المتهم الثاني في محاولة اغتياله يرسل خطاب اعتذار لمحفوظ ..وأديب مصر يقبل الاعتذار ويرسل له تلغراف تهنئة بالعيد في سجنه! أن تعفو عمن ظلمك فأنت من المحسنين أن تعفو عمن حاول قتلك فأنت من أولياء الله الصالحين ومن يقرأ أدب نجيب محفوظ بعمق سيلمس الحس الصوفي المتجذر في قلمه وقلبه .. لكن بعد أن تقرأ هذا الموضوع ستدرك بوضوح أن الرجل الذي اتهموه في عقيدته وطعنوه في دينه وأهدروا دمه وحاولوا اغتياله كان أكثر منهم قربا لروح الإسلام وسماحته، وقرر أن يعفو عن الذين غرزوا السكين في رقبته وأسالوا دمه، وهو قرار لا يقدر عليه إلا الأولياء وأصحاب الكرامات! بداية الحكاية على لسان الصحفى "ايمن الحكيم" فى الحوار الذى اجراه على صفحات مجلة "اخبار الادب" المصرية الاسبوعية مع "عمرو عبد المنعم" الباحث في الإسلام السياسي. يقول ايمن الحكيم : عندما نشرت "أخبار الأدب" فصلا من كتابي الجديد "حضرة المتهم نجيب محفوظ ..الملف القضائي لأديب مصر" قبل صدوره بأسابيع قليلة عن سلسلة "كتاب اليوم"، ثم بدأت المواقع الإخبارية تنتبه للكتاب وتنشر تفاصيل عن محتواه الخاص بالدعاوي القضائية التي كان أديب مصر طرفا فيها وذهب بسببها إلي القضاء ووقف أمام المحاكم ..ثم تلقيت اتصالا مثيرا: - هل تناول كتابك قضية "أولاد حارتنا"؟! - بالتأكيد..لقد تعرض الرجل لمحاولة اغتيال بسببها - هل تعرف أن نجيب محفوظ عفا وصفح عمن حاولوا قتله ؟ مش ممكن - وعندي جواب منه لقاتله - مشتاق للتفاصيل ..عندك مانع نتقابل؟ - في انتظارك وفي الموعد كنت أجلس إلي عمرو عبد المنعم الباحث في الإسلام السياسي، والذي أتاحت له الظروف ليعرف أكثر مما ينبغي عن جريمة اغتيال نجيب محفوظ، وأن يعرف كواليسها وأسرارها، بحكم كونه من المنطقة السكنية القريبة من منفذي العملية وباعتباره صحفي وباحث في مجالات الحركات الإسلامية والجهادية ومن هنا تكتسب شهادته أهمية خاصة، فإلي جانب دراسته الطويلة لتجربة الإسلام السياسي في مصر حتي صار الآن من أعمق باحثيها، وحصل قبل أيام علي درجة الماجستير من كلية الآداب بجامعة القاهرة، فإنه يتكلم أيضا بوصفه شاهد عيان، عرف عن قرب "مطبخ" الجماعة الإسلامية، ولذلك فإن شهادته مختلفة وجديدة وجريئة، وتحمل من التفاصيل والأسرار ما ينشر لأول مرة عن محاولة اغتيال أديب مصر الأكبر ! جلست أستمع منصتا إلي شهادة عمرو عبد المنعم ..فأنصتوا معي : تحتل رواية "أولاد حارتنا" موقعا خاصا في مسيرة نجيب محفوظ الأدبية، فقد كانت أول رواية يكتبها بعد ثورة يوليو، وأعادته الرواية إلي حالة الإبداع بعد توقف تام عن الكتابة بين عامي 1952 و1957، ثم بدأ نجيب محفوظ في كتابة "أولاد حارتنا" بعد هذا الانقطاع الطويل، واستغرقت كتابتها سنة، وانتهي من آخر سطورها في أبريل 1958، ونشرها مسلسلة بجريدة الأهرام بشكل يومي في الفترة من 21 سبتمبر 1959 وحتي 25 ديسمبر من العام نفسه. واستمر نشر الحلقات الأولي بلا مشاكل، ومع توالي النشر بدأ الجدل حول الرواية ومضمونها وأنها تتعرض للأنبياء بل وللذات الإلهية، ودخل الأزهر علي الخط، بعدما تلقي رسائل من جهات عدة تطالبه بالتدخل لوقف نشر هذا "العبث" بالمقدسات الإسلامية، وقام هيكل وكان علي رأس الأهرام بحركة شديدة الدهاء، فبعد اعتراضات لجنة الشئون الدينية بالاتحاد الاشتراكي وكانت تضم علماء كبارا كالشيخ محمد الغزالي والشيخ أحمد الشرباصي والشيخ الباقوري، وافق هيكل علي تشكيل لجنة ثلاثية من علماء الأزهر لفحص الرواية وكتابة تقرير عنها، ووعد هيكل بالامتثال الكامل لقرارها، وحين انتهت اللجنة من تقريرها الذي جاء ضد الرواية وتوصية بوقف نشرها كان الأهرام قد انتهي من نشر فصولها كاملة، ولم يعد التقرير ذا قيمة! والحق أن الأستاذ نجيب في حياته لم يكن شخصية تصادمية، بدليل أن علاقته كانت طيبة بكل الأنظمة السياسية التي عاش في ظلها، بداية من عصر الملك فؤاد حتي زمن مبارك، فلم يضبط بموقف سياسي حاد كإحسان عبد القدوس مثلا كلفه حريته، ولذلك لم يسع نجيب محفوظ إلي نشر "أولاد حارتنا"، وحتي عندما سرقت الرواية ونشرت في بيروت كان يعلن دوما أنه ليس مسئولا عنها وأنها نشرت رغم إرادته..! عمرو عبد المنعم ومرت سنوات طويلة كانت الرواية تتداول سرا ولا يلتفت إليها أحد، إلي أن جاء فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الآداب في أكتوبر 1988، فتجدد الحديث عن الرواية وعادت لتثير الجدل، خاصة بعدما قيل عن أنها كانت من الأسباب القوية لمنحه تلك الجائزة الغربية المرموقة، وكثر الحديث وقتها عن التابوهات التي كسرتها الرواية، خاصة تابوه الدين والمقدس، وأنهم منحوه الجائزة لهذا السبب، وراج ذلك التفسير في صفوف التيار الإسلامي وعلي لسان شيوخه وبأقلام مفكريه.. وجاءت رواية "آيات شيطانية" لسلمان رشدي لتشعل الموقف، حيث صدرت وقتها فتوي من الإمام الخوميني بإهدار دم مؤلفها، ورصد مليون دولار مكافأة لمن يقتله، بل وتأمين حياته فيما بعد في نطاق الأراضي الشيعية!. ووقتها كان مفتي الجماعة الإسلامية الشيخ عمر عبد الرحمن يلقي دروسه في مساجد الجماعة في منطقة عين شمس، خاصة مسجدي "قباء" و "المتقين" وعندما سئل في أحد دروسه عن سلمان رشدي وروايته التي أثارت الغضب في العالم الإسلامي قال : لو كنا قد تخلصنا من نجيب محفوظ بعد "أولاد حارتنا" ما تجرأ غيره علي التطاول علي الدين الإسلامي وما ظهر سلمان رشدي وروايته الشيطانية !..وعن نفسي كمتخصص وباحث في الفتاوي لا أري أن ما قاله د. عمر عبد الرحمن تنطبق عليه شروط الفتوي، لكن هذا شأن آخر! وأيا كان ما قاله د. عمر عبد الرحمن عن نجيب محفوظ فإنه كان المرجعية الشرعية التي اعتمدت عليها الجماعة الإسلامية عندما نفذت عملية اغتيال نجيب محفوظ ..