ايڤانا لعنتها عكا بسبب الحب جنين وباسم جمعتهما الغربة وفرقهما الوطن "باقي هناك" رفض الهجرة وأصبح على الورق "إسرائيليا" لماذا لا تشتري أموال العرب منازل الفلسطينيين؟ "إلى السيد باقي هناك المتخيل..وكل من بقى هناك في الحقيقة..هذه رواية عن فلسطينيين بقوا في وطنهم بعد حرب 1948 وأصبحوا، بحكم واقع جديد نشأ مواطنين في دولة إسرائيل ويحملون "جنسيتها"، في عملية ظلم تاريخية نتج عنها "انتماء" مزدوج غريب ومتناقض لا مثيل له، وهي رواية عن آخرين أيضاً هاجروا تحت وطأة الحرب ويحاولون العودة بطرق فردية". هكذا تبدأ رواية "مصائر:كونشرتو الهولوكوست والنكبة" الصادرة عن مكتبة "كل شيء" بحيفا، للروائي الفلسطيني ربعي المدهون والتي فازت مؤخراً بجائزة "البوكر" العربية. تحكي الرواية في أربعة فصول مأساة الهوية الفلسطينية وأسئلة النكبة وحق العودة، في الرواية شخصيات حقيقية من بيئة واقعية، غادرت ملامحها متخلية عن أسمائها وعن بعض سماتها، لتتمكن من العيش في فضاء متخيل تشبه تفاصيله الحقيقية. وظّف المدهون روايته في قالب الكونشرتو الموسيقي المكون من أربع حركات، تشغل كل منها حكاية تنهض على بطلين اثنين، يتحركان في فضائهما الخاص، قبل أن يتحولا إلى شخصيتين ثانويتين في الحركة التالية، حين يظهر بطلان رئيسان آخران لحكاية أخر وحين نصل إلى الحركة الرابعة والأخيرة، تبدأ الحكايات الأربعة في التكامل وتتوالف شخصياتها وأحداثها ومكوناتها الأخرى، وتكون ثيمات العمل التي حكمت كل واحدة من الحكايات، قد التقت حول أسئلة الرواية حول النكبة، والهلوكست والعودة. ووفقاً للمدهون، استغرق إنجاز الرواية أربع سنوات، زرت خلالها فلسطين أربع مرات، وعقدت لقاءات وأجريت حوارات، وقمت بجولات ميدانية في كل الأماكن التي جرت فيها أحداث الرواية. الأحداث تجري في ست مدن فلسطينية لم يقم المؤلف في أي منها، لكن جهود الآخرين جعل ذلك ممكناً. الحركة الأولى: جثة إيفانا تبدأ الرواية بقصة "إيفانا أردكيان"، الأرمنية الفلسطينية التي تحب طبيباً بريطانيا في زمن الانتداب عن فلسطين، وتهرب من عكا القديمة. تتزوجه وتنجب بنتاً ترحل بها إلى لندن عام 1948. قبل وفاتها توصي إيفانا بحرق جثتها، وأخذ جزء من رمادها إلى مسقط رأسها في عكا القديمة، أو إلى القدس. ونعرف من الرواية، أن بيت أردكيان ظل مغلقاً على أثاثه ومحتوياته سنوات عدة، بعد رحيل مانويل وزوجته أليس عن المدينة وهما والدا إيفانا، في السادس عشر من مايو 1948، أي قبل يومين من سقوطها بأيدي المنظمات اليهودية. كان البيت من ألف ومائة وخمسة وعشرين بيتاً آخر، ظل سليما بعد انتهاء الحرب، نصفها أصبح اليوم بحاجة إلى ترميم، والقليل منها آيل للسقوط. عائلة يهودية تدعى لاؤور، تضم خمسة أفراد، تسلمت البيت من شركة "عميدار" الإسرائيلية للإسكان، اتي تولت و"شركة تطوير عكا"، إدارة خمسة وثمانين في المئة من بيوت المدينة، وفي ما عدته الدولة أملاك غائبين، وما تزال تسيطر على ستمائة بيت، وتغلق مائتين وخمسين بيتاً آخر، وتمنع الفلسطينيين من السكن فيها. إيفانا هي زوجة الضابط الطبيب الشاب جون ليتل هاوس، الضابط البريطاني الذي يستعمر عكا، تزوج جون وإيفانا بعيدا عن عكا وأهلها، وأقيم لهما حفل صغير في قاعدة بريطانية قريبة من حيفا، حيث زف