ذلك الرجل الذي بث الذعر والخوف بين الأوساط الأمنية الغربية ، يقف الآن شامخاً مبتسماً أمام محكمة الجنايات الخاصة في باريس دون أن يخشي السجن أو الاعتقال ، فعلي الرغم من مرور 30 عاماً علي اعتقاله وسجنه منفرداً في فرنسا ، إلا انه مازال يتمتع بالحس الثوري النضالي ، ومازال عاشقاً لدور القائد ومفتخراً بالعمليات الهجومية التي قادها لاستهداف القوي الصهيونية في العديد من الدول الأوروبية . أجواء مضطربة كارلوس هو ذلك الرجل الذي عرف بأنه أشهر إرهابي علي المستوي العالمي نظراً لارتباطاته المختلفة وتحالفه مع العديد من الحركات الثورية المتطرفة سواء في الغرب أو في المنطقة العربية ، استغل أمس مثوله أمام محكمة الجنايات بتهمة ارتكابه 4 اعتداءات و التورط بتفجيرات نفِذت قبل 30 عاما في فرنسا، وأسفرت عن سقوط 11 قتيلاً ونحو 150 جريحاً، ليستمر في التعبير عن آراؤه النضالية المثيرة لغضب هيئة المحكمة فقد فاجأ الحاضرين برده الغير تقليدي علي السؤال الذي وجه إليه لمعرفة كنيته ووضعه الشخصي ، حيث أجاب مبتسماً " اسمي ايليتش مثل الرجل الذي نفذ الثورة الروسية، أنا ثوري محترف ومواطن شرف فلسطيني، حصلت على جنسيتي من الرئيس الراحل ياسر عرفات شخصياً». ولم يكتف كارلوس بهذا القدر من الاستفزاز الذي وجهه إلي هيئة المحكمة ، بل ظل يوزع العديد من الابتسامات على بعض معارفه داخل القاعة، رافعاً يده إلى الأعلى كتحية ثورية ، وتحدث كثيرا عن إسرائيل واصفاً إياها بالدولة العنصرية ، كما وصف الإسرائيليين بأنهم صهاينة مستغلين ، وكان لذلك رد فعل قوي ، فقد امتلأت القاعة بالتصفيق الحاد علي تلك العبارات الثورية ، واعتبر كارلوس أن وجوده بالسجن أمر لا مفر منه لأنه ينفذ عقوبة السجن المؤبد لإدانته بقتل شرطيين فرنسيين ومخبرهما اللبناني العام 1975 ، لذلك استغل ظهوره العلني النادر للحديث عن أفكاره ومواقفه السياسية، بصرف النظر عن جدية التهم الموجهة إليه ، وأثارت تلك التصرفات غضب محامي الادعاء " بول البير ايوينز فدان " معتبراً أن كارلوس يتصرف وكأنه يصنع ثورة جديدة وسط تجمعات معادية للإمبريالية ولا يتعامل كأنه متهم يقف أمام المحكمة الجنائية ، وأدي ذلك إلي مطالبة محامو كارلوس، وبينهم الفرنسية " إيزابيل كوتان بير" التي تزوجت منه خلال وجوده في السجن بالانسحاب من الجلسة ما يروه من أن المحاكمة سياسية وغير عادلة ومحاولتهم الانسحاب من الجلسة معبرين عن عدم تحملهم " الإفلاس " من أجل الدفاع عن كارلوس ، لكن رئيس المحكمة - القاضي اوليفييه لوران - أعاد تكليفهم وأجبرهم الدفاع عنه. وقد أفاد محضر الاتهام بأن كارلوس كان مدبراً لتلك الهجمات ليس بدافع الوطنية أو محاربة الأعداء كما يدعي بينما لرغبته في إنقاذ اثنين ممن ينتمون إلي مجموعته الذين تم اعتقالهم وهما يحملان أسلحة ومتفجرات . كارلوس في سطور ولد فلاديمير ايليتش سانشيز راميريز المشهور ب" كارلوس" في 12 أكتوبر 1949،وهو فنزويلي الأصل ينتمي إلي عائلة ثرية ، كان محباً للمعرفة والعلم ، وسافر إلى لندن لدراسة اللغة الإنجليزية وأصولها، لكنه لم يتعلم الانجليزية فقط بل أجاد التحدث بسبع لغات (الإسبانية، والفرنسية، والإنجليزية، والعربية، والإيطالية، والروسية والأرمينية)، التحق فيما بعد بجامعة باتريس لومومبا في موسكو . بدأ الانخراط في العمل الثوري منذ أن كان طالباً في جامعة موسكو، فقد أقام علاقات وثيقة جداً مع حركات ثورية كثيرة ، منها مجموعة (بادرما ينهدف) الألمانية و(الجيش الأحمر) الياباني وفي إطار هذه النشاطات أقام علاقات وطيدة مع أجهزة الاستخبارات في دول المعسكر الشيوعي ودول الكتلة الشرقية السابقة ، ثم التقي بشاب ثوري جزائري (بو ضيا) ، والذي شجعه علي الجهاد من خلال الانخراط في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأعجب كارلوس كثيراً ببو ضيا وأفكاره التي تتوافق واتجاهاته، وبعد ذلك انضم للعمليات الخارجية بالجبهة ، وأشرف على تدريبه الدكتور جورج حبش والدكتور وديع حداد، وتلقى تدريبات عده قبل انخراطه في الجبهة في فنزويلا وكوبا ، وبعد انضمامه للجبهة تدرب في مخيمات الأردن، وقاتل مع الفصائل الفلسطينية آنذاك في مواجهة جيش وقبائل الأردن، ومن ثم انتقل إلى مخيمات الجبهة في لبنان. الصعود الثوري وبعد أن أصبح ماهراً ووصل إلي قمة الذكاء في التخطيط والتخفي وتغيير ملامحه ، انتقل للعمل في أوروبا ضد الأهداف الصهيونية والمنظمات الداعمة لها لنصرة القضية الفلسطينية ، واستخدم كل إمكانياته لمحاربة الصهيونية والضغط علي الأنظمة العربية التي تتبع سياسية التطبيع مع إسرائيل . أمسك كارلوس بزمام الأمور بعد مقتل بو ضيا علي يد الموساد الإسرائيلي ، وأصبح مسئولاً عن كافة المجموعات الثورية وأدخل أسلوباً جديداً وعناصر جديدة في العمليات، حيث اشتركت معه مجموعات ثورية التي تضم عناصر من (الجيش الأحمر الياباني، ومنظمة بادرماينهوف الألمانية، وجيش تحرير الشعب التركي، والألوية الحمراء، والخلايا الثورية، ومنظمة العمل المباشر الفرنسية، بالإضافة إلى أعضاء من الجيش الجمهوري الايرلندي، ومنظمة إيتا والباسك الانفصالية). بدأ كارلوس يعكر صفو أوروبا الغربية بداية من عام 1973 حتى أواخر الثمانينات من القرن الماضي وذلك في سلسلة من الاعتداءات والأعمال الإرهابية والتي تبناها باسم مجموعة تحمل تسميات مختلفة ، وامتدت العمليات التي نفذها في أكثر من دولة أوروبية ، فقد خطط لاغتيال 11 لاعباً إسرائيلياً في الدورة الأولمبية المقامة في ميونيخ بألمانيا في عام 1972 وكان عمره 23 سنة فقط ، كما خطط وشارك لعملية الهجوم على مقر اجتماع الأوبك لوزراء البترول في فيينا بالنمسا عام 1975؛و استولى بعدها بعام على السفارة الفرنسية في "لاهاي" بهولندا، مقر محكمة العدل الدولية، واختطف طائرة فرنسية تضم شخصيات وسواح إسرائيليون إلى مطار "عنتيبي" بأوغندا ، كما قام باستهداف طائرة العال الإسرائيلية في فرنسا بواسطة (قاذف أر.بي.جي) وبعد أسبوع واحد قام باقتحام نفس المطار مع مجموعته لاستهداف طائرة العال الإسرائيلية وقد كشفت العملية ونجح باحتجاز رهائن ورضخت فرنسا لمطالبه، وقد حاول اغتيال نائب رئيس الاتحاد الصهيوني البريطاني في لندن، ورئيس شركة محلات ماركس آند سبنسر (جوزيف إدوارد ستيف) الداعم للحركات الصهيونية، وقام بتفجير عديد كبير من البنوك الصهيونية والممولة للحملة الصهيونية ومحطاتها الإذاعية، وكان لديه قائمة بأسماء الداعمين للحركة الصهيونية يريد تصفيتهم، كما قام بالتحضير لعمليات ضد الإمبريالية والصهيونية ومجموعة الرئيس المصري أنور السادات. قبضة الاعتقال تعددت الألقاب التي أطلقت عليه نظراً لطبيعة نشاطاته وأعماله فهو مثلاً (المطلوب رقم واحد) و(أشهر القادة الإرهابيين) في العالم خلال نحو ربع قرن نظراً لسلسلة العمليات الارهابية المثيرة والتي قادها أو خطط لها أو التي أعلن مسؤوليته عنها ، وهو أيضاً (الشبح) الذي حير الشرطة في أنحاء العالم فكان يفلت من قبضة الشرطة بأعجوبة ، كما أطلق عليه (الثعلب) الذي تمكن من الإفلات من كل أجهزة الشرطة الأوروبية ومن الانتربول الدولي . لكن لم يسلم كارلوس من قبضة العدو علي الرغم من المحاولات العديدة التي قام بها للهروب ، ففي 14 أغسطس 1994 تم اختطافه من قبل أجهزة الاستخبارات الفرنسية بالتعاون مع حكومة السودان بعد مطاردة استمرت لأكثر من عقدين من قبل عدة أجهزة استخبارات أوروبية وأمريكية وإسرائيلية، يقبع الآن في سجن منفرداً في فرنسا. دفاع تشافