المصريون منذ برزوا على صفحة الزمن و هم يضحكون و يسخرون و يتهكمون ، عصور من الشدة و الرخاء ،و تضارب الأحوال و ظلم الحاكمين و تعسف المحتلين ، كان نتاجها روح فكاهة خاصة ارتبطت بهذا الشعب منذ الأزل . و فى كتاب " الفكاهة فى مصر " للراحل دكتور شوقى ضيف ، نبحر مع أصل الفكاهة التى جرت منذ القدم فى دماء المصريين كمجرى النيل ، و يقول ضيف فى كتابه : أن مصر و شعبها ممثلين فى " الأدب الضاحك "بأكثر و أقوي مما تجدهما فى الأدب الفصيح الخالى من الضحك و الهزل ، لسبب بسيط ، أنه ينبع من صميم الشعب . الفكاهة فى الأدب الفرعونى الرسوم التى خلفها المصريين القدماء تفيض بروح الفكاهة ، ففى كتاب " مصر و الحياة المصرية فى العصور القديمة " عشرات الرسوم و الصور التى تنبئ عن هذا الطبع الساخر المتغلغل فى نفسية المصريين . ففى أحد الصور يظهر " جيشا من الجرذان يحاصر قلعة للقطط " ، و صورة لمباراة شطرنج بين أسد و غزال ، يفوز بها الغزال و " يكش الملك " الأسد ، و صورة مضحكة لذئب يرعى ماعزا بما يطابق المثل " حاميها حراميها " ، كما تظهر صورة رجلا أصلع ذو ذقن طويلة يمد يده ليمنع من يريد أن يحلق ذقنه . و من الطرائف أيضا ما كشفته " مقبرة حور محب " حيث اكتشفوا غرفة منحوتة فى الصخر ، دفن فيها كلب حور محب و قرده الأثيران عنده ، و قد وجدوهما متقابلين و أنفاهما متماسان فى وضع مضحك . كما أن عادة الضحك على الغرباء المنتشرة بين المصريين تعود للعصر الفرعونى فكانوا يسخرون من الغزاة من الرومان و الفرس و اليونان بسخرية لاذعة ، فيقول " ثيو كريتوس " الشاعر اليونانى الذى عاش فى الإسكندرية خلال القرن الثالث قبل الميلاد : " إنهم شعب ماكر ، لاذع القول ، روحة مرحة " . كما لم يسلم قيصرا من قياصرة الرومان من سخرية المصريين ، فلقبوا القيصر " فسبسيان " ب " تاجر السردين " و قالوا إنه لا يساوى ستة مليمات ، و لقبوا قيصرا آخر بلقب " النسناس المدلل الصغير " ، تلك السخرية اغتاظ لها كثيرا قياصرة الرومان ، وزادوا من قساوة حكمهم للمصريين ، و لكن هذا لم يمنع المصريين من المقاومة بالسخرية . العصور الإسلامية الأولى فى عهد ابن طولون ، كان هناك شاعر فكها ذائع الصيت يدعى " الجمل الأكبر " يقول فى إحدى نوادره :" كان قوم كسالى ينامون تحت شجرة كمثرى تعاهدوا فيما بينهم لكسلهم ، إذا سقط فى أفواههم شئ أكلوه ، و إلا فلا ، فسقطت كمثراة إلى جانب أحدهم ، فقال له الذى يليه ضعها فى فمى ، فأجابه : لو استطعت أن أضعها فى فمك لوضعتها فى فمى " . و فى عصر الأخشيد كان هناك شاعرا معروف بروحه المرحة فلقبوه ب " الجمل الأصغر " خلافة لصاحبه الأكبر ، و شاعر آخر يدعى " سعيد " كان نديما للأخشيد ، كان يلقب ب " قاضى البقر " . و لا ننسى " سيبويه المصرى "الذى سخر مسرحه الشعرى لنقد الدولة الأخشيدية الجائرة ، و كان ذو حس ساخر مميز و تلقائى ، و أثناء مرور موكب الأخشيد للصلاة ، قال سيبويه :" هذا الأصلع البطين ، المسمن البدين ، قطع الله منه الوتين ، و لا سلك به ذات اليمين ! أما كان يكفيه صاحب و لا صاحبان و لا حاجب و لا حاجبان ، و لا تابع و لا تابعان ؟ لا قبل الله له صلاة ، و لا قبل له زكاة ، و عمر بجثته الفلاة ". و كان يقول سيبويه " حصلت الدنيا على أقطع و أقرع و أرقع " و يعنى بالأقطع ابن بويه الديلمى حكام بغداد ،و الأقرع سيف الدولة بن حمدان حاكم حلب ، و الأرقع هو الكافور حاكم مصر ، فلم يسلم فى عاصره حاكم و لا قاضى و لا وزير من نقده ، و كان البعض يظنون سيبويه مجنون ، فيما عرف الآخرون أن غاية هزله جد و أن جنونه ما هو سوى جرأة . العصر الفاطمى لم يسلم الفاطميون من سخرية الشعراء ، فيقول أحد الشعراء للحاكم الذى ظن نفسه آلها : بالظلم و الجور قد رضينا .. و ليس بالكفر و الحماقة ان كنت قد أعطيت علم غيب .. فقل لنا كاتب البطاقة و لم يلبث المصريون ينقدون الفاطميين نقدا لاذعا من تمكين اليهود من المناصب العليا فى الدولة ، حتى استطاعوا بكلمات السخرية التى قد لا يظن أحد أنها لن تصنع فرقا ، من إبعاد اليهود عن أعمال الدولة و دواوينها . و فى العصر الفاطمى كثرت مجالسات الأدب و المناقشات و النوادر ، و كان يلقب الشعراء الساخرين بأسماء مضحكة مثل " الجهجهان " و " شلعلع " و " الكاسات " و " الوضيع " و " النسناس " و " ابن مكنسة " . ابن مكنسة كان ماجنا وصعلوكا ، وعرف فى وقت مبكر النقد الذاتى و السخرية من النفس ، و قال فى أبيات شعرا عما أصابه من شيخوخة : قد كبر ببر ببر .. ت و عقلى إلى ورا أما " ابن قاموس الدمياطى " فكان أهم شاعر فكه عرفته مصر الفاطمية ، و قد روت له كتب الأدب طرائف كثيرة من فكاهاته ، و كان معروف بهجائه اللاذع ، فيقول فى أحد الأبيات : و ليس كلاما ما يقول و إنما .. يجيب الصدأ من رأسه من فراغه العصر الأيوبى لم ينسى المصريون طبعهم الساخر أثناء الحروب الصليبية ، فيقول " البهاء زهيرا " : أرحنى منك حتى لا .. أرى منظرك الوعرا فقد صرت أرى بعدك .. عنى الراحة الكبرى فما تنفع فى الدنيا .. و لا تنفع فى الأخرى و من أقدم كتب الفكاهة التى تعود لهذا العصر ، كتاب " الفاشوش فى حكم قراقوش " ألفه " الأسعد بن مماتى " ، و قراقوش هو أحد قادة صلاح الدين و هو تركى الأصل عرف بشدته و قسوته ، و كان صلاح الدين يترك له مقاليد مصر عندما يغيب فى مواجهة الحروب الصليبية ، و هو الذى أقام قلعة الجبل المعروفة بقلعة صلاح الدين ، و بسبب هذا الكتاب شاع المثل الذى يرد على كل حاكم ظالم لدى المصريين بقولهم : " ده و لا حكم قراقوش " . و يقول مماتى فى كتابه : " أننى لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش محزمة فاشوش ، قد أتلف الأمة ، و الله يكشف عنهم كل غمة ، لا يقتدى بعالم ، و لا يعرف المظلوم من الظالم ، و الشكية عنده لمن سبق ، و لا يهتدى لمن صدق ، و لا يقدر أحد من عظم منزله ، أن يرد على كلمته ، و يشتط اشتطاط الشيطان ، و يحكم حكما ما أنزل الله به من سلطان ، صنفت هذا الكتاب لصلاح الدين ، عسى أن يريح منه المسلمين " . و من طرائف الكتاب عن حكم قراقوش : " جاء رجلين من أصحاب اللحى يشكون رجلا بلا لحية لعبثه بلحيتهما ، فنظر إليهما قراقوش ، و عندما وجد الرجل بلا لحية ظن أنهم هم من نتفوا لحيته ، فحكم عليهما بالسجن حتى تعود للرجل لحيته من جديد ! " و قد كتب أيضا " الأسيوطى فى نوادر قراقوش : " كان بمصر تاجر بخيل ، و كان ابنه يقترض ويوعد الناس بالرد عند وفاة والده ، و لما زاد عليه الدين ، اتفق مع الغارمين على دفن والده حيا ، و كان والد يستنجد من التابوت و لا يغيثه أحد ، حتى مر السلطان قراقوش فاستغاث به ، و شكا له من محاولة ابنه دفنه حيا ، فعندما سال قراقوش الولد كيف يدفن والده بالحياة ؟ قال ما غسلته و لا حملته إلا ميتا و هؤلاء يشهدون ، فشهدوا ، فقال قراقوش للأب : أنا جننت أصدقك و أكذب الحاضرين ، روح اندفن و لا تطمع فينا الموتى " . العصر المملوكى بالعصر المملوكى شاعت فنون اللهو و اللعب و الفكاهة ، و طالت نوادر الشعراء الحكام المماليك ، و لما قتل السلطان حسن و كان لديه ميل للنساء : قالوا فيه الشعراء : لما أتى " للعاديات " و " زلزلت " .. حفظ " النساء " و ما قرأ " الواقعة " و فى عهد بيبرس الجاشنكير و نائبه الذى لقبوه ب " دقين " كان ينشد العامة قائلين : سلطاننا ركين .. و نائبو دقين يجينا الماء من أين هاتوا لنا الأعرج .. يجى الما يدحرج و يقصدوا بكلمة " ركين " أنه مركون ، أما الأعرج فيقصدون به " محمد بن قلاوون " و كانوا يؤثرونه على بيبرس . و كان بين أمراء المماليك ، امير يسمى " طشتمر " و كانوا يلقبه العامة ب "حمص أخضر " ، و تندر عليه الشعراء كثيرا ، و قالوا : و بالدنيا حزت مالا .. ملأت منه الخزانه و كم عليكم القلوب .. يا حمص أخضر " ملانه " و من طرائف " ابن الصايغ " قوله : لعلاء الدين ذقن .. تملأ الكف و تفضل فاعمل المنخل منها .. لدقيق العيد و انخل أما " الشاعر الجزار " فاشتهر بتلاعبه بالألفاظ ، و هو شاعر كان يحترف الجزارة ، و من أشعاره : تزوج الشيخ أبى شيخة .. ليس لها عقل و لا ذهن لو برزت صورتها فى الدجى .. ما جسرت تبصرها الجن كأنها فى فرشها رمة ..و شعرها من حولها قطن و قائل قال فما سنها .. فقلت ما فى فمها سن و من أشهر كتب هذا العصر " نزهة النفوس و مضحك العبوس " لابن سودون ، كان إماما فى بعض المساجد ، إلا أنه اتخذ الهزل منهج حياة ، و نقرأ من شعره : " اوسيم " بها البرسيم كذا .. فى الجيزة قد زرع القصب و المركب مع ما قد وسقت .. فى البحر بحبل تنسحب و الناقة لا منقار لها .. و الوزرة ليس لها قتب لابد لهذا من سبب .. حزر فزر ماذا السبب وقوله : لموت أمى أرى الأحزان تحنينى .. فطالما لحستنى لحس تحنين و طالما دلعتنى حال تربيتى .. خوفا على خاطرى كى لا تبكينى أقول " مم مم " تجى بالأكل تطعمنى .. أقول " أمبو " تجى بالماء تسقينى إن صحت فى ليلة " وأ وأ " لأسهرها .. تقول " هو هو " يهز كى تنينينى العصر العثمانى لم يسلم الولاة العثمانيين من تقريع المصريين ، فيروى الجبرتى أن أهل القاهرة غضبوا من والى عثمانى ، فتجمعوا تحت قصره مرددين : باشا يا باشا يا عين القملة .. من قال لك تعمل دى العملة باشا يا باشا يا عين الصيرة .. من قال لك تدبر دى التدبيرة و من الكتب الشهيرة فى هذا العصر " هز القحوف " ليوسف الشربينى ، و هو كتاب يظهر الفقر و البؤس الذى عاش فيه أهل الريف بمصر ، و يعد الكتاب وثيقة هامة ، ويروى عن بعض شعرائهم فى حفلات العرس : يا عروسة يا ام غالى .. انجلى و لا تبالى انجلى يا وجه بومة ..زاعقه وسط الليالى وجهك بالنقش يشبه .. وجه ضبعه فى الرمال العصر الحديث فى مقهى " المضحكخانه " كان يجتمع الساخرين و فيهم " حسن الآلاتى " الذى بدأ حياته فى الأزهر ثم تحول للغناء ، و كان يعرف بفكاهاته ، و فى يوم لم تطبخ له زوجته ، و سمع شجار فى الشارع ، و سب أحدهم الآخر " يا راجل يا طبيخ " ، فأخذ الآلاتى الرغيف و خرج إليهم مسرعا ، و هو يقول " أين الرجل الطبيخ ؟ " فضحك الناس وانفضت المشاجرة . و انتشرت فى هذه الفترة الصحف الهزلية مثل " أبو نظارة " و " التنكيت و التبكيت " و " الأستاذ " ، و مجلة " حمارة منيتى " و " خيال الظل " و " الفكاهة " و غيرها من المجلات . و فى صحيفة " أبو نظارة " ليعقوب صنوع ، نجد صورة للخديوى إسماعيل يبيع فيها الأهرامات ، و كان يلقبه ب " فرعون مصر " ، و كان يخط فيها الحوارات الساخرة من حكم إسماعيل ، و يقول فيها :إن كان القصد الضحك علينا زى زمان ، فاحنا وحلانين ، و عن ذاتكم مستغنيين ، و إن كنتم عايزين النياشين بتوعكم خذوها ، و الفلاحين اهى قدامكم كلوها ، لأن بلدنا و حياة رأسك ، بعدما كانت حايزة كمال اللطافة ، أصبحت من كثر الظلم كوم شقافة ، و الله يجازى ابن الحرام . ومن شعره : إيه دى العبارة المتعوسة .. صبحت دوايرى معكوسة و الحسرة فى مغروسة ..دى وقعتى وقعة خرفان شرم برم حالى غلبان ما اعرفش إيه من دا الطالع ..مقصودهم ابقى خالع و اطلع كده منفض قالع ..يا محلى لما أصبح عريان شرم برم حالى غلبان و جابوا لى عمى الشيخ نوبار .. وعملوه رئيس الكبار يحمر لى عينه زى النار .. و أنا قاعد قصاده جربان شرم برم حالى غلبان و من صحيفة " التنكيت و التبكيت " لعبد الله النديم نقرأ : حقا الزمن ده زمن عايب .. يصبح السيد مملوك و الندل دايما فيه غالب .. و الحر ضاع جنب الصعلوك و نقرأ من مجلة " حمارة منيتى " لمحمد توفيق : يا عم يابو قورة ، سلك لنا الماسورة ، للأمة تنسطل ، من قبل ما تنهطل ، ع الأخ العزيز ، اللى بيحسبنا معيز ،و يفوتنا فى مهاميز ، و يروح بلاد الإنجليز ، و احنا واكلين بهريز " . و ممن ذاع صيتهم فى هذا العصر محمد البابلى و الشيخ عبد العزيز البشرى و حافظ إبراهيم و بيرم التونسى و المازنى وغيرهم . و فى موقف يجمع بين البابلى و البشرى ، كانا فى قارب ، و صرخ البشرى : الحقنى يا بابلى المركب ستغرق ، فنظر له الببلى بكل هدوء : و قال : ما تغرق هى بتاعتنا !. و فى مرة كان يركب حنطورا و سمع أحدهم ينادى " كورباج ورا ياسطى " و ضرب العربجة بسوطه ، فوجد المتسلق حافظ إبراهيم ، و المنادى إمام العبد ! و من مواقف حافظ إبراهيم ، مرض أحد أصدقائه بالمصران الأعور ، فبع زيارته تمارض و ظن أنه الآخر مصاب بالمصران الأعور ، فقال له أصدقائه إن المصران لا يكون فى الجانب الأيمن ، فرد قائلا : ما هو أعور يا أخى !