وهنا نعود من جديد للسياق والظرف التاريخي، ففي نهايات العام 1993 حدث ما أسميه الصدام الكلي بين النظام والجماعة الإسلامية، وألقت الأجهزة الأمنية القبض علي مئات من أعضاء الجماعة وألقتهم في السجون، وكان المتداول أنهم يتعرضون لعمليات تعذيب وتنكيل بشعة، وفكرت قيادات الجماعة في الرد، وجري طرح أفكار عديدة للفت الأنظار إلي ما يتعرض له معتقلوهم في السجون، واستقروا علي اغتيال شخصية أمنية كبيرة تزلزل أركان النظام، لكن عملية اغتيال اللواء رؤوف خيرت لم تأت لهم بالنتيجة التي توقعوها ولا بالتأثير المنتظر! واتجه التفكير إلي اغتيال شخصية سياسية من المنتمين للتيار العلماني، وكان علي رأس القائمة د. رفعت السعيد والأستاذ خالد محي الدين القطبان اليساريان ومؤسسا حزب التجمع، لكن كانت الخشية أن يأتي اغتيالهما برد فعل عكسي ويزيد النقمة علي الجماعة كما حدث بعد قتل فرج فوده، وهنا قفز اسم نجيب محفوظ، فالرجل كان متهما عند التيار الإسلامي بالإساءة للإسلام وللذات الإلهية بعد "أولاد حارتنا"، وهناك فتوي جاهزة بإهدار الدم والتخلص منه، وسيؤدي قتله إلي ردع كل من يعتبرونهم خصوما للإسلام، بالإضافة وهذا هو الأهم إلي أن نجيب محفوظ أصبح شخصية عالمية بعد حصوله علي نوبل، واغتياله سيلفت نظر العالم بشدة وسيثير ضجة إعلامية هائلة، وسيلفت الأنظار إلي الجهة المنفذة وقضية معتقليها، وسيجبر النظام علي فتح باب التفاوض مع قيادات الجماعة بالخارج، وسيضغط للإفراج عن المعتقلين، بل والسماح للجماعة بأن تمارس الدعوة في المساجد من جديد بدون تضييق أمني..هكذا فكروا..وقرروا! وفي اعتقادي أن صاحب فكرة اغتيال نجيب محفوظ هو عضو بالجماعة الإسلامية اشتهر بلقب "ميزو"، المدهش أن الجماعة الإسلامية اتهمته فيما بعد أنه "عميل" لأمن الدولة، وأنه من أبلغ الأمن عن الأطباء الستة من أعضاء الجماعة الذين قام الأمن بتصفيتهم في الزاوية الحمراء، وكانوا قد قدموا من أسيوط لتنفيذ إحدي العمليات بالعاصمة، وقالت رواية الجماعة إن هناك من وشي بهم، وساعد الأمن. شكوك الجماعة الإسلامية ذهبت كذلك إلي أن "ميزو" هو الذي ورط الجماعة في مسألة اغتيال نجيب محفوظ، فهو الذي حدد الهدف وهو الذي سعي لتنفيذ المهمة دون الرجوع لقيادة الجماعة ..فبعد أن توطدت أقدام ميزو داخل الجماعة، وتوثقت صلته بمجموعة عين شمس التي كان يقودها "باسم"، فإنه استغل قلة خبرة "باسم" بالعمل التنظيمي، حيث جاء بعد خروج قيادات في وزن بهيج وأحمد يحيي، وأوعز ميزو إلي "باسم" أن الجناح العسكري للجماعة بقيادة طلعت ياسين همام يبارك عملية اغتيال نجيب محفوظ، وتوكل لمجموعته مهمة التنفيذ، وهو أمر ثبت فيما بعد أنه لم يكن صحيحا، وأن قيادة الجماعة فوجئت بما حدث! دعنا لا نستبق الأحداث ..