العروسان وسط ضباط القاعدة وجنودها، وحملت إيفانا وأنجبت "جولي"، وفي مارس 1948، غادرت إيفانا البلاد واختفت من حياة والديها، قيل أن "إيفانا صارت في عهدة الإنجليز"، وأعلنا والديها تبرؤهما من ابنتهما الوحيدة، بعد يوم واحد من هروبها من الحارة. وطلبت ايفانا من ابنتها جولي حرق جثتها بعد وفاتها، تقول: "بعد الانتهاء من مراسم الحرق، تنثرون حفنة من رماد جسدي فوق نهر التايمز، يأخذه من هناك غبارا ويوزعه على مياه المحيط". وأوصت بوضع حفنة أخرى من رماد جسدها في قارورة زجاجية بطول ثلاثين سنتيمتراً، يكون لها لون البحر صيفاً، وطلبت نقل القارورة إلى بيت والديها في ساحة عبود في عكا القديمة قالت: "خذوا بعضي وكل روحي إلى عكا يعتذران لها حارة حارة، خذوا ما تبقى مني وشيعوني حيث ولدت، مثلما ستشيعني لندن حيث أموت، أريد أن أدفن هنا وأن أدفن هناك". وواصلت: "إن تعذر الأمر لسبب ما، أكون سعيدة لو أخذتما هذا النصف من بقاياي إلى القدس القديمة. أتمنى أن تزورا كنيسة القيامة إن زرتما القدس، وأظنكما ستفعلان حتما صليا لي فقد يطهر ذلك روحي، احرقوا بخورا مقدسا، وانصتوا جيدا الى فيروز ترفع زهرة المدائن إلى أعالي السماء، ولتملأ صرختها المدينة. أنا متأكدة أنني سأسمعها أيضاً، لأنني سأكون هناك في السماء". توفيت إيفانا بعدها باسبوع. وبالفعل نثرت جولي رماد أمها إيفانا على نهر التايمز، وجعلا جولي وزوجها الفلسطيني "وليد دهمان" فضاء لندن نصف مثواها الأخير. وتنفيذا لوصية والدتها، ذهبت جولي ووليد إلى عكا، وهناك عرف وليد أن اليهود يدورون على البيوت هناك يعرضون أسعاراً عالية على أصحابها، وعرف أن هناك من يبيع بيته لأن الفقر قتله، وهناك من باعه لكثرة مضايقات اليهود المتدينيين الذين احتلوا عدة بيوت، وعرف أن هناك من رفض البيع تماماً وهم العكّاوية الأصليين، تمسكوا بأرضهم وبيوتم وهويتهم كانوا يصرخون: "ما عنّاش دور للبيع"، وقال له صاحب فندق في عكا "في ناس برضو حاطين عين ع الوطن وعين ع المصاري اللي زي الحلم..طب يشتروها العرب اللي متلتلين مصاري! والا خايفين منّا على مصاريهن"؟!. وتذكرت جولي ما كانت تقوله لها أمها: "لم يحم عكا ويدافع عنها في لحظات قوة رجالها وضعفهم سوى سورها". واقترحت جولي على وليد أن يبيعا بيتهم في لندن وينتقلوا للإقامة في عكا، قائلة له أنها لن تعارض شراء قطعة أرض في المجدل عسقلان، مسقط رأس وليد، يقيمان عليها بيتاً لهما، إذا كانت هذه رغبته. وسأل وليد نفسه، ما سبب هذا، أهو الذي حدث خلال الأيام العشرة التي قضياها في البلاد، يقعان في عشق مدينة، ما أن يهتف أحدهما أو كلاهما هذه أجمل مدن فلسطين حتى يعشقان مدينة غيرها، أم أن وصية أمها إيفانا غيرتها. أو لعل عكا نفسها أثرت عى جولي، عكا بسحرها الخاص بتاريخها المحفور على الحجارة، بكنائسها ومساجدها ومباينها وأسواقها القديمة. الحركة الثانية: "فلسطيني تيس" تكشف الرواية عن إحدى شخصياتها"جنين دهمان" الكاتبة التي تبدأ في كتابة روايتها "فلسطيني تيس" عن محمود دهمان، الذي يهاجر وعائلته من المجدل عسقلان إلى غزة خلال نكبة 1948. تلاحقه المخابرات المصرية. يترك عائلته ويعود سراً إلى المجدل. تُرسَم الحدود بين إسرائيل وغزة، ولا يتمكن محمود من استعادة عائلته الصغيرة. يتزوج