي هذه السقوف التي تجثم فوقنا مخضلٌة ثقيلة كالرصاص. إمكث أيها الشقيق، وانظرْ! الفجر يتململ والشعلة الصفراء تشحب والشمع يتناقص. حرٌرْنا، فإننا نندثر في هذه الرتابة الطافحة الطاغية لعلامات الطباعة القبيحة، وللأَسود علي الرقعة البيضاء. حرٌِرْنا، فثَمٌ واحد وحيد لابتسامته نفع أعمٌ من كلٌ المعرفة العتيقة الدفينة في أسفارك: وإليه سوف نشخص. ونقرأ مجموعة من القصائد ترجمة الناقد السوري صبحي الحديدي، ففي قصيدة "بعيداً عن مصر" يقول: أنا، حتي أنا، هو الذي يعرف الدروب في منعرجات السماء، والريح لهذا جسدي. لقد أبصرتُ سيدة الحياة ، أنا، حتي أنا، الطائر مع السنونو. الأخضر والرمادي رداؤها تجرجر أذياله في طول الريح. أنا، حتي أنا، الذي يعرف الدروب في منعرجات السماء، والريح لهذا جسدي. يراعي في يدي لأكتب القول المقبول... وههنا فمي ليشدو بالغناء الصافي! مَن عنده الفم الذي يتسلم النشيد، أغنية اللوتس البلدي؟ أنا، حتي أنا، الذي يعرف الدروب في منعرجات السماء، والريح لهذا جسدي. أنا الشعلة الناهضة في الشمس، أنا، حتي أنا، الطائر مع السنونو. القمر لؤلؤة هائلة في مياه الياقوت الأزرق، وباردة بين أصابعي المياه الدافقة. أنا، حتي أنا، الذي يعرف الدروب في منعرجات السماء، والريح لهذا جسدي. ومن قصيدته "وهكذا في نينوي" نقرا: بلي! أنا شاعر وعلي ضريحي ستنثر الصبايا أوراق الورد والرجالُ الغارَ، قبل أن يفلح الليلُ في ذبح النهار بسيفه المظلم. صاحِ! هذا الشيء ليس لي وليس لكَ لكي تخفيه، ذلك أن العادة عتيقة، عتيقة وهنا في نينوي أبصرتُ أكثر من صادح يمر ويحتل مكانه في تلك القاعات المعتمة حيث لا أحد يعكر صفو منامه أو أنشودته. وحيث الكثيرون أنشدوا أناشيده بمهارة أعلي، وروح وثابة أشد مني بأساً؛ أكثر من شاعر واحد سوف يتفوق علي جمالي الذي تتآكله الأمواج، بما لديه من رياح الزهر بيد أنني الشاعر، وعلي ضريحي سينثر كل الرجال ورق الورد قبل ان يذبح الليلُ الضياءَ بسيفه الأزرق. وليس، يا رعنا ، أن رنين أغنيتي هو الأعلي أو أحلي في النغمة من أي سواها، بل أنني أنا هنا الشاعر، الذي يحتسي الحياة بأيسر مما يحتسي أغرارُ الرجال النبيذ.