أكدت مصادر في وزارة الخارجية الأمريكية أنها تبذل جهودا حثيثة من أجل حل الأزمة السياسية في العراق، وذلك عن طريق سفيرها في بغداد "جميس جيفري"، من أجل إيجاد مخرج للأزمة الكبيرة التي قد تؤدي لانهيار العملية السياسية التي خلفها الغزاة الأمريكيون بعد انسحابهم من العراق. يجيء هذا التطور في وقت بلغت فيه حدة الانقسام الطائفي بين ما يسمى بائتلافي "العراقية ودولة القانون" ذروتها، على إثر صدور مذكرة اعتقال بحق نائب رئيس الجمهورية "طارق الهاشمي"، إضافة إلى تقديم رئيس الوزراء "المالكي" طلبا إلى مجلس النواب يقضي بعزل نائب رئيس الوزراء "صالح المطلك" عن منصبه.
وفي اعتراف صريح عن التدخل الأمريكي المتواصل بشئون العراق قالت المصادر الأمريكية "إننا استخدمنا علاقاتنا لحل الأزمة التي نشبت بين طرفي العملية السياسية الرئيسيين بالعراق، حيث ذهب نائب الرئيس الأمريكي (جو بايدن) إلى العراق وتحدث مع السياسيين العراقيين، وتابعت: كما أن السفير الأمريكي في بغداد (جيمس جيفري) يبذل مجهودا كبيرا لحل هذه الأزمة.
وكانت حكومة المالكي استعانت بخبراء إيرانيين وبشكل مكثف من أجل الحفاظ على توازن هياكلها إثر الانسحاب العسكري الأمريكي، إلى جانب مستشارين أمريكيين في شتى المجالات لا يزالون يعملون بالعراق لدعم حكومة المالكي سياسيا ولوجستيا وأمنيا حتى لا تنهار أمام هجمات المقاومة المتواصلة، التي يقودها حزب البعث بالتحالف مع جبهة عريضة من كل الأطياف العراقية وهي مقاومة كبدت الأمريكان خسائر فادحة وأجبرتهم على الانسحاب والفرار من العراق.
وتقول الباحثة هيفاء ذنكنة: "منذ الأيام الأولى للاحتلال وفي أعقاب الغزو الأنجلو أمريكي مباشرة، تبلور الموقف في الساحة العراقية بشكل معسكرين".
وأوضحت "المعسكر الأول يضم قوات الاحتلال التي أطلق عليها اسم "قوات الائتلاف" تضليلا، وتحت إمرتها عمل فريق من العراقيين، بعضهم وصل البلاد على ظهر الدبابات الأمريكية وأسرع بعضهم الآخر، من داخل العراق، لعرض خدماته على الحاكم العسكري جي غارنر ثم بول بريمر".
وأضافت "كان من بينهم أيضا بعثيون، ممن كانوا حتى لحظة الغزو يمجدون صدام حسين والبعث غناء وشعرا واستخباراتيا، وآخرون من القضاة والعسكريين والتكنوقراط الذين اعتمد عليهم النظام، وووصلت حالة المزايدة بين أفراد المعسكر، بداخله وخارجه، حد ترتيب الدعوات الشخصية المنزلية للترفيه عن قادة الاحتلال والتقاط الصور التذكارية، محط مباهاتهم في مزايدة بيع الوطن وخدمة المحتل".
أما المعسكر الثاني -وفق ما قالت- فيضم قوات المقاومة، قوات أبناء الشعب الرافضين للاحتلال بكل الطرق المتوفرة، ومن بينها طريق المقاومة المسلحة وهو حق قانوني وشرعي وأخلاقي تكفله القوانين الدولية والمحلية والإنسانية، ويعرفه كل ذي ضمير. وإذا كان من فخر للشعب العراقي فهو بدء مقاومته واستهدافه أول جندي للغزاة بعد أيام معدودة من غزو بغداد.
وقد ازدادت عمليات المقاومة ضد العدو حتى بلغ عدد الهجمات المستهدفة لقوات الاحتلال، بالتحديد، 5000 عملية شهريا (في تشرين الأول 2007)، أي 180 عملية يوميا، بمعدل 7 عمليات في الساعة، حسب جدول مؤسسة بروكنز الرسمية الأمريكية.
حكومة "الوحدة الوطنية" كما يسميها المالكي متباهيا، هذه الأيام، ينهش بعضها بعضا، فهناك اتهامات متبادلة بكشف الفضائح والملفات السرية ورسائل استجداء تطالب بعودة قوات الاحتلال، ومطالبة نائب عن ائتلاف دولة القانون (برئاسة نوري المالكي)، بأن يشمل رئيس الجمهورية جلال طالباني بالمادة 4 إرهاب بسبب إيوائه نائبه طارق الهاشمي المطلوب للقضاء.
هذا، فيما يقف الأمريكيون المسئولون عن المرحلة الجديدة من مشروعهم، من نائب الرئيس بايدن والسفير جفري ورئيس المخابرات المركزية (السي آي أيه) دافيد بيترايس وقائد المنطقة العسكري أوديرنو في الموقع المفضل من الحيادية واحترام السيادة، أي بالتعامل مع المنتصر الذي يحافظ على أهم مواقعهم، بينما تستمر التفجيرات بلا انقطاع وضحيتها المواطنون الأبرياء وآخرها تفجيرات يوم الخميس حيث قتل وجرح 125 من زائري مدينة كربلاء.
