عندما يصير المحكومون حكاما، وتظهر الذئاب في ثياب النساك، ويلبس الوضعاء أقنعة الشرف، في حين يبدو من يمتلك زمام السلطة عاجزا، وفي حين تلزم القوى السياسية الحقيقية الصمت، وتتحيد الجماهير، فإن هيبة دولة تسقط وربما استقلاليتها وحريتها أيضا. وعندما يكون الحاكم ليس أكثر من مجرد ملقن على خشبة المسرح، فبكل تأكيد ستكون ثلة من المحكومين هم من يمثل دور البطولة في أحداث مسرحية "اغتيال مصر" التي كتب وقائعَها بنجاح منقطع النظير عبر حبكة درامية هائلة جهاز المخابرات الأمريكي- الإسرائيلي، في حين تكتفي الجماهير العريقة بمتابعة أحداث هذه المأساة الرائعة! لا يخفى على أحد أن مصر بلد مستهدف من قبل قوى الشر التي تخشى من عودته لملء الفراغ الاستراتيجي الخطير بمنطقة العالم العربي والإسلامي، لأن ذلك يؤذن بخطر كبير يهدد أمن إسرائيل كما يهدد المصالح الغربية في السوق الاستعمارية العربية، ولأن عودة مصر إلى دورها الحيوي والمركزي بالمنطقة يؤذن بعودة السيادة العربية ويعيد حلم الوحدة المحطم إثر معاهدة كامب ديفيد من جديد؛ ولأن نجاح التجربة المصرية تحديدا قيد يدفع بيد الربيع العربي تجاه دول بالمنطقة تريد قطع هذه اليد قبل وصولها إليها، فلابد من إجهاض قيام هذه الدولة الخطيرة بأي شكل مهما كلف ذلك الأعداء والمتربصين من ثمن. كما أن عبور الأسطول الأمريكي من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، إضافة إلى عبور قوات بحرية روسية إلى نفس المكان بالتزامن مع مناورات بحرية إسرائيلية إيطالية تجرى في نفس المحيط بعد أسبوع من إعلان إسرائيل نشر قوات لها بكثافة كبيرة على الحدود الإسرائيلية المصرية، إضافة لوجود قوات التحالف الصليبي بليبيا غرب الحدود المصرية، مع مراعاة سحب القوات الأمريكية من العراق، فإن ثمة صراع دموي صليبي/ صهيوني على الأبواب قد تكون الفريسة فيه هي سوريا وقد تتسع الدائرة لتشمل مصر خاصة إذا عمت الفوضى أرض الكنانة بعد أن تحقق حلم المأجورين في إشعال النيران التي أسفرت عن وقيعة بين الجماهير والجيش في أحداث مجلس الوزراء التي وقعت بالأمس القريب. نعم ستكون مصر وقتها فريسة سهلة، خاصة إذا وقع انشقاق في صفوف الجيش المصري؛ حال تعاطف بعض قيادته مع المتظاهرين، وحال شحن المغفلين والرعناء عبر فضائيات دخيلة ومأجورة، فحينها ستنزل حشود إلى الميادين والمؤسسات وستستهدف أفراد الجيش التي من اليسير أن تسقط إذا تزايدت الحشود عليها خاصة أنها لا تشتبك مع عدو خارجي معلوم الهوية وإنما يشتبكون مع إخوانهم الذين انطلت عليهم الخدعة ونزلوا ليهدموا بأيديهم الحصن الوحيد الباقي لحمايتهم من أي خطر حقيقي. ومع انشغال الجيش وزعماء مجلسه الموقر! بتداعيات أحداث مجلس الوزراء ستبدو الخطوط الخلفية لأمن البلاد مفتوحة أمام أي عدوان خارجي، خاصة إذا وضعت في حسبانك "أن نظرة واحدة على الخريطة تكفي لأن تقتنع بأن حماية مصر على طول حدودها أمر صعب" وعسير كما يقول الأستاذ هيكل في الجزء الثالث من حواره مع "الأهرام". ففي الحوار المشار إليه كشف الكاتب السياسي الكبير عما أسماه "اتفاقية سايكس بيكو الجديدة"، وتحدث عن قرب استعمار جديد للعالم العربي، يسفر عن إعادة تقسيمه وفق منابع الثروات وموارد الطاقة، وليس على أساس جغرافي كما حدث في الاتفاقية القديمة. وإذا علمت أن مصر مخترقة الآن استخباراتيا وأمنيا حيث لا يخفى على أحد عبثُ أيادٍ خارجية بأمنها عبر حركات وهيأت مأجورة تتحدث باسم الشعب وحقوقه وتلبس ثياب الوطنية على الشعب والحكومة في حين تتلقى تمويلات لإبادة هذا الشعب وإحراق هذا الوطن! إذا وضعت هذه المقدمة المهمة التي لا يختلف عليها أحد من العقلاء، والتي تفرض نفسها على من يستقرئ الخريطة الأمنية والسياسية فيمكنك أن تضع أحداث "مجلس الوزراء" في سياقها التحليلي الصحيح والواقعي أيضا. وهنا يطرح سؤال نفسه علينا بإلحاح، وهو: من المستفيد من أحداث مجلس الوزراء ومن قام بإشعال فتيل أزمتها؟ ولا خلاف أن المستفيد ليسوا قطعا الثوار فالثوار شرفاء، لأنهم وقفوا يحمون المتحف المصري من لصوص "الداخلية" وكانوا يحرسون مؤسسات الدولة وممتلكاها العامة وسط أحلك الظروف، وبالتالي من قام مؤخرا بإحراق مبني المجمع العلمي ليسوا إلا مجموعة من المخربين والمأجورين ممن لا يتمتعون بأخلاق الثورة ولا بأية مبادئ للشرف أو الإنسانية أو الحضارة. وإذا كانت الصورة كما نقول فقطعا المجلس العسكري بريء من هذه الأحداث تماما، باستثناء أمر واحد سنطرحه بعد قليل بتفصيل، فالمجلس أعرب عن عدم رغبته في البقاء في السلطة غير مرة، أضف إلى ذلك أنه أعطى موعدا لتسليمها، فضلا عن إصراره على مواصلة الانتخابات البرلمانية رغم أحداث 19 نوفمبر، وأحداث مجلس الوزراء الأخيرة، مع وضعنا في الحسبان أنه قام بتشكيل مجلس استشاري وأقال الحكومة التي أتى بها ثوار التحرير بعد أن غضبوا عليها، وكلف رجلا شريفا يتمتع برصيد شعبي كبير كان مضطهدا من قبل النظام المخلوع وأعطاه صلاحيات كاملة. هذا كله بعد أن قدم اعتذارا عن أحداث 19 نوفمبر، وبدأ التحقيق في ملابساتها ووعد بمعاقبة المسئولين عنها، ومن ثم ترك للمعتصمين حق الاعتصام ولعب الكرة أمام مقر مجلس الوزراء، وكل ذلك يشهد على براءة ساحة العسكري من إشعال فتيل هذه الأزمة، ويشهد على ذلك أيضا أن الجيش بعد ممارسة نقد إعلامي وسياسي شديد عليه سدَّ مدخل شارع محمد محمود المؤدي إلى مبنى الداخلية بحوائط خرسانية، غير أن مدعي الحفاظ على أهداف الثورة قفزوا من على هذه الحوائط متجهين إلى مبنى "الداخلية" بهدف اقتحامه وإحراقه في سيناريو غريب ومريب ومتكرر، يكشف عن أن الجيش لا يمارس سياسة العصا والجزرة وإنما تُمارس ضده! ولا ريب في أن الإسلاميين أبرياء من هذه الأحداث، فهم أحرص الناس على سلامة هذا الوطن، كما أنهم بعيدين عن ميدان هذا الصراع غير الشرعي، بعد أخر جمعة لهم شهدها الميدان قبل أكثر من شهر مضى، حيث عبروا عن أرائهم بتحضر ورقي تجاه وثيقة ما يسمى بالمبادئ الدستورية، ثم غادروا الميدان، ويعزز هذا ولا يخفى على أحد أنهم ليست لهم مصلحة في هذا الصدام لأن صناديق الإرادة الشعبية تكفل لهم وباكتساح تأييد الشعب لهم كممثلين له في برلمان الثورة، ما يؤكد أن ما جرى مؤخرا ليس في مصلحتهم مطلقا، وإنما على العكس من هذا تصب الأحدث الجارية في سياق غير الذي يريدون. وإذا وضعنا في الحسبان أن مصر الآن على أعتاب استقرار، وبصدد تشكيل برلمان ودستور يتبعهما انتخابات رئاسية ومن ثم تسليم للسلطة، مع وضعنا في الاعتبار أن الإسلاميين يحوزون حاليا أغلبية مقاعد البرلمان في المرحلتين الأولى والثانية، فسيتأكد لنا أن هذا التطور لا يرضي أطرافا معينة من المؤمنين بالديمقراطية أول النهار الكافرين بها آخره، كما أنه لا يرضي أطرافا خارجية ترى في صعود الإسلاميين خطرا شديدا على مصالحها ومصالح حليفتها إسرائيل، ومن ثم ينبغي أن يتم الاستعانة بصديق أو عميل بمعنى أدق يحقق مصلحة كلا الجهتين ويقوم بافتعال صدام يسفر عن هذه الأحداث التي نعايشها ونألم لوقوعها. ومما لاشك فيه أن من أقدم على حرق مبنى المجمع العلمي والذي كان يحوي وثائق تاريخية نادرة لا يريد إحراق تاريخ مصر فقط وإنما يريد إحراق مستقبلها، ولا يتصور أن من أقدم على هذا العمل الفاسد والشاذ والخطير يجب أن تراعي حرمة لدمائه في حين لا يراعي هو حرمة التاريخ والوطن ومقدسات ممتلكات الأمة، وما أحقر وأقذر الحرية بل والثورة إذا اتُخِذتْ سبيلا لفعل هذا الفساد أو التستر على من قام به؛ كما أن من اكتفى بتصوير إحراق المجمع مكتفيا بممارسة أقصى درجات العنف ضد المتظاهرين في حين لا يتدخل جنوده لإنقاذ تاريخ مصر، وإعدام من أقدم وشارك في هذه الجريمة، حيث اكتفت قواته بتصويب رشاشة المياه على المتظاهرين في حين كانت مخطوطات نادرة بالمجمع تحتاج إلى جرعة ماء تحفظ به حياتها ليس جديرا بالبقاء طويلا على كرسي مصر، بل الخطأ أنه جلس على هذا الكرسي من الأساس والعيب على من سمح له بالجلوس عليه إبان الثورة والعيب على من يريد إنزاله من عليه الآن قهرا. نعم للمجلس دور كبير في نجاح الثورة ودور كبير في إخفاقها أيضا، وقد تمثل دور النجاح في انحيازه إلى الثوار وإنقاذ مصر من انهيار محقق والسير بها عبر خطوات بطيئة ولكنها خطوات مستقرة على المستوى العام رغم سلبياتها المتعددة والتي التمسنا له فيها الأعذار كثيرا قبل ذلك حرصا على مصلحة الوطن وفق ما نراه، بيد أنها ستكون ناجحة رغم كل السلبيات الموجهة إليها إذا أثمرت عن برلمان شرعي منتخب بإرادة حرة ورئيس منتخب بإرادة الجماهير ومن ثم نقل السلطة سلميا إلى هذا الرئيس وممارسة ذلك البرلمان دوره الرقابي والتشريعي. أما عن دور المجلس في إخفاق الثورة فيبدو أن أعضاء المجلس الذين تم انتقاؤهم بعناية ما زالوا يدينون بولاء لرأس النظام القديم وسدنة عرشه، ليتجلى موقفهم في مساندة الثورة شكليا مع عدم إيمانهم بها حقيقة ما يضطرهم إلى وضع قدم خارج الباب وأخرى داخله فلا هم خرجوا من الباب حتى الآن ولا هم رجعوا وأغلقوه. ربما يتبدى هذا في سياسة عدم الحسم الممارسة من قبل المجلس تجاه كل مطالب ومقتضيات الثورة، وهو ما انعكس على حالة الأمن العام داخل البلد خلال الفترة الماضية، حيث لم تحكم القبضة الأمنية في البلاد رغم ما تحتاجه وهي تمر بمنعطف خطير، ولم ترفع الحكومة أيضا يدها تماما لتظل البلاد في حالة من الفوضى الخلاقة والتي أثمرت عن كل هذه الأحداث الأخيرة. وكأن رجال الجيش الكبار قطعوا وعدا للرئيس المخلوع بعدم تقديمه إلى العدالة هو وكبار رجاله، وأنهم لما اضطروا إلى تقديمهم للمحاكمات، لم يتم القطع بإيقاع حكم عليهم إبان وجود المجلس بالسلطة، لتأخذ مجمل المحاكمات تأجيلات متلاحقة لوفاء المجلس لتعهداته أمام النظام المخلوع. وكنا نود أنا يصارح المجلس جماهير الشعب برغبته في عدم تقديم الرئيس المخلوع إلى المحاكمة إن صحت هذه الصفقة، وكان من الممكن القبول بهذا الطرح المرفوض في الخفاء إذا طرح على العلن، خاصة أن الشعب التونسي ما زال يحمل للجيش جميله في نجاح ثورته ولم يحاكم رجاله بل وضعهم موضع التقدير لدورهم في إنجاح الثورة رغم قيامهم بتهريب الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن على إلى السعودية. كان من الممكن أن يتغاضى الشعب عن محاكمة جلاده إن أخبره المجلس أنهم ضمنوا للرئيس عدم محاكمته جراء تنازله عن السلطة وتحقيق رغبة الشعب برحيله حقنا للدماء وحفاظا على الوطن وإنجاحا للثورة، ولكن هذا لم يحدث، وهذا بناء على الفرض المقدم حال صحة ثبوته. ورغم ضبابية المشهد الحالي يمكننا أن نرى أياد تعبث الآن بمصر وبمصيرها، مؤكدين أن هذه المرحلة الحرجة تستدعي توضيحا لخبايا ما يُحاك لنا إن كان المجلس أو جهاز المخابرات لديه معلومات حقيقية عن أية ممارسات خارجية تستهدف مصر، أيا ما كانت الدول التي تقف ورائها وإلا فسيكون تبرير المجلس المتكرر مواقفه غير المنضبطة بهذه الأسباب مريبا في موقف المصريين جميعا منه. نقول ذلك لأن إخفاء هذه الحقائق المراد بها إسقاط مصر لن يمنعها من السقوط وإن أخفاه هو اليوم فلن تخفيه هذه الدول غدا ولكن وقتها، سيكون المجلس والجيش تحديدا قد خسر الشعب ومزقه طرائق قددا، وهو بكشفه ما يدبر الآن يكسب الشعب إلى جانبه؛ ما يمثل حائط صد قوي تجاه أي عدوان يجعل العدو يراجع نفسه ألف مرة قبل أخذ قرار المواجهة. هذا أقوله للمجلس، وأما ما أقوله للعاكفين أمام مجلس الوزراء، قبيل أحداثه الدامية: ما جرى من أحداث دامية ومؤلمة أنتم المتسبب الرئيس في وقوعها، في حين تحمِّلون الآن للجيش ذنبها كاملا، فنحن لم نجد متظاهرين في العالم يهينون حكومة وطنهم باعتصامهم أمام مجلس الوزراء طيلة أكثر من 20 يوما ويمنعون رئيس وزراء مكلف من الحضور لمكتبه، في سابقة لفرض رأي ثلة من المتاجرين بوطنهم على شعب بأكمله دون مبرر مقبول أو معقول، معلنين إنكارنا المساس بجنود الجيش المصري أو إهانته أو تقزيمه أو مهاجمته، أو استعداء الشعب عليهم. فأنتم محكومون الآن بمن ارتضيتموه حاكما إبان الثورة للفترة الانتقالية، فيجب أن تقبلوا بهذا الخيار حتى النهاية، ولا يصح وغير مقبول أن تنتقلوا من وضع المحكوم إلى وضع الحاكم إلا إذا جاء موعد تسليم السلطة الذي قطعه الحاكم على نفسه دون أن يفي به. حينها سيكون لدينا رئيس منتخب وبرلمان ثوري وموعد محدد، يضع المجلس أمام مواجهة أفراده قبل مواجهة الشعب بأكمله، وستكون لكم في ذلك حجة عليه، أما الإصرار على نقل المجلس للسلطة الآن تحديدا فيبدو غير مبرر وغير مفهوم إلا في إطار العمالة لجهات معادية خاصة أن هذا التوقيت يشهد قرب انتهاء انتخاب برلمان الثورة، ما يؤكد أن هذا المطلب تقف وراءه قوى لا تريد لمصر العبور إلى مرحلة الاستقرار.
ومن هذا المنطلق أقول إن ما يحدث في مصر الآن فتنة كبيرة وإفساد عظيم يجب التصدي له بكل حزم وإن أريقت في سبيله دماء مئات من المأجورين ومناصريهم والمتعاطفين معهم؛ لأن ذلك إن لم يحدث اليوم فستراق غدا دماء ملايين الأبرياء من هذا الشعب، ولا ثمن للخروج من هذه الفتن غير هذا المخرج، والتاريخ خير شاهد لمن أراد الدليل.