تنطلق الجهود المصرية المتواصلة الصادقة من أجل التوصل لحل سياسي يُنهي الأزمة في ليبيا، من مبادئ وثوابت ومرتكزات راسخة للسياسة المصرية لم تتغير منذ بدء الأزمة، أكد عليها الرئيس عبد الفتاح السيسي أكثر من مرة، وأكدت عليها كافة المؤسسات السياسية في مصر وخاصة المعنية بالملف الليبي. وتتأسس الثوابت المصرية على إلتزام مصر المبدئي والأخلاقي والسياسي القائم على وحدة واستقرار ليبيا، وتستند الثوابت على المبادئ التالية وهى الحفاظ على سيادة ووحدة الدولة الليبية، والرفض القاطع لكل صور التدخل الأجنبي، وأن يكون الطريق للحل السياسي، هو التوافق بين أبناء الشعب الليبي، من خلال التواصل بين أبناء الشعب، وأن اتفاق الصخيرات هو الإطار الأمثل للوضع الليبي، دعم الجهود الإقليمية والدولية الجادة للتوصل لحل سياسي وبعيداً عن أي حل عسكري. فضلاً عن أن طبيعة الدور المصري ترتكز على حقيقة أن العلاقات مع ليبيا تعد ذات أهمية خاصة بالنسبة لمصر فى ظل التطورات الجديدة التى يشهدها المجتمع الدولى من إعادة صياغة التحالفات السياسية الدولية والإقليمية بالنظر لاعتبارات الجوار الجغرافى والمصالح المشتركة بين البلدين، ولما تمثله هذه العلاقات من أهمية استراتيجية ليس فقط بالنسبة لمصر وليبيا وإنما للوطن العربى ككل فى هذه المرحلة التي ربما تتغير فيها قوالب السياسة العالمية مع قدوم إدارة أمريكية جديدة، وتبنيها لمحاربة التنظيمات الراديكالية الإرهابية. كما ينطلق الدور المصري من الأزمة في ليبيا، والجهود الدبلوماسية لاستعادة الأمن والاستقرار بها من محددات عدة أكد عليها الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته في افتتاح أعمال القمة العربية بمدينة شرم الشيخ في مارس 2015، وتتمثل في أن عملية الناتو غير المكتملة في ليبيا كانت لها عواقب وخيمة على الشعب الليبي الذي أضحى مصيره في أيدي جماعات متطرفة مسلحة دون وجود جيش وطني يحميه. وكما أن استعادة الأمن والاستقرار في ليبيا لا يحتل فقط أهمية قصوى بالنسبة لمصر لاعتبارات الجوار الجغرافي والصلات التاريخية القديمة، ولكن للإقليم والمنطقة العربية ككل على ضوء تشابك التهديدات ووحدة الهدف والمصير، فضلاً عن الاعتبارات المتصلة بصون السلم والأمن الدوليين الذي بات يتأثر بما تشهده الساحة الليبية من تطورات وتنامي لخطر الإرهاب. ويدعم الثوابت والمبادئ المصرية الراسخة تجاه الملف الليبي، ترحيبها عن أية مبادرات جادة يتم طرحها من دول الجوار لحل الأزمة وفق مقتضيات المصالح المشتركة بين دول الإقليم. "رسوخ الثوابت المصرية" استطاعت السياسة المصرية منذ بدء الأزمة في ليبيا أن توظف مبادئ وثوابت ومرتكزات موقفها التوظيف الأمثل لخدمة حل الأزمة الليبية سلميا، وذلك على النحو التالي: أولاً: بالنسبة لمبدأ الحفاظ على سيادة ووحدة الدولة الليبية: فمصر لازالت تدعم الحفاظ علي وحدة ليبيا وترغب في الخروج من الأزمة الحالية من خلال إطار للتسوية السياسية، وهو ما عبرت عنه مصر بوضوح من خلال دعمها للحوار السياسي الذي عُقد بين الأطراف الليبية المختلفة تحت رعاية الأممالمتحدة، وتؤكد مصر أيضاً رفضها لفكرة الميليشيات أو التشكيلات العسكرية غير النظامية وغير الخاضعة لسلطة الدولة، وبالتالي فمصر تدعم الأطراف السياسية والعسكرية الشرعية، سواء كانت مجلس النواب في طبرق أو الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر. وبات حضور خليفة حفتر ليكون طرفا من أطراف الحوار فكرة مقبولة لدى الكثير من القوى السياسية والعسكرية داخل ليبيا، والقوى الإقليمية والدولية المهتمة بالشأن الليبي، وهو ما يُعد نجاحا لمساعي الدبلوماسية المصرية في الملف الليبي. ثانياً: مبدأ التوافق بين أبناء الشعب الليبي" مبدأ المشاركة الفعلية لكافة قوى السياسة الليبية": كانت مصر خلال الفترة الماضية بمثابة "حاضنة" لكل فئات الشعب الليبي من سياسين وبرلمانيين ومثقفين ورؤساء قبائل واستضافت العديد من الاجتماعات والفاعليات الليبية؛ بهدف إجراء المشاورات وبحث إمكانيات التوصل لتوافق مشترك يتيح تجاوز المنحنى الحالي الذي تمر به ليبيا، بهدف بناء قاعدة وطنية موسعة من التوافق في ليبيا. وتحقيقاً لهذا الهدف استقبلت مصر مؤخراً في شكل منفصل، رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح ورئيس الحكومة الانتقالية فايز السراج وقائد القوات المسلحة الليبية المشير خليفة حفتر، برعاية رئيس الأركان المصري الفريق محمود حجازي المكلف بالملف الليبي، وأوجدت اللقاءات مع الأطراف الثلاثة مقداراً واسعاً من التفاهم، وأن ثمة توجهاً مصرياً لجمع القيادات الليبية في لقاء مباشر لحل الأزمة، خاصة لقاء بين حفتر والسراج. ثالثاً: بالنسبة لمبدأ التسوية السياسية القائم على اتفاق الصخيرات: فقد أيدت مصر اتفاق الصخيرات باعتباره هو الإطار الوحيد والحل الأمثل للوضع الليبي، وأن أية نقاط اختلاف بين القوى السياسية الليبية يمكن التوصل لاتفاق بشأنها، ولذلك شهدت مصر يومي 12 و13 من ديسمبر الماضي لقاءات مكثفة مع غالبية أطراف الأزمة الليبية، حين اجتمع زهاء 45 شخصية ليبية، تدارسوا جملة الأوضاع في ليبيا، وبمشاركة مصرية رفيعة المستوى، وجرى التوافق حينها على بيان صدر في ختام الاجتماعات، تضمن العديد من النقاط التوافقية، ومنها تأكيد وحدة التراب الليبي وحرمة الدم، وأن ليبيا دولة واحدة لا تقبل التقسيم، وكذلك وحدة الجيش الليبي والشرطة الوطنية لحماية الوطن والاضطلاع بمسئولية الحفاظ على مؤسسات الدولة الليبية، واحترام سيادة القانون، وضمان الفصل بين السلطات وتحقيق العدالة، وترسيخ مبدأ التوافق وقبول الآخر، ورفض أشكال التهميش والإقصاء كافة، ورفض التدخل الأجنبي وإدانته، وأن يكون الحل بتوافق ليبي، وذلك في إطار تعزيز المصلحة الوطنية الشاملة وإعلائها، والمحافظة على مدنية الدولة والمسار الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة. وتوصل المجتمعون آنذاك إلى مقترحات محددة لتجاوز أزمة الاتفاق السياسي والوصول به إلى الاتفاق الوطني، وذلك عبر تعديل لجنة الحوار الوطني الليبي، بشكل يراعي التوازن الوطني، وإعادة النظر في الفقرة المتعلقة بتولي مهمات القائد الأعلى للجيش، وهي نقطة هامة شكلت عقبة خلال توقيع اتفاق الصخيرات، الذي كان يتضمن استبعاد المشير الركن خليفة حفتر من قيادة الجيش"، إضافة إلى معالجة المادة الثامنة من الأحكام الإضافية من الاتفاق السياسي، بما يحفظ استمرار المؤسسة العسكرية واستقلاليتها وإبعادها عن التجاذبات السياسية، وكذلك إعادة النظر في تركيبة مجلس الدولة، ليضم أعضاء المؤتمر الوطني العام المنتخبين في2012، وإعادة هيكلة المجلس الرئاسي، وآلية اتخاذ القرار، لتدارك ما ترتب على التوسعة من إشكاليات وتعطيل الحل السياسي للأزمة. ولعل الاجتماعات التي شهدتها القاهرة خلال الأسبوع الماضي لكافة القوى الليبية تشير إلى انفراجة قريباً في ملف الأزمة الليبية، ونجاح التحرك المصري والدبلوماسية المصرية في الوصول بملف الأزمة الليبية إلى بر الأمان. رابعاً: مبدأ الترحيب المصري والاستعداد للتنسيق مع أي جهود أو أطراف جادة لحل الأزمة لليبية: فقد دعمت مصر جهود دول الجوار في حل الأزمة الليبية من خلال تنظيم عدد من الاجتماعات لبحث الوضع في ليبيا، ولعل أبرزها اجتماعات تونس ومبادرة الرئيس السبسي ومبادرة الجزائر ومبادرة القاهرة التي ارتكزت على ثلاثة مبادئ وهي: احترام وحدة وسيادة ليبيا وسلامة أراضيها، وعدم التدخل في الشئون الداخلية لليبيا والحفاظ على استقلالها السياسي، علاوة على الالتزام بالحوار الشامل ونبذ العنف. كما أكدت مصر أهمية الدعم الدولي فيما يتعلق بالمساعدة في إعادة بناء وتأهيل مؤسسات الدولة الليبية بالتعاون مع دول الجوار، بما في ذلك التدريب على ضبط الحدود وتوفير الأجهزة الفنية الحديثة للمراقبة والرصد، فضلا عن مساندة ما قد يتم اتخاذه من تدابير عقابية ضد الأفراد والكيانات التي ترفض التجاوب مع العملية السياسية، وتسعى لتقويضها من خلال العنف، بما في ذلك إمكانية اللجوء إلى مجلس الأمن لفرض عقوبات موجهة. ومن المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة انفراجة للأزمة الليبية تحقق الأمن والاستقرار، بشرط توافق كافة القوى السياسية والشعبية على إعلاء المصلحة الوطنية العليا، لإعادة بناء دولة حديثة قوية تتمكن من إرساء دعائم الأمن والاستقرار مرة أخرى.