دخل السباق نحو البيت الأبيض مرحلة حاسمة في الاختيار بين مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، والمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية، وقد شهد المشهد الانتخابي الأمريكي صوراً ومظاهر غير مألوفة على المجتمع السياسي الأمريكي والتي لن يكون آخرها، الاتهامات المسبقة من جانب ترامب بأن الانتخابات التي ستُجرى في الثامن من نوفمبر المقبل سيجري تزويرها. كما واصل «ترامب» وأنصاره أيضا توجيه الانتقادات والاتهامات لوسائل الاعلام و"التحقير من توجهها المريب وأدائها المعيب" لأنها تنحاز بلا خجل ل "هيلاري" وتقف ضد انتخابه وضد إرادة الملايين من الأمريكيين حسب تعبير "ترامب" وأنصاره. ولكن بعد انتهاء المناظرة الرئاسية الثالثة والأخيرة لكلا المرشحين ترامب وكلينتون مساء أمس في جامعة نيفادا بلوس انجليس، والتي كشفت عن اهتزاز ترامب وكسب هيلاري الثقة أكثر، دخلت السباق مرحلة تكسير العظام بين الاثنين. هذه الاتهامات من جانب ترامب تضع تجربة الديمقراطية الأمريكية محل اختبار صعب، فقد أيقظ الفتنة وزرع بذور التفرقة وخلق جرحاً غائراً في النسيج الأمريكية، وفي دراسة لأحد الأكاديميين في جامعة ستانفورد أكد أن 48% من الشعب الأمريكي فقد الثقة في بالنظام الانتخابي الذي تعده أمريكا رمزاً للديمقراطية ومثلاً وفخراً لها تتباهى به أمام العالم على مدى أكثر من مائة عام. وقد خلقت حالة الاضطراب والقلق لدى ترامب نوعاً من السخط والغضب الأمريكي، إذ طالبه الرئيس الأمريكي باراك أوباما بما وصفه "بالتوقف عن النحيب"، مؤكداً أن محاولة ترامب تشويه الانتخابات الرئاسية حتى قبل أن تبدأ هي أمر "غير مسبوق" لمرشح رئاسي أمريكي. واعتبر أوباما أن "إطراء" المرشح الجمهوري على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو أيضا أمر "غير مسبوق". كما خلقت حالة ترامب هذه نوعاً من الجدل حتى داخل الحزب الجمهوري نفسه، فقد كشفت جولات ولقاءات دونالد ترامب الشعبية فى الأيام الأخيرة، أنه لا يحارب فقط هيلاري بل يحارب أيضا الحزب الجمهورى وتحديدا قياداته، وبالتالي فإن تأثير ترامب سواء الايجابى أو السلبي صار بالأمر الواضح والملموس فى توجه الناخب الجمهورى واختياره، ومن هنا تأتى التوقعات بأن الحزب قد يخسر الأغلبية فى مجلس الشيوخ. ولم يتردد عدد كبير من المراقبين السياسيين فى القول خلال الأيام الماضية أن المعركة قد حسمت على أرض الواقع وهيلارى هى الرئيس ال45 لأمريكا وفقا لحسابات الأرقام واستطلاعات الرأى على مستوى الولايات وخاصة تلك المسماة بساحات القتال والحاسمة. ورغم أن هيلارى كلينتون تتفوق فى كل استطلاعات الرأى بنسب تتراوح ما بين 4 و7 فى المائة، الا أن هذا السباق الانتخابى غير التقليدى والملئ بالمفاجآت بطوفان من التسريبات الالكترونية قد يأتى فى الأيام القليلة المقبلة بما لا تشتهيه سفن هيلاري. وكشفت انتقادات أوباما لتصريحات ترامب الأخيرة عن احتمالات دخول الإدارة الأمريكية الجديدة مواجهة إثبات قدرتها على صيانة والحفاظ على مكانة أمريكا باعتبارها القوة العظمى، حيث قال أوباما موجهاً حديثة لترامب: "فإن ذلك لا يظهر نوع القيادة والصرامة التي تسعى إليها في شخصية الرئيس إذا بدأت النحيب قبل أن تنتهي حتى اللعبة. إذا ساءت الأمر بالنسبة لك في أي وقت وخسرت، فإنك تبدأ إلقاء اللوم على شخص آخر، ولذا فإنك لا تتمتع بالمواصفات الضرورية المطلوبة لهذا المنصب". لم تكن تلك الكلمات سوى تذكير بأهمية القيادة في توظيف أدوات تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية في المستقبل التوظيف الصحيح والأمثل، وتتمثل تلك الأدوات في الأداة الدبلوماسية والأداة العسكرية والأداة الاقتصادية والأداة الدعائية "كافة وسائل الإعلام" لكن هذه الأدوات تطورت فى العقدين الماضيين تطوراً ضخماً، بحيث تبدلت مواقع الأهمية وتغيرت الأوزان النسبية للأدوات، تراجعت أدوات تقليدية لحساب جديدة مستحدثة، يأتى على رأسها وسائل الإعلام المتنوعة. الجيو اقتصادي أم الجيو سياسي؟ رغم تباهي الولاياتالمتحدةالأمريكية بأنها أقوى اقتصاد في العالم، إلا أنها أهملت المكون الاقتصادي كأداة مهمة للسياسة الخارجية، مع أنها نجحت من خلاله في الحفاظ على مصالحها خارجيًّا في الماضي. وفي المقابل كانت الأولوية للقوة العسكرية، لتشهد خلال السنوات الماضية "عسكرة" للسياسة الخارجية الأمريكية، في الوقت الذي تعتمد فيه القوى الدولية الصاعدة، لا سيما روسيا والصين، على القوة الاقتصادية كمحدد أساسي للصعود، وتحدي الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي. وإذا كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية قد تغافلت عن التقليد الذي تأسست عليه، والذي يقوم على استخدام الأدوات الاقتصادية لتحقيق أهداف جيوسياسية، فإن الإدارة الرئاسية الأمريكية المنتظرة يتحتم عليها ضرورة التوظيف الأمثل للأداة "الجيو-اقتصادية"، ويقصد بها "استخدام الأدوات الاقتصادية لتعزيز الدفاع عن المصالح الوطنية، وتحقيق نتائج جيوسياسية مفيدة، واستكشاف آثار السياسات الاقتصادية للدول الأخرى على الأهداف الجيوسياسية للولايات المتحدةالأمريكية". وتتضمن السياسات الجيو-اقتصادية على سبيل المثال: السياسة التجارية، الاستثمار، العقوبات الاقتصادية، المساعدات، السياسة النقدية، سياسات الطاقة. ومع قدوم إدارة أمريكية جديدة ستتولى القيادة في العشرين من يناير 2017، يؤكد خبراء في الشأن الأمريكي ضرورة عودة السياسات الجيو-اقتصادية لتكون أحد مداخل إدارة شئون الأمة الأمريكية في وقت تواجه فيه الولاياتالمتحدة العديد من الأزمات والإخفاقات خارجيًّا، وحاجة الاستراتيجيين إلى التفكير في أدوات جديدة لإدارة الدولة. ويكتسب اعتماد الإدارة الأمريكية الجديدة على الأدوات الجيو-اقتصادية الجديدة، خاصة سياسات الطاقة أهمية عظمى، لا سيما مع الطفرة الأمريكية من النفط الصخري الذي أعاد تشكيل الواقع الجيوسياسي عبر العالم. ولكن قبل اختيار الولاياتالمتحدةالأمريكية لثقلها الاقتصادي، يرى هؤلاء الخبراء أن على واشنطن أن تقرر كيف يكون ذلك مناسبًا لها، لأن العديد من المقاربات الجيو-اقتصادية تخضع للمفاضلة مع المقاربات الجيو-سياسية التي يعطيها صناع القرار الوزن الأكبر عند صياغة السياسات. ووفقاً لأكاديميين أمريكيين، فإن على صانعي السياسات الأمريكية التعامل مع أسئلة هامة من قبيل: كيفية تخصيص الموارد في مجال السياسة الخارجية، وكذلك حجم الإنفاق العسكري الأمريكي المتزايد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وعلى الرغم من رؤية هؤلاء أن القوة العسكرية لا تزال حيوية، إلا أنهما يدعوان الكونجرس إلى تحويل بعض موارد وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) تجاه تطبيق الأدوات الاقتصادية لتعزيز المصالح الوطنية للولايات المتحدةالأمريكية، والمساعدات الخارجية، وتشجيع الاستثمار في الخارج. إجمالاً يمكن القول أنه لإنجاز تلك التحولات وإعطاء الأدوات الجيو- اقتصادية الجديدة، الأولوية في تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية، تحتاج الولاياتالمتحدة أولاً أن تستعيد مكانتها كممثل جيو- اقتصادي قوي على الساحة العالمية، وتحتاج لكسب القدرة على مواجهة الإكراه الاقتصادي المتنامي الذي تمارسه الحكومات في آسيا وأوروبا. وأياً كانت الإدارة الأمريكية القادمة، فإن عليها الاهتمام بالسياسات والأدوات الجيو- اقتصادية لتكون إحدى أولويات الاستراتيجية الأمريكية الكبرى، خلال المرحلة المقبلة التي تشهد تغيرات هيكلية في الاقتصادات الدولية.