وعلى كل فإن ما نود قوله ونحن نستعرض ما يجري في العراق الآن، أن عمليات المقاومة الباسلة التي دفع المقاومون، خلالها، حياتهم ثمنا للحرية والكرامة، هي السبب الأول الذي أجبر الأمريكيين على الجلاء من العراق، ليست جلسات العشاء وتبادل النكات والتقاط الصور في مضايف المسئولين العراقيين، وإنما العمليات العسكرية التي كلفت العدو الخسارة المادية الجسيمة التي وصلت، حسب تقاريرهم، إلى التريليونات.
أضف إلى ذلك الخسارة البشرية للأمريكيين أيضا، والتي تجاوزت الآلاف، وسقوط عشرات الآلاف من الجرحى المعاقين لأبد (حوالي 73 ألف حسب إحصائية البنتاغون في تشرين الأول/ أكتوبر 2011) والذين سيكلفون الميزانية الأمريكية مبالغ طائلة لعلاجهم ورعايتهم مدى الحياة.
وقعت كل هذه الخسائر على الرغم من كل الميزانية العسكرية الهائلة والتطوير العسكري للآليات والتقنيات وإعادة هيكلة الجيش الأمريكي لمواجهة هجمات المقاومة. هذا هو السبب الذي جعل قوات واشنطن تحزم آلياتها وترحل.
ووفق الأرقام الرسمية التي أعلنت عنها الدوائر الأمريكية، تجاوزت الميزانية العسكرية المكرسة للاحتلال الأمريكي حتى عام 2009 تكلفة الحرب على فيتنام، لتصبح ثاني أكبر تكلفة بعد الحرب العالمية الثانية كما أنها أطول حرب تخوضها أمريكا بواسطة المتطوعين والمرتزقة.
وقد صرفت أمريكا أموالا هائلة على الدعاية وشراء أجهزة الإعلام والمثقفين وتمويل مراكز "الديمقراطية والسلام" للترويج الإعلامي المضلل تشويها للمقاومة، عبر تصويرها بأنها تمثل "الإرهاب".
وللأسف كنا نتطلع لإيران ونتمنى أن تبادر بالكف عن دعم عملية الغزو السياسية بالعراق، والضغط على حلفائها بالعراق لوقف التطهير العرقي والنزاع الطائفي، وترك المقاومة تواجه الغزاة الأمريكيين، إلا أن الإيرانيين للأسف كانت نظرتهم الاستراتيجية طائفية بامتياز.
ولذلك لم أستغرب عندما رأيت الرئيس الإيراني الدكتور محمود أحمدي نجاد يحط رحاله في بغداد مرارا، تحت حراسة أكثر من مائة وخمسين جنديا أمريكيا يحتلون هذا البلد.
ولم أستغرب أن أرى الأمريكيين يسلمون قيادات الدولة العراقية ما قبل الغزو، وقيادات حزب البعث تباعا لحكومة المالكي لكي تنفذ فيهم أحكام جائرة بالإعدام، ووصل الأمر إلى أن أجل الشيعة الاحتفالات بعيد التضحية يوما حتى لا يحتفلوا مع السنة بالعيد وتتاح لهم الفرصة ليقدموا الرئيس العراقي صدام أضحية للسنة يوم عيدهم في منظر، سيذكر التاريخ أنه حول العيد لدى المسلمين إلى مأتم.
منظر لا يمكن أن ينمحي من ذاكرتنا أو ذاكرة التاريخ. منظر ترسخ في أذهان الأجيال التي فجرت ثورات الربيع العراقي لشعورها بالإهانة في دينها قبيل شعورهم بإعدام قائد عربي.
وهاهم الأمريكان يغادرون العراق، وبعدها بأيام يعلنون في واشنطن وتل أبيب أن الوقت قد حان لمهاجمة دولة جديدة من دول محور الشر ويقصدون بها إيران، وهذا أمر طبيعي كان على طهران أن تدركه تماما منذ ارتضت أن تتعاون مع واشنطن عندما غزت بغداد وقبلها كابول؛ ظنا من إيران أنها ستتخلص من عدوها اللدود صدام حسين.
كانت النظرة الإيرانية ضيقة للأسف، وها هي عقارب الساعة تمضي لتجد الإيرانيين أمام مواجهة محتملة مع واشنطن وتل أبيب تستهدف نظامها ككل.
وختاما، نناشد السادة في طهران أن يرفعوا أيديهم عن العراق، ونناشد الأمريكان أيضا أن يفعلوها، ويتركوا العراق لأبنائه يعيدون بناء حياته كما يريدون، ويداوون جراحهم، ويرممون اقتصادهم، ونثق أن هذا البلد العربي العزيز صاحب الحضارة الضاربة في أعماق التاريخ سوف يعيد ترميم بنيانه، وسيعود أقرب مما نتصور معافى وداعما لقضايا أمته بكافة ألوان طيفه. [email protected]