فقد أوكلت المهمة إلي مجموعة علي رأسها محمد ناجي وعمرو إبراهيم ومحمد المحلاوي، وكان محمد ناجي هو أكثرهم خبرة وأسبقهم في الانتماء للجماعة، وسافر ضمن من سافروا من أعضاء الجماعة إلي أفغانستان، وكان مسئولا فيما بعد عن تأمين أفراد الجماعة المسافرين والعائدين من السودان، وهو من سكان عين شمس، وحاصل علي دبلوم صنايع ويعمل كفني إصلاح أجهزة إلكترونية! أما عمرو إبراهيم الذي أوكلت إليه مهمة قتل نجيب محفوظ باستخدام مطواة حادة، فهو من شباب الجماعة الإسلامية، تربي في مسجد آدم وهو أحد أشهر المساجد التابعة للجماعة في معقلها بعين شمس، وكان محدود التعليم "دبلوم صنايع"، وكان ممن يطلق عليهم داخل الجماعة "الشواكيش" أو "الهتيفة"، وأقنعوه أن نجيب محفوظ "كافر" وأن قتله تقرب لله وجهاد في سبيله، ولو مات فإنه قد نال الشهادة! تولي "باسم" مهمة التحريات والوصول إلي عنوان نجيب محفوظ ومواعيد تواجده في بيته، وكانت الخطة الأساسية أن يذهب ناجي وعمرو إبراهيم متنكرين في زي خليجي علي أنهما من معجبي الكاتب الشهير ومعهما باقة ورد علي سبيل التمويه، ويقوما بذبحه في شقته، لكن الخطة فشلت في يوم التنفيذ لعدم وجود نجيب محفوظ في بيته عندما صعدا للتنفيذ، وتقرر تأجيل العملية لليوم التالي بناء علي معلومة ذكرتها زوجة نجيب محفوظ لقتلته المتنكرين، فقد عرفا منها أن زوجها يذهب عصر الجمعة إلي كازينو قصر النيل، وعليهما مقابلته هناك إن أرادا مقابلته شخصيا! وترصد ناجي وعمرو لنجيب محفوظ أمام منزله في الموعد المحدد، وكانا يتناولان زجاجتي مياة غازية من كشك أمام المنزل بالعجوزة، وكادا يفقدان الأمل عندما تأخر نزول نجيب محفوظ، وفجأة لمحاه يركب سيارة صديقه فتحي هاشم، وكانت الخطة أن يباغته عمرو بمطواة ويطعنه طعنات نافذة في الرقبة يقطع بها شريانها، لكن عمرو تردد في التنفيذ للحظات، وعندها تناول منه ناجي المطواة والتف حول السيارة إلي حيث يجلس نجيب محفوظ في الكرسي المجاور للسائق، وظنه محفوظ في البداية من معجبيه الذين يستوقفونه في كل وقت وكل مكان ولا يضيق بهم أبدا، لكن محفوظ فوجئ بمن يطعنه في رقبته بسرعة ويفر هاربا، ولم تكن الطعنة قاتلة حيث كان ناجي يشعر بارتباك شديد بعد تردد عمرو إبراهيم في التنفيذ! وخلال ساعة كان ناجي وباسم وعمرو إبراهيم يجلسون علي مقهي بشارع صعب صالح في عين شمس، وما هي إلا دقائق حتي كانت قوات الأمن تقتحم المقهي وتطلق الرصاص علي الترابيزة التي يجلسون عليها، وقتل باسم علي الفور، وأصيب ناجي كما أصيب عمرو برصاصة في خصيته، وقتل كذلك سائق شاب لا علاقة له بالموضوع كان يجلس في ترابيزة مجاورة واخترق الرصاص جسده! وحسب معلوماتي فإن "ميزو" هو الذي أبلغ الشرطة عن مكان قتلة نجيب محفوظ وبخبر تجمعهم علي المقهي بعد تنفيذ العملية، والمدهش أن شكوك الجماعة اتجهت في البداية لمحمد ناجي، وظنته عميلا للأمن، خاصة بعد انكشافهم السريع، لكن بعدها توالت الأدلة ضد "ميزو"، خاصة عندما سقط في