يحتوي كتاب "رسائل ابن عربى" للشيخ الأكبر محيى الدين محمد بن على بن محمد بن أحمد بن عربى الحاتمى الطائى، 560-638 ه، على 28 كتاب من المعانى الصوفية، نتوقف ونبحر معه في كتاب "الوصية". - لا تحقر شيئاً من عملك فإن الله ما احتقره حين خلقه وأوجبه فإنه ما كلف بالأمر إلا وله بذلك اعتناء وعناية حتى كلفك به مع كونك في المرتبة أعظم عنده، فإنك محل لوجود ما كلفك به. - لا شئ أحق بطول السجن من اللسان وقد خلقه الله خلف الشفتين والأسنان ومع هذا يفتح الأبواب ويكثر الفضول. - لا ترد سائلاً ولو بكلمة طيبة، وقابله طلق الوجه مسروراً به، وكان الحسن والحسين رضي الله عنهما إذا سأله السائل سارع إليه بالعطاء ويقول أهلاً وسهلاً تحمل زادي إلى الآخرة، وإياك وظلم العباد فإن الظلم ظلمات يوم القيامة وظلم العباد أن تمنع حقوقهم التي أوجب لله عليك أدائها، ولا تنهر السائل مطلقاً فإن الجائع يطلب الطعام، والضال يطلب الهداية. - إذا رأيت عالماً لم يعمل بعلمه فاعمل أنت بعلمه حتى تفي العلم حقه ولا تنكر عليه فإن له درجة علمه عند الله، وعليك بالتجمل فإنه عبادة مستقلة لقوله تعالى: "خذوا زينتكم" الأعراف: 31. - عليك بمراقبة الله فيما أخذ منك وفيما أعطاك فإنه ما أخذ منك إلا لتصبر فيحبك فإنه يحب الصابرين، وإذا أحبك عاملك معاملة المحب محبوبه وما من شئ يزول عنك إلا وله عوض سوى الله: لكل شئ إذا فارقته عوض/ وليس لله إن فارقت من عوض وكذلك إذا أعطاك فإن من جملة ما أعطاك الصبر على ما أخذه منك، فأعطاك الشكر وهو يحب الشاكرين، وقال موسى يارب ما حق الشكر؟ قال إذا رأيت النعمة مني فذلك حق الشكر، وعليك أداء الأوجب من حق الله وهو أن لا تشرك به شيئاً من الشرك الخفي الذي هو الاعتماد على الأسباب الموضوعة والركون إليها بالقلب، فإن ذلك من أعظم رزية دينية في المؤمن وهو المراد بقوله: "وما يؤمن أكثرهم إلا وهم مشركون" يوسف:106. وقال عليه الصلاة والسلام "أتدرون ما حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، فدخل فيه الشرك الخفي والجلي الذي هو قطع الإسلام، ثم قال أتدرون ما حقهم على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم وذلك بأن لا تتوجه إلا إلى الله، عذبهم بالاعتماد على الأسباب لأنها معرضة للفقر ففي حال وجودها يعذبهم بتوهم فقدها وبعد فقدها فهم معذبون دائماً، وإذا لم يشركوا استراحوا ولم ينالوا بفقدها ألماً. - إياك أن تريد علواً في الأرض فإن من أراده أراد الولاية وقال عليه السلام: أنها يوم القيامة حسرة وندامة، والزم الخمول ولا تطلب من الله إلا أن تكون صاحب ذلة ومسكنة وخشوع وخضوع وكل من أوصاك بما في استعماله سعادتك فهو رسول من الله إليك فاشكره عند ربك، وكن ممن علم وعمل به، ولا تكن ممن علم ولا يعمل به فتكون كالسراج يضئ للناس ويحترق، وعليك بتودد المؤمنين فإنهم كجسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى. - دين الله هو الذي يؤلف بين عباده ويبين ما فيه سعادتهم وهو يحتاج إلى علم كبير وعقل وفكر صحيح وروية حسنة واعتدال مزاج فلا يصلح لها كل واحد، وعليك بالورع في المنطق كما تتورع في المأكل والمشرب والورع عبارة عن اجتناب الحرام والشبهات، وإياك والعجلة إلا فيما أمر به وهو الصلاة في أول الوقت وإكرام الضيف وتجهيز الميت والبكر إذا أدركت وكل عمل للآخرة. - عليك بصلة الرحم فإنها شجنة من الرحمن وبها وقع النسب بيننا وبين الله فمن وصل رحمه وصله الله ومن قطعه قطعه الله، كن فقيراً من الله كما أنت فقير إليه. ومعنى فقرك من الله أن لا تشم منك رائحة من روائح الربوبية بل العبودية المحضة كما أنه ليس في جناب الحق شئ من العبودية ويستحيل ذلك عليه فهو رب محض فكن أنت عبداً محضاً، وإياك والبطنة فإنها تذهب بالفطنة فكل لتعيش وعش لتطيع ربك ولا تعش لتأكل ولا تأكل لتسمن، وعامل كل من تصحبه أو يصحبك بما تعطيه رتبته فعامل الله بالوفاء لما عاهدته عليه من الإقرار بالربوبية وعامل الرسل بالاقتداء والملائكة بالطهارة. - قال بعض المشائخ قلت لشيخي: أوصني قال: يا ولدي سد الباب واقطع الأسباب وجالس الوهاب يكلك من غير حجاب، وسأل بعضهم: أي الإخوان أحب إليك؟ قال: الذي يغفر زلتي ويسد خلتي ويقبل علتي، من أحسن سريرته أحسن الله علانيته ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه ومن أصلح لما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس. - حج هارون الرشيد راجلاً لأجل يمينه حين حنث بها فقعد يستريح فمر به البهلول – وهو بهلول بن عمرو الصيرفي وهو من عقلاء المجانين له أخبار ونوادر وشعر- وقال له: هب الدنيا تواتيكا أليس الموت يأتيكا ألا يا طالب الدنيا دع الدنيا لشانيكا إلى كم تطلب الدنيا وظل الميل يكفيكا يذكر أن الإمام ابن عربى من قبيلة طى وولد فى الأندلس وعاش فيها مع والده فى جو تقوى وتصوف وحديث وفقه، وسمع على الأئمة المعاصرين فى الأندلس، ويحكى أنه مرض مرضا شديدا وفى أثناء الحمى رأى نفسه فى المنام محاطا بقوى الشر ثم جاء فارس ففرقهم ولم يبق منهم أثر فسأله: من أنت؟ فقال أنا سورة يس، فاستيقظ فوجد والده يتلو سورة يس عند رأسه، وبالفعل برأ. ثم بدأ مسيرته الروحية، وانغمس فى أنوار الكشف والإلهام واطلع على أسرار الصوفية وهو فى العشرين، ثم أُمر بالرحلة إلى مكة حيث فُتح عليه فيها وكتب أهم كتبه "الفتوحات المكية"، ويتنقل بعد ذلك فى البلاد بين مصر والعراق والشام وتركيا ويقابل السهروردى، ويستمر فى مسيرته الروحية فى التعليم والتأليف، وقد ذكر من شيوخه سبعين ولم يكمل، وذكر من كتبه 230 كتابا حجمها ما بين الكراسة والمئة مجلد. وفى سن الستين من العمر بلغت شهرته العالم الإسلامى، وتنافس الملوك والأمراء على استضافته ولكن حالته الصحية ألزمته أن يستقر، فاستقر في دمشق للإقامه بها حتى وفاته ودفن بها.