عرضنا في المقال السابق سياسة الراحل حافظ الأسد على الصعيد الداخلي، والركائز الأساسية التي اعتمد عليها في رسم تلك السياسة، والنتائج التي تمخضت عنها. وسنعرض في هذا المقال لسياسة سوريا الخارجية في ظل نظام آل الأسد، وكيف أن بشار استغل الشعارات القومية للأمة العربية في فرض سياسته الداخلية، التي تقوم على العنف في التعامل مع المواطنين الذين طالبوا- في البداية بالإصلاح- ثم رفعوا سقف مطالبهم إلى المناداة بإسقاط النظام، وحتى المطالبة بإعدام رئيسه بشار، حين تنكر النظام لمطالبهم ولقوا تلك المعاملة المهينة من رجاله. على صعيد السياسة الخارجية: 1- ليس من شك أن الباحث عن حقيقة موقف هذا النظام- سواء في عهد الأب حافظ الأسد أو في عهد نجله بشار- لا يستطيع إلا أن يقر بأن موقفه- ولو إعلامياً على الأقل- كان ضد المخططات الإسرائيلية والأمريكية التي تسعى للهيمنة على المنطقة بعامة، وحل القضية الفلسطينية وفق الأجندة الصهيوأمريكية بخاصة. 2- درج بشار على إعلان تمسكه بمبدأ المقاومة ضد المخططات الصهيو-أمريكية في المنطقة، ما جعل الكثير من المراقبين السياسيين والكتاب يدافعون عن موقفه المقاوم بصلابة. وحتى حين كانت تمر على المنطقة أحداث تدعو للنظر ملياً في الدوافع الحقيقية التي تقف وراء هذا الموقف، والتي كانت تثير علامات استفهام حول دوافعه الحقيقية وبخاصة بعد حرب السادس من أكتوبر عام 1973.. كنا نرى هؤلاء يغطون الطرف بسبب إيمانهم بصدق تمسك بشار بمبدأ المقاومة. 3- غير أن هناك فريقاً من المراقبين يرون أن تصلب بشار على التمسك بخيار المقاومة في التعامل مع إسرائيل وأمريكا ليس نهائيا وقاطعاً بالمطلق.ولعل ما كان يثار وما زال، حول حرص النظام على عدم الدخول في أي نوع من المقاومة على الأرض مع الإسرائيليين الذين يحتلون هضبة الجولان منذ حرب 73 وحتى الآن .. يُعَدُّ من أظهر الأسباب التي تدعو هذا الفريق للتشكك في حقيقة موقفه من المقاومة التي طالما استند إليها في رفع شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، والذي كان السبب الرئيس في صبر الشعب السوري على الأساليب الاستبدادية التي يتعامل بها بشار معه، بحسب رأي هؤلاء المراقبين. 4- ويقول هؤلاء: إذا كان النظام حريصا بالفعل على مقاومة الاحتلال والعمل على تحرير الجولان وفلسطين .. فلماذا قبل بمبدأ عقد معاهدة صلح مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها، إذا ما قبلت إسرائيل بإعادة هضبة الجولان لسوريا؟!!. الجميع يعرف أن الاتفاق مع الإسرائيليين كاد أن يصل- في عهد الأسد الأب- إلى نقطة الاتفاق على الغالبية العظمى من النقاط الخلافية بين الطرفين، لولا تراجع الإسرائيليين (كالعادة) في آخر لحظة، بدعوى رفض أحد جناحي الكيان العبري (اليمن أواليسار أو كليهما معاً) له. والشيء ذاته حدث في المفاوضات التي تمت بوساطة من تركيا بين بشار وأولمرت، وإن كانت الأسباب المعلنة تختلف عما نقول. 5- وإذا كان نظام الأسد حريصا على دعم القضية الفلسطينية ولا نقول تحرين الأرض .. فلماذا اختلف حافظ الأسد مع المقاومة الفلسطينية ممثلة- آنذاك- بحركة فتح؟ .. ولماذا حاول تحجيمها إن لم يكن القضاء عليها في لبنان؟ .. ولماذا سمح لحلفائه في تلك الحرب، بارتكاب أبشع الجرائم ضد اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يقطنون مخيم تل الزعتر قرب العاصمة اللبنانية بيروت ؟!!. قد يقول قائل أن المقاومة الفلسطينية في لبنان قد تخطت حدودها، وأدخلت نفسها أو (أُدخِلَت) برضا عرفات، طرفاً في الحرب الأهلية التي دامت أكثر من سبعة عشر عاماً. هذا صحيح إلى حد ما .. لكن الكثير من الأحداث التي أدت إلى هذا التورط، لم تكن- في معظم الأحيان- من صنع المقاومة الفلسطينية، وإنما نجمت عن رفضها تجيير ولائها للنظام السوري .. وكل المتابعين للحرب الأهلية والأحداث التي وقعت في المنطقة في ذلك الوقت، يعرفون ذلك جيدا. (غير أن هذا الموقف الفلسطيني، لا يبرئ قيادتها التي كان يتزعمها ياسر عرفات في ذلك الوقت، من دفع المقاومة الفلسطينية إلى الولوج في ذلك النفق المظلم الذي أدى بها لخروجها من لبنان)، وإلى ما آلت إليه من تشتت وانهيار .. انتهى بتوقيع عرفات وعباس وأتباعهما بالتوقيع على اتفاق أوسلو المشئوم، الذي نص (من بين مصائب أخرى) على وقف المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وانتهاج سبيل المفاوضات كخيار استراتيجي وحيد لحل القضية الفلسطينية. 