قضية أسيوط واعترف عليه أعضاء الجماعة اعترافات تفصيلية وحكم عليه بالمؤبد، كان هو الوحيد الذي استخدم الرئيس مبارك سلطته في تخفيف حكم المحكمة العسكرية عليه من المؤبد إلي السجن 15 عاما، وهي سابقة لم يقدم عليها مبارك في الأحكام ضد الإسلاميين إلا مرتين، مرة لضغوط خارجية مع سجين متزوج من سويسرية، والثانية مع ميزو مكافأة له علي خدماته للأجهزة الأمنية ! وبعد دقائق من إبلاغه الشرطة عن مكان قتلة نجيب محفوظ قام ميزو بإبلاغ طلعت ياسين همام مسئول الجناح العسكري الذي لم يكن يعرف شيئا عن العملية، لكنه باركها وأصدر بيانا أبلغه لوكالات الأنباء بأن "مفرزة" من الجماعة الإسلامية نفذت عملية اغتيال "الكاتب المرتد" نجيب محفوظ، وفوجئ قادة الجماعة بالخارج رفاعي طه ومصطفي حمزة بالبيان الذي تعلن فيه الجماعة رسميا تبنيها للعملية، فلم يتراجعا ولم ينكرا بل قوبل البيان بارتياح من القيادة..لكن السؤال الذي لم أجد له إجابة حتي الآن : إذا كانت الأجهزة الأمنية قد تمكنت من اختراق الجماعة الإسلامية، وكان لها عيون بداخلها مثل "ميزو"، وجري إبلاغها بالعملية قبل وقوعها، وبمكان القتلة فور وقوعها، فلماذا لم تنبه نجيب محفوظ إلي أنه مستهدف، ولماذا لم تحذره من الخروج في ذلك اليوم المشهود "الجمعة 14 أكتوبر 1994"؟! ثم سؤال آخر : إذا كان المتهمون قد استخدموا السلاح الأبيض في محاولة اغتيال نجيب محفوظ، بما يعني أنه لم يكن في حوزتهم أي سلاح ناري، ولو كان معهم لاستخدموه في تنفيذ عمليتهم ..فلماذا جري اقتحام المقهي وإطلاق الرصاص عليهم بلا مقاومة؟! لنترك الإجابة للتاريخ، ونعود من جديد لسياق الأحداث، فقد جري تحويل القضية إلي المحكمة العسكرية التي أصدرت حكمها بسرعة في القضية وخلال 3 شهور فقط من نظرها، وصدرت أحكام رادعة في 10 يناير 1995 تقضي بالإعدام شنقا علي المتهم الأول محمد ناجي والثالث محمد المحلاوي، وكان عمرو إبراهيم من بين الذين حكم عليهم بالسجن المؤبد وجري نقله إلي سجن العقرب لتنفيذ الحكم. في السجن قام عمرو إبراهيم بتعلم حرفة "الكواء" وصار يكوي ملابس السجناء مقابل أجر، واشتهر باسم "عمرو محفوظ"، كما قام بنوع من المراجعة لأفكاره، وبدأت الصورة تتضح أمامه، وبدأ يدرك أن عملية اغتيال نجيب محفوظ كانت غير شرعية، وأنه جري تضليله، والرجل لا يستحق القتل ..وتحرك ضميره، وكتب رسالة اعتذار إلي نجيب محفوظ يطلب منه أن يصفح عنه ويعفو، وقامت والدة عمرو بحمل الرسالة إلي الأديب الكبير ..