تحاول أبواق إعلامية هذه الأيام أن توهم الشعوب العربية بأن رياح التغيير التي تهب على المنطقة، بدأت تخف حدتها لدرجة أن غربان هذه الأبواق باتوا يعزفون اليوم على وتر واحد، وهو أن نظام بشار الأسد كان على حق حين استخدم الخيار الأمني لفض التظاهرات التي عمت الشارع السوري بدعوى القضاء على العصابات المسلحة التي تعمل لصالح جهات داخلية وخارجية أولاً، ولأن هذه العصابات هي التي كانت تستهدف المتظاهرين وعناصر الأمن معاً ثانيا. ومن ثم فإن المسئول عن وقوع ذلك العدد من الضحايا- في رأي تلك الأبواق- ليس الجيش السوري أو القوى الأمنية، وإنما هم عناصر تلك العصابات التي كانت تعمد قتل المتظاهرين بهدف تأجيج المشاعر ضد النظام وتأليب المتظاهرين عليه.
الحق أن المرء يعجب من تمسك النظام السوري بهذا الادعاء الرخيص والمكشوف الذي سئم العالم سماعه، كما يعجب من ترديده المتواصل له برغم أنه على يقين من أن وسائل الإعلام المتطورة التي تعج بها السماوات المفتوحة، أثبتت وما زالت تثبت كل يوم أن عناصر الجيش وقوى الأمن، هي التي تستخدم أحدث ما لديها من أسلحة متطورة في قصف الأحياء السكنية في المدن والقرى التي تعمها التظاهرات، كما ترتكب أبشع الجرائم بحق المتظاهرين ، ما تسبب في وقوع هذا العدد الكبير من الضحايا.
ولمن يشككون في هذا القول، دعونا نستعين بالمنطق كي نتحقق من صدقه أو خطئه:
أولا- ادعاء النظام بأن ثمة عصابات مسلحة هي المسئولة عن وقوع هذا العدد الكبير من الضحايا، يظل ادعاءً مشكوكاً في صدقيته، إن لم يكن بالإطلاق كاذباً. فالمعروف عن النظام السوري أنه ما كان ليستمر أربعة عقود ونيف .. دون أن يعتمد كلية على الإسلوب القمعي الرهيب في التعامل مع الشعب السوري، والذي بدأه "الأسد الأب" طيلة فترة حكمه. وهذا ما تؤكده سوابق عديدة كان من أخطرها، قيام الجيش السوري- بكل فروعه- بتدمير ما لا يقل عن ثلث مدينة حماة وقتل نحو 25 ألفاً (في المتوسط) من سكانها، وذلك في الربع الأخير من القرن الماضي.
فهل يُعقل أن نظاماً يرتكب مثل هذه الجريمة الشنعاء الموثقة تاريخياً، والمتأصلة في تعامله (فكرياً ووجدانيا) مع أبناء الشعب السوري بمختلف أطيافه السياسية والمذهبية والعرقية .. نقول: هل يُعقل أن يتردد ولو للحظة في تكرار ارتكابها، إذا ما شعر بخطر يهدد استمرار جوده؟.
نعتقد أن الإجابة واضحة وهي أن الأسلوب القمعي (المُغلَّظ)، بات النهج الثابت لهذا النظام، ما يجعل من الطبيعي أن تتواصل ثورة الشعب السوري عليه، والمطالبة برحيله ومحاكمة رئيسه بل وحتى إعدامه.
ثانيا- ليس من شك أن "نظام الأسدين"، لعب أدوارا مؤثرة حيال معظم القضايا العربية خلال العقود الأربعة الماضية التي تولى فيها حكم سوريا. لكن السؤال الذي يلازم (بالضرورة) هذا القول هو: في أي اتجاه كانت تسير سياسته في التعامل مع هذه القضايا؟.
لا يختلف إثنان من أبناء الشعب السوري بخاصة، على أن هذا النظام- كان وما زال- يستظل بشعار "لا صوت يعلوا على صوت المعركة" في تبرير استخدامه لهذا النهج القمعي في تعامله مع أبناء شعبه من ناحية، وبشعار "المقاومة" التي ادعى أنه لن يحيد عنه في التعامل مع تلك القضايا، وبخاصة القضية الفلسطينية من ناحية أخرى.
هنا ينهض سؤال هام وهو: هل قام النظام بترجمة هذين الشعارين على الأرض، أم ظلاً- منذ انتهاء حرب 73 وحتى اللحظة- يخدمان أغراضاً إعلامية؟.
ليس من شك أن البعض سيجيب بأن هذا النظام كان وما زال يتبنى القضايا العربية وبخاصة القضية الفلسطينية. ويُدلُّلون على ذلك بالحرب التي خاضتها سوريا عام 1973 بالاشتراك مع مصر، ضد الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري وسيناء المصرية.
هنا نقول: إن الشعب السوري، هو الذي ضغط من أجل الدخول في حرب 73 ، ليرى شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة" (الذي ضحى بحريته واقتطع من قوت أبنائه من أجل تفعيله) .. وقد أتى أكله. ولعل ما يدلل على ذلك ما كان يقال عن قرارات اتخذها الرئيس الراحل "الأسد الأب" حول سقوط هضبة الجولان في حرب عام 67، الأمر الذي يعكس قدراً لا يستهان به من عدم ثقة الشعب السوري (أصلاً) ب"نظام الأسدين" .
أما عن تبني هذا النظام لشعار المقاومة فالشرح هنا يطول، وليس لدينا من تعليق سوى القول بأن سماحهُ للفصائل الفلسطينية التي تتبنى النهج المقاوم في التصدي للوجود العبري على أرض فلسطين التاريخية، كان- منذ البداية وما زال- وجوداً إعلامياً بحتاً.
وبتوضيح أكثر، فإن القيادات السياسية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي (المعنيتان) بهذا الموضوع، اضطرت للجوء إلى النظام السوري الذي عرف كيف يستثمر رفض دول النظام الرسمي العربي لتواجدهم فيها. فقد كان هذا- في نظر النظام السوري- مكسباً إعلاميا، حيث أعان- إلى حد كبير- في تكريس ادعاءاته بأنه المدافع الأكبر عن الأمة العربية وقضاياها.
ثالثا- مما يؤكد صدق هذا القول أن "الأسد الابن" حاول في كل مؤتمرات القمة أن يظهر بمظهر القائد العربي الثائر، والذي لا يسمح لنفسه الانشغال بأي قضية- حتى لو كانت سورية- عدا القضية الفلسطينية. بل بدا في بعض المؤتمرات وكأنه يقول لقادة النظام الرسمي العربي- وبلهجة لا تخلو من الاستذكاء والاستكبارٍ عليهم- أنه الزعيم الأوحد القادر على حماية القضايا العربية والتعامل بندية مع الطامعين في خيرات العرب وثرواتهم النفطية!!.
ليس من شك أنه بهذا الأسلوب، كان يحاول الاستحواذ على تأييد الشعوب العربية التي كانت تبدي استياء شديداً من حالة التشتت وعدم المبالاة التي كان عليها قادة النظام الرسمي العربي ، وبخاصة بعد توقيع منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة عرفات وخلفاؤه على اتفاق أوسلو المشئوم، وما تبعه من (هرولة) الأنظمة العربية نحو إقامة علاقات مع الكيان العبري.
والحقيقة أن كل هذه الأوهام التي حاول بشار الأسد أن يجعل منها حقائق، نجحت- إلى حد ما- في استقطاب أولئك الذين لا يهمهم من السياسة سوى ما يدعم منها مقاومة التدخل الأجنبي في المنطقة، والتصدي للوجود العبري فيها. غير أنه سرعان ما تهاوت تلك الأوهام أمام فشل النظام في استرجاع الجولان وتحقيق أي تقدم من أي نوع على صعيد الوعود الإصلاحية التي وعد بها الشعب السوري منذ اعتلى سدة الحكم قبل أحد عشر عاما، كما فشل في تحقيق أي نجاحات على صعيد القضية الفلسطينية.
هنا كان من الطبيعي أن ينتفض الشعب السوري ويثور لكرامته التي انتهكت، ولأمواله التي نهبت، وللثمن الباهظ الذي اقتطعه من قوت أبنائه ليبني جيشه، وكان في بداية ثورته حكيما لا ينشد غير الإصلاح وتنفيذ وعود رئيس النظام التي قطعها على نفسه.
غير أن لجوء بشار إلى الخيار الأمني الذي بدت غلظته ووحشيته صاخبة الوضوح في التعامل مع المتظاهرين في مدينة درعا التي انطلقت منها شرارة الثورة السورية .. دفع بكل المدن السورية الأخرى وقراها وضياعها، إلى الثورة على النظام الذي لم يتردد في استخدام الدبابات والرشاشات بأنواعها، ما أوقع ما يزيد عن الخمسة آلاف شهيدا بين المتظاهرين، وبين سكان أحياء المدن السورية التي استهدفها النظام مثل حمص وحماه وإدلب والحسكة ودير الزور، هذا بخلاف المصابين والمعتقلين الذين يعدون بالآلاف بحسب شهود العيان والفضائيات ووكالات الأنباء.
رابعا- يبدو واضحاً أن النظام السوري لم يكن يتمتع بأي قدر من المصداقية أو الثقة لدى شعبه طيلة فترة حكمه. والدليل على ذلك أن هذا الشعب سرعان ما انتفض عن بكرة أبيه، حين رأي شعوبا عربية أخرى استطاعت أن تتحرر من حكامها بالخروج إلى الشارع في تظاهرات صاخبة، رافعة شعار "سلمية .. سلمية"، والذي استطاع أن يحقق نصراً لا مجال لإنكاره .. حتى لو لم يكن الوسيلة الوحيدة التي استخدمت في اسقاط الأنظمة الفاسدة في تلك الدول وبخاصة ليبيا.
خامسا- وكما قدمنا .. بدا واضحاً أن بشار الأسد جعل من الخيار الأمني الطريق الوحيد لقمع التظاهرات، مثلما فعل والده الراحل حافظ الأسد. واتسم تعامل الجيش وقوى الأمن السورية وما يسمون بشبيحة النظام، بأقسى درجات العنف في التعامل مع التظاهرات.
في المقابل، كانت تظاهرات الشعب السوري تزداد حدتها كلما زادت وحشية قوى النظام الأمنية في التعامل مع المتظاهرين، والتي وصلت لحد استخدامها كل أنواع الأسلحة التي بحوزتها، كما استعانت بكل أساليب الإذلال والتنكيل بالمتظاهرين وتعذيبهم حتى الموت.
وحيال هذا الوضع الذي لا تبدو ثمة ملامح لحسمه سواء لصالح النظام أو الشعب الثائر، كان لزاما على العرب والمجتمع الدولي أن يبادروا للمساهمة في حل هذه المأساة التي يعيشها الشعب السوري، حتى يوقفوا نزيف الدم الذي يتدفق من عروق أبنائه، نتيجة وحشية النظام في التعامل مع المتظاهرين والمدن الثائرة.
ثم رأينا الجامعة العربية تتقدم بمبادرتها للنظام في سوريا الذي ماطل في قبولها لأسابيع عديدة .. ارتفعت خلالها معدلات القتل حتى وصل في أحد الأيام لأكثر من مائة شهيداً، قبل أن يوافق على ما يسمى ببروتوكول المراقبين العرب، تحت التهديد بتحويل الملف السوري لمجلس الأمن.
غير أن البعثة التي وصل جزء منها لسوريا وباشرت مهمتها، تعرضت للخديعة- إن لم يكن الاستخفاف- من قبل النظام، الذي لجأ كعادته للتضليل والكذب والخداع في التعامل معها، حتى لا تقوم بتنفيذ مهمتها (المبتسرة أصلاً) على النحو المطلوب منها.
والدليل على ذلك، أنه لم يمكِّن المراقبين من الدخول للأحياء (الساخنة) في حمص وحماه وأداء مهامهم على النحو المرجو، الأمر الذي انعكس في تصريحات المسئولين عن البعثة، حيث صرح أحدهم بأن الوضع ليس خطيراً، بل قال آخر أن الوضع في حمص "جيد جداً"!!.
ومهما يكن من أمر صحة هذه التصريحات أو تحريفها أو تحميلها أكثر مما تحتمل، فإن ثمة حقيقة لا يستطيع أحد إنكارها .. وهي أن عدد البعثة (الضئيل) قياسا بما يتطلبه الوضع على الأرض، فضلاً عن ندرة الخبرة لدى معظم أعضائها بحسب رأي الخبراء ، وكذلك الأجواء التي تحيط بعملها .. لا يُمكِّنُها من إنجاز الحد الأدنى المطلوب منها إنجازه. وهذا ما ستثبت الأيام القادمة صحته أو خطأه، وإن كانت الغالبية العظمى من المعنيين بهذا الموضوع، تجمع على أن مبادرة الجامعة العربية لحل المسألة السورية، محكوم عليها- منذ ولادتها- بالفشل لسبب لا يحتاج للشرح والتدقيق، وهو أن "فاقد الشيء لا يعطيه".
أما إمكان التدخل الدولي في هذه الأزمة، فأمر قد يكون ضروريا في مرحلة ما، لكنه لن يكون (بالقطع) على النحو الذي جرى في ليبيا، وذلك لأسباب عديده من أهمها موقع سوريا الجغرافي والسياسي في المنطقة، فضلاً عن التحالفات التي يعقدها النظام مع بعض الأطراف في المنطقة وبخاصة إيران وحزب الله اللبناني، ومع قوى دولية كبرى مثل روسيا الاتحادية والصين. وهذا يحتاج لإفراد مقال حتى يمكن تناول الموضوع بشيء من التفصيل.
غير أن هذه الغلظة وذاك الصلف والاستكبار الذي يتسم به بشار الأسد ونظامه، لم يعد قادراً على الاستمرار في مسك زمام المبادرة مع الشعب السوري، لإن الحبل الذي يربط ذاك الزمام بهذا النظام .. على وشك أن ينقطع.
ومظاهر ذلك كثيره، لعل من أوضحها ذلك الإصرار على التصعيد الذي يظهره الشعب السوري، مقابل تصاعد استخدام النظام للخيار الأمني المغلظ في مواجهة التظاهرات، هذا فضلاً عن الربيع العربي الذي جاء برياح التغيير العاصفة التي تهب الآن على المنطقة العربية، والتي تشتهدف إسقاط النظم الاستبدادية التي يقف النظام السوري على قمتها، إضافة للتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتسارعة التي تحدث في المنطقة وفي العالم، ما يجعل من نهاية نظام الأسدين أمراً حتميا.
كلمة أخرى نقولها لقادة النظام السوري: أنتم وأتباعكم وأبواق إعلامكم، تخدعون أنفسكم ولا تخدعون أحداً غيركم. المظاهر التي تتحدثون عنها حول انخفاض عدد المشاركين في التظاهرات بل وفي عدد المظاهرات ذاتها .. لا تعدو عن كونها مجرد سراب خادع تمنون النفس بصدقه وأنتم تعلمون أنه خداع كاذب. ولكي تتحققوا من ذلك، اسألوا أنفسكم : ما الذي يجب عليكم أن تفعلوه حتى تبقى هذه المظاهرات على حالها من الفتور (كما ترون أنتم وليس نحن)؟. نجيب عنكم .. الذي يجب فعله هو إبقاء استنفار الجيش وقوى الأمن بتفرعاتها ومن يتبعها من الشبيحة .. على حالة.
لكن استمرار هذا الحال أمر مستحيل .. فما البديل؟. هنا لن تجدوا غير الرحيل بديلاً .. فبادروا بالرحيل قبل فوات الأوان .. وحتى لا تواجهون ويواجه رئيسكم بشار المصير الذي واجهه معمر القذافي. وما ترونه أنتم من خفوت في حدة التظاهرات، نراه نحن استراحة المحارب. فها أنتم ترون مراحل العصيان المدني تنفذ بأدق وأسرع مما كان متوقعاً .. فما الحال إذا ما وصلت تلك المراحل لأخرها وهو العصيان المدني الشامل لكل مناطق سوريا؟ .. وما الحال إذا ما اشتدت عزلتكم في المنطقة وفي العالم؟، .. ساعتها لن يفيدكم حلفاؤكم .. فأعمدة تحالفاتكم وأركانها معهم تكون قد انهارت .. وبالتالي سترونهم وهم يذهبون بعيداً عنكم، ويتركونكم لتواجهوا مصيركم المحتوم .. مزبلة التاريخ.