من امرأة ثانية، ويعيش حياته الجديدة فلسطينياً في "إسرائيل". بيما تراجع جنين "فلسطيني تيس" روايتها، يروي السارد حكايتها هي: أثناء داستها في أمريكا تحب جنين الفلسطينية/ الإسرائيلية باسم الفلسطيني من الضفة الغربية. يتنقلان إلى يافا. يتزوجان ويقيمان في قلعتها القديمة. يكافح الزوجان الشابان لإنقاذ زواجهما من قوانين إسرائيلية تجعل استمراره مستحيلاً. تقول جنين: عدت إلى البلاد كعادتي بجواز سفري الإسرائيلي، عبر مطار بن جوريون في اللد، ووصل باسم بجواز سفره الأمريكي عن طريق مطار عمان في الأردن، كانت طريقة العودة تلك، أول حقائق زواجنا المضطرب، إذ توجب علينا منذ ذلك الحين السفر منفصلين في كل مرة نغادر فيها البلاد، والعودة إليها منفردين. بعد عام من زواجنا بدأ باسم يختنق بتفاصيل حياته اليومية التي استحالت مللاً مبرمجاً لا حق له في العمل ولا إذن له بذلك أصلاً، لا يتمتع بأي شكل من أشكال الضمان الصحي أو الاجتماعي لا حقوق له. لكن جنين ظلت تسانده وتشد من أزره، جنين هي قريبة وليد دهمان روت لباسم أنها حكت لوليد الروائي المقيم في لندن عن مأساة الفلسطيني أو الفلسطينية الذي يملك جواز سفر إسرائيلي وتزوج من الخارج أو حتى من الضفة الغربية أو غزة. رد وليد: "إسرائيل اللي شايفاها يا جنين مرحلة عابرة في تاريخ فلسطين". طلب باسم من جنين أن تنتقل معه للعيش في بيت لحم، لكنها رفضت قائلة أنها بخروجها ستخسر صبر ستين سنة من عمر أهلها، تحملوا فيها الكثير حتى لا يهاجروا أ ويتركوا البلد لليهود. وأعلنت جنين: لن أرحل من يافا، إن قرر باسم الرحيل فليرحل وحده، أنا لن أترك ما لي وما بنيته لمهاجرين يأتون من بلاد لهم إلى بلاد ليست لهم، يرثونني وأنا على قيد الحياة، كانت تبكي وتقول: "يا ربي مش معقول الغربة تجمعنا ويفرقنا الوطن.. يا إلهي كم أصبحت يافا قاسية علينا، لم تعد تطيق فلسطينيين ولدا في مكانين مختلفين يعيشان فيها معاً". ونعرف في الرواية، أن جنين تعرفت على باسم عبر النت، التقيا في واشنطن، واتفقا على العودة إلى البلاد معا لزيارة كل منهما ذويه أولاً، هو إلى بيت لحم في الضفة الغربية، ثم تزوجا على شواطئ مدينة يافا. ونعرف أن "باقي هناك" الشخصية الرئيسية في رواية جنين هو أبيها محمود دهمان، الذي هجر يافا لكنه لم يطق الابتعاد عنها أكثر من شهرين، وعاد ليتزوج من أم جنين. الحركة الثالثة: "باقي هناك" تذكر "باقي هناك" ما قرأه ذات مساء في التلمود "تزحف جثة اليهودي الذي مات خارج فلسطين بعد دفنها تحت الأرض إلى أن تصل إلى الأرض المقدسة وتتوحد معها". عّلق: "ما شاء الله، والفلسطيني اللاجئ ما بيصلها لا حي ولا ميت لا زاحف تحت الأرض ولا ماشي على رجله، ولا حتى هابط عليها م السما" . نعرف من جنين أن باسم في الرواية يترك جنين ويرحل عن البلاد عائداً إلى الولاياتالمتحدة قائلاً لزوجته جنين في المطار: "هذا المجتمع غير ناضج للتعايش، لا بدو إيانا نروح عنده ولا حابب يجي لعنا أبداً". أما زوجها الحقيقي باسم فيعمل منذ فترة مدرسا في جامعة بير ويت، ووضعه جيد لأنه رفض الاستقرار في يافا وكان يقول لها قبل أن ينتقل للعيش في رام الله: "أنا حبي في يافا وأحلامي في بير زيت"، وأصبح زواجنا ترانزيت مرة يجي لعندي ومرة أروح عنده، صارت حياتنا "تيك اواي". وتحكي جنين لوليد نهاية روايتها وكيف أن "باقي هناك" يخرج من بيته حاملاً يافطتين علّق عليهما صورتين، واحدة من من مذابح دير ياسين، والثانية من مذابح جرت للهيود في كييف، وذهب إلى ميدان رابين. وقف باليافطتين مرفوعتين بين يديه عالياً، وكان في الميدان أكثر من نصف مليون إسرائيلي، يقيمون مهرجاناً لتجمع قوى يمينية متطرفة، احتفالاً بفوز حزب يميني متشدد في الانتخابات النيابية، ثم راح يغني "النشيد الأممي" وانطلقت رصاصة فسقط باقي هناك أرضاً ودمه يغطي يافطتين خشبيتين محطمتين إلى جانبه. مات محمود دهمان "باقي هناك"، الرجل الذي رفض الهجرة من البلاد عام 1948 في الواقع وفي الرواية، على الرغم من الحرائق والدمار والموت والخوف والقتل الذي انتشر كعاصفة هوجاء تحصد كل شئ، لكنه لم يمت في الحقيقة بل حمل يافطتيه وغادر الساحة ومشى بعيداً عائداً بيافطتيه اللتين لم ينظر إليهما أحد. الحركة الرابعة: "يد فشم" يزور وليد متحف المحرقة "يد فشم" في القدس، كما نفذا وصية إيفانا بوضع بعض رماد جسدها عند عائلة فلسطينية تعيش في القدس، على أنغام زهرة المدائن. تعرفنا الرواية على ملامح المدن الفلسطينية، وما أجراه الاحتلال الإسرائيلي من تغيير فيها، ثم تنتقل الرواية إلى متحف ضحايا المحرقة النازية "يد فشم" حيث كان وليد يريد أن يعرف الفرق بين الحرق في أفران الغاز أو الحرق بصواريخ الأباتشي؟. نعرف أن محتويات المتحف تتوزع على قاعات مصممة بطريقة فنية رائعة، توقف وليد أمام عديد من الطاولات التي تقدم معلومات من خلال كتيبات أو أجهزة كمبيوتر، استوقفته "قاعة الأسماء"، يقول: في تلك اللحظة أطلت علي وجوه آلاف الفلسطينيين الذين عرفت بعضهم ولم أعرف الكثيرين منهم، كانوا يتزاحمون كمن يرغبون في النزول إلى قاعات المتحف والتوزع عليها، واحتلال أماكنهم كضحايا، حزنت على من هم منا ومن هم منهم، وبكيت على أولئك المتزاحمين في السماء يبحثون عن مكان يلم أسماءهم، وهمست لي كمن يعاتبني أو يعاقبني "في هذا المتحف الذي تزوره يا وليد باسم كل اسم فيه، يُقتل منكم اسم، وأحياناً أسماء ولكي لا تتكرر محرقة النازية لليهود، يشعل الإسرائيليون باسم ضحاياها، محارق كثيرة في بلادنا قد تصبح في النهاية محرقة". تابع وليد السير حول المبنى، ووجد مجموعات تنتظر في طبور وعرف أنهم يريدون زيارة متحف "ذاكرة الفلسطينيين"، الذي بُني حديثاً في أعقاب المصالحة التاريخية التي وقعت قبل سنتين فقط بين الشعبين في البلاد، وأنهت صراعاً دموياً استمر أكثر من مئة عام، شعر وليد حينها بجدوى زيارته "يد فشم"، كان يسأل عن "دير ياسين" قائلاُ في نفسه أن من لم يفهم ما جرى في دير ياسين ويحفظ درسه جيدا، لن يفهم ما جرى لأولئك الضحايا في "يد فشم". وتؤكد الرواية أن أولئك الذين يقدمون أنفسهم كضحايا النازية استعانوا بممارسات أكثر نازية من تلك التي اقترفت بحق بعض منهم، وقاموا بتطبيقها على الفلسطينيين، وخلفوا كثيرا من المحارق بحقهم. عرف وليد أن دير ياسين أصبح مكانها متحف ذاكرة الفلسطينيين. وتختتم الرواية ولم يحسما وليد وجولي أمر عودتهما إلى فلسطين، فعادا إلى لندن ليناقشا الأمر . يذكر أن الروائي ربعي المدهون استعان باسمه كشخصية روائية، بما يوحي أنه يكتب محطات من سيرته الذاتية.