وهنا كشف نجيب محفوظ عن إنسانية فياضة وصفح لا يقدر عليه إلا أصحاب النفوس العظيمة والقلوب الكريمة! تأثر نجيب محفوظ بالرسالة، وقبل اعتذار قاتله، والتمس له العذر، بل ذهب إلي ما هو أبعد، وهو سر عرفته من مصادر أثق فيها : فلم يكن نجيب محفوظ راضيا عن الحكم في قضية محاولة اغتياله، ورأي أنها قاسية وشديدة، خاصة الأحكام بالإعدام، وطلب تخفيفها، لكن طلبه قوبل بامتعاض من الأطراف في السلطة والمقربين منه، فكان عليه أن يصمت .. لكنه لم يفعل ذلك في حالة عمرو إبراهيم بالذات، فقد شعر بالتعاطف معه، وتدخل لدي مسئولين في وزارة الداخلية لنقله من سجن العقرب "المرعب" إلي سجن مزرعة طره "جنة السجناء"! وقد عرفت عمرو إبراهيم في سجن المزرعة وعاشرته واقتربت منه لأكثر من عشر سنوات، وتحاورنا كثيرا وعرفت منه كل تفاصيل العملية، وقصة الخطاب الذي أرسله إلي نجيب محفوظ ..وهو خطاب تسبب في استدعائه إلي "لاظوغلي" حيث جري التحقيق معه من جانب ضباط أمن الدولة لمعرفة ملابساته، والتنبيه عليه ألا يقدم علي أي خطوة من هذا النوع إلا بعد الرجوع إلي إدارة السجن! وتسبب الخطاب كذلك وموقف نجيب محفوظ منه في حالة من الانقسام بين قيادات الداخلية بين اتجاهين : الأول كان يميل إلي استغلال اعتذار عمرو إبراهيم وتراجعه عن أفكاره المتشددة في عمل "شو إعلامي" ويظهر قاتل نجيب محفوظ ليعتذر له علنا في وسائل الإعلام ..والثاني كان يتجه إلي الرفض بحسم، وهو رأي تبناه الصقور داخل الأجهزة الأمنية، الذين كانوا يشككون في مسألة الاعتذار والمراجعة ويرون أنها نوع من "التقية" بغرض تخفيف سنوات السجن! رأي صقور الداخلية أيده وسانده صقور المثقفين، خاصة اثنين من كبار حرافيش نجيب محفوظ وضغطا علي الرجل ليوقف هذا الصفح ويتراجع عن هذا العفو، وكان من رأيهما أن الاعتذار "تمثيلية"، والإرهابي لا يتوب بتلك السهولة، ولو خرجوا وتمكنوا منه لطعنوه من جديد! ورغم تلك الضغوط فإن الحس الإنساني لدي نجيب محفوظ كان هو الأعلي والمتغلب، صحيح أنه تراجع عن إعلان قبوله اعتذار قاتليه وصفحه عنهم بشكل علني، ولكنه لم يفقد تعاطفه مع عمرو إبراهيم، وأرسل إليه بطاقة معايدة تلغرافية علي سجنه بمزرعة طره، وقد قصد نجيب محفوظ أن يرسله رسميا عن طريق الهيئة القومية للاتصالات، وحمل رقم 053987، كما حمل توقيع نجيب محفوظ، واسم المرسل إليه كاملا : عمرو محمد محمد إبراهيم وأسرته، وعنوانه : سجن مزرعة طره العمومي .القاهرة! وهذا التلغراف الذي كان عمرو إبراهيم يعتز به كثيرا ويحمله معه طوال فترة سجنه يدل بما لا يدع مجالا للشك أن نجيب محفوظ عفا واصفح عن قاتله، فلا يعقل أن يرسل الرجل بكامل إرادته وبكامل قواه العقلية بطاقة معايدة لمن حاول ذبحه، إلا إذا كان قد غفر له جنايته! وفي احدي حملات التفتيش بالسجن، وخوفا من ضياع هذا الوثيقة الهامة أو وقوعها في يد ضباط السجن قام الوسيط الذي اعطها لي بعد ان الهمه الله بفكرة لا تخطر علي بال احد لحفظها فقد قام بفك خيط الوساذة التي ينام عليها ودس فيها هذا التلغراف حتي ارسله لي واحتفظت بها من حينها وجاء اوان نشرها تقديرا مني لنجيب محفوظ ومواقفه النبيلة الذي يدل علي كرم وشهامة وعفو لا يقدر عليه الا من اقترب الي الله بحق .