6- غير أن موقف نظام الأسد (بشقيه) من وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان، أو من استمرار وجود الجيش السوري على الأرض اللبنانية .. لم يغير كثيراً من رأي العديد من المراقبين السياسيين المؤيدين له، بدعوى اعتقادهم بأنه الأقدر- من بين النظم العربية- على مقاومة الطموحات الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة. فقد ظل العديد من الصحفيين والمفكرين والسياسيين، يكتبون لصالح هذا النظام، الذي عرف كيف يستثمر شعور الشعب العربي الغاضب ضد الغطرسة الإسرائيلية، وضد توجه بعض الأنظمة العربية نحو السلام مع إسرائيل والاعتراف بها، (وبخاصة من قبل منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة عرفات الذي وقَّع وعباس على اتفاق أوسلو المشئوم) .. باتجاه استمراره في استخدام الخيار الأمني المغلظ في كبت حريات الشعب السوري والتعامل معه بأساليب فجة أقل ما يقال فيها أنها مذلة ولا إنسانية، بدعوى "أن لا صوت يعلو على صوت المعركة". لكن هذا الوضع لم يدم طويلاً، حيث لم يخجل النظام- حين أزفت ساعة الحقيقة- من أن يشك القاصي والداني في هذه الأمة .. بأن توافق المصالح (الذاتية) بينه وبين الأمريكيين وحتى الإسرائيلين على بقاء القوات السورية في لبنان مقابل استمرار الهدوء على جبهة الجولان .. كان سيد الموقف. 7- هنا بدأ العديد من هؤلاء الكتاب وغيرهم يوجهون انتقادات لاذعة للنظام السوري، وتذكيره في كل مناسبة بأنه لم يطلق رصاصة واحدة على العدو المحتل منذ نهاية حرب 1973 وحتى الآن في جبهة الجولان، برغم اختراق الطيران الإسرائيلي للأجواء السورية مراراً، وقيامه بقصف عدد من الأهداف داخل سوريا .. كان آخرها الإغارة على مبنى قيل أنه كان يجري تشييده في محافظة دير الزور لإيواء مفاعل نووي. 8- وحين اجتاحت المظاهرات المدن والقرى السورية مطالبة بتنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي وعد بها الأسد الابن (نفسه) عندما اعتلى سدة الحكم عام 2000 .. لم يتورع النظام عن استخدام أقصى درجات العنف في قمع المظاهرات، ما أدى إلى رفع سقف مطالبهم إلى المناداة بإسقاط النظام وحتى إعدام الرئيس وأعوانه، الذين ارتكبوا جرائم مروعة بحق المتظاهرين نجم عنها استشهاد ما لا يقل عن 3000 شهيداً، عدا المئات من المفقودين والألاف من المعتقلين الذين يلاقون في سجونه ومعتقلاته أقسى أنواع التعذيب الذي ينتهي في أحيان كثيرة بوفاة العديد منهم. كما لم يتورع عن استخدام مئات الدبابات ومئات المدرعات في اجتياح المدن والقرى السورية التي يتظاهر أبناؤها ضد النظام، ويعمل فيهم التقتيل والتعذيب والاعتقال، إضافة لتدمير البيوت، وتجريف الزراعات، وحرمان سكانها من الماء والكهرباء أياماً. 9- غير أن من المؤسف حقاً استغلال بشار لشعار المقاومة وتجييره لصالح نظامه، ولتبرير سلوكه المشين الذي أوقع ذلك الكم من الخسائر في الأرواح من أجل المحافظة على بقائه وعائلته في الحكم. وبكلمات أخرى .. لم يتورع بشار من استخدام (ما يعتقد بأنها إنجازات حققها نظام آل الأسد على الصعيد الخارجي)، في كبت حريات السوريين وإهدار كرامتهم .. متدثراً أحيانا بشعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، وضاربا "في معظم الأحيان" مشاعر الشعب السوري بكل أطيافه السياسية والمذهبية والعرقية والدينية عرض الحائط. لكن هذه السياسة التي ارتكزت على ادعاءات النظام بانتهاج أسلوب المقاومة في التعامل مع إسرائيل وأمريكا والغرب بعامة، بهدف الحفاظ على القضايا القومية للأمة العربية والقضية الفلسطينية .. يبدو أنها لم تفلح في منع تصاعد سقف الشعارات التي يرفعها المتظاهرون، والتي انتهت بالمناداة بإسقاط النظام وإعدام رئيسه، بعد ما تبين لهم أن كل ما يهم بشار هو البقاء وعائلته في الحكم. والواقع أنه برغم ما يعتقده الكثيرون عن أن التظاهر في الشارع السوري، قد خفَّت حدته بسبب الاستخدام المروع والمستمر للخيار الأمني في التعامل مع المتظاهرين، لكن من غير المتوقع- من وجهة نظرنا على الأقل- أن يتوقف المتظاهرون عن المطالبة بإسقاط النظام، واستبداله بنظام ديمقراطي يقوم على الحرية وحرية التعبير والتعددية الحزبية واحترام حقوق الإنسان واختيار الشعب لممثليه. والسؤال الذي يواجه المراقبين الآن: هل ينجح النظام السوري في إثارة فتنة طائفية باعتبارها السلاح الأخير الذي يمكن- في نظره- أن يقمع التظاهرات أولاً .. وأن يبقى في الحكم ثانياً، وأن يبعد شبح المصير الحزين الذي ينتظر بشار الأسد، (بحسب ما أشار الرئيس الروسي "ميدفيديف" ذات مرة ثالثاًً؟!!) . هذا ما سنحاول الإجابة عليه في المقال التالي والأخير إن شاء الله.