شارك الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة -إيسيسكو-، في مؤتمر الأزهر العالمي للسلام، الذي افتتح أعماله في القاهرة، وينظمه الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين. وألقى الدكتور التويجري عرضاً علمياً أمام المؤتمر حول موضوع (معوقات السلام في العالم المعاصر: المخاطر والتحديات)، استهله بتوضيح أن اختلاف الناس في اللون واللسان هو في نظر الإسلام مجرد ظاهرة تدل على عظمة قدرة الخالق، وأن الناس سواء في خلقهم من أصل واحد، وأنّ أديانهم ترجع إلى مصدر واحد أيضاً، كما أن النصوص التي تجعل الإيمان والعمل الصالح وحدهما معياراً للتفاضل بين الناس، لها دلالتها المعبرة التي تؤكد أن أهل الأديان لو اتبعوا التعاليم الأصيلة لأديانهم بعد استبعاد الحشو والتحريف، فإنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وبيَّن أن الحرب مشروعة بحكم الضرورة التي تبيح المحظور، لردّ العدوان وحماية الكيان. فإذا نشبت الحرب كان للإسلام شريعته التي لا تُجيزُ قتل امرأةٍ ولا صبيٍ ولا كهلٍ ولا راهبٍ غير مقاتل، ولا إتباع مدبرٍ أو الإجهاز على جريح. وقال إن الضرورة تقتضي الربط بين تعزيز قيم السلام وترسيخ ثقافة الحوار، إبرازاً للعلاقة المتينة المتشابكة والمتداخلة بين السلام وبين الحوار، موضحاً أن لا سلام واقعياً مستقراًً ثابت الأركان، بدون حوار مسؤول بين الشركاء في الوطن الواحد، ثم بين الفرقاء الذين ينتمون إلى الإقليم الجغرافي، ثم يرتقي الحوار حتى يصل إلى مستوى الحوار على صعيد الأسرة الإنسانية بكاملها على اختلاف ثقافاتها وأديانها. وأشار إلى أن الحوار بالمفهوم العميق والمدلول الواسع الذي هو مدخلٌ للسلام، لا سقف له ولا حدود ينتهي إليها، وهو الحوار بين الثقافات والحضارات وأتباع الأديان جميعاً، والحوار بين المواطنين في الدولة الواحدة على اختلافٍ في المشارب والمذاهب والتوجّهات، وحوار شمال-جنوب، وحوار جنوب-جنوب، والحوار بين دول الحوض المتوسطي، الذي توجد فيه أصول الأديان السماوية الثلاثة. وصرح أن الهدف المشترك الجامع بين هذه الحوارات على تعدد مجالاتها واختلاف الدوافع المحفزة لها، هو بناء السلام في العقل، والسلام على الأرض، من أجل صناعة المستقبل الآمن والمزدهر للبشرية جمعاء. وذكر أن ثقافة السلام هي القاعدة العريضة لثقافة الحوار على مختلف الأصعدة، النابعة من الأديان السماوية، وأن السلام الثقافي هو حجر الزاوية في السلام الواقعي على الأرض؛ لأنه سلام العقل والروح والوجدان، وهو تعزيزٌ للأمن، وتوطيدٌ للتعاون، وتحقيقٌ للاندماج السياسي، والازدهار الاقتصادي، والتطور الاجتماعي، في مواجهة التحديات التي تفاقمت حدّتها وتنامى خطرُها، من تفشي العنف والتشدد والتطرف، وتصاعد موجات الكراهية والتمييز العرقي والديني والثقافي، وانتشار الإرهاب بكل أشكاله، إلى الارتفاع الكبير في معدلات الهجرة القسرية والطوعية، والاتجار في البشر، وتنامي وتيرة الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات وتهريب السلاح، ونشر الإلحاد والانحلال ودورهما في إفساد الحياة الإنسانية. وتحدث عن الدور المنوط بالقيادات الدينية لبناء السلام، فقال إنها جميعاً على اختلاف مواقعها وتعدّد مستوياتها، والتي هي حملةُ رسالة السلام، تتحمّل اليوم وفي كلّ وقت، مسؤولية عظيمة في نشر ثقافة السلام والتعايش الديني وقيم التسامح الإنساني؛ لأن لها التأثير القويّ على اتباعها في توجيه الأفكار نحو الرشد العقلي والوعي الديني اللذين يُبعدان الإنسان عن مزالق الانحراف والتطرف، ويجنّبانه الانحدار إلى مهاوي الإضرار بنفسه وبغيره، وإلى انتهاك حقوقه وهدر كرامته. وقال إن هذه القيادات هي صانعة السلام، إذا ما سارت على هدي الرسالات السماوية، فإذا انحرفت عن هذا الهدي الإلاهي، كانت صانعة للحرب من حيث لا تعلم. وكشف أن الحرب المشهرة اليوم على الإسلام من قبل المتطرفين، سواء في الخارج أو في الداخل، هي في الواقع حربٌ موجهة إلى الأديان جميعاً، هدفُها القضاء على التديّن وقطع صلة الإنسان بالعقيدة الدينية، لينفسح المجال للدعوات الباطلة والمبادئ المنحرفة، والفوضى العالمية الشاملة. وتحدث الدكتور عبد العزيز التويجري عن العلاقات بين أتباع الأديان في ظل الأوضاع الدولية الحالية المضطربة، فبيَّن أن الواقع يدل على ضعف كبير لثقافة السلام في النفوس والعقول، وعلى شيوع ثقافة التوجّس والحذر وثقافة الكراهية والرفض، مشدداً على ضرورة تكاتف جهود المخلصين من قادة الجماعات الدينية والمفكرين وأصحاب الرأي لنشر قيم الثقافة المتسامحة التي تقبل الآخر وتتحاور معه، وتؤلف القلوب، وتواجه تيارات التعصب والكراهية والعنف والإرهاب، وأن يكون الهدف الأسمى لهذا العمل الصالح هو نشر السلام بين الناس والتمكين له في الأرض. وقال إن الجهود التي يقوم بها الأزهر الشريف وغيره من المنظمات والمؤسسات الإسلامية والدولية، كمركز الملك عبد الله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات) الذي شرع في تنفيذ برنامج (متحدون لمناهضة العنف باسم الدين)، والإيسيسكو، التي نفذت وتنفذ برامج وأنشطة في مجال تعزيز ثقافة السلام والحوار بين الثقافات وأتباع الأديان، إذا ما قابلها تحرك مماثل من مؤسسات وهيئات للأديان الأخرى، فستكون لبنة مهمة في صرح بناء السلام العالمي. وأكد أن ثقافة السلام في الأديان قيمة مثلى، ونشرها وظيفةٌ سامية. وقال إن تلك هي رسالتنا التي ننهض بها، والتي نلتقي فيها مع أتباع الأديان الذين يشاركوننا الإحساس بهذه المسؤولية التاريخية في زمن صعب وظروف خطيرة مصداقاً لقول الله تبارك وتعالى )كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه(، ولقوله جلّ وعلا )إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون(. وقال إن تعزيز الحوار بين القيادات الدينية، هو إقرارٌ للأمن، واستتبابٌ للاستقرار، وترسيخ للسلام، على جميع المستويات، وبذلك يكون التفكيرُ في أنجع الوسائل لتعزيز هذه القيم، هو المدخل إلى صناعة السلام، بحيث يكون الربط بين الحوار والسلام ربطاً محكماً لا سبيل إلى فصله؛ مؤكداً أن الحوار يفتح المجال واسعاً للسلام ويُفضي إليه، أما القيم النبيلة المشتركة بينهما، فهي القيم الأخلاقية السامية المستمدة أساساً من الرسالات السماوية، ومن الثقافات الإنسانية المتراكمة على تعاقب العصور، التي هي عصارة الحكمة المتوارثة ومضامينها الإنسانية العميقة المتواترة، وهي قيم تحتاج إلى ترسيخ في العقول والنفوس من خلال مناهج التعليم ومنابر الدعوة ومنتديات الفكر والثقافة ووسائل الإعلام. وشدّد المدير العام للإيسيسكو على ضرورة إقامة العدل والإنصاف في النظر إلى الإسلام من قبل أولئك الذين يوجهون سهام الافتراء إليه، ويصمونه بما ليس فيه، مؤكداً أن ثقافة السلام في الإسلام أرقى من أن تكون مجرد ثقافة سياسية، أو ثقافة موسمية، فهي من الرسوخ والتمكّن والتأصيل بحيث تقترن بالمقومات الراسخة للشخصية المسلمة، لأن السلام قيمة سامية من القيم التي جاءت بها الأديان جميعاً، ما لم يقع الانحراف عنها من لدن بعضٍ من المنتسبين إلى تلك الأديان، الذين يفشون العداوة والكراهية بين الناس، ويسعون في الأرض بالظلم والعدوان على حقوق الشعوب. وتوجّه الدكتور التويجري في ختام العرض العلمي المعمق الذي ألقاه، بالنداء إلى أعضاء مؤتمر الأزهر العالمي للسلام من القيادات الدينية، فقال : (فلنعمل على تقليص مساحات الاختلاف بيننا، ونوسّع مساحات الائتلاف، فنكون بذلك قد استجبنا لله وجعلنا الدين كلّه لله )ألا لله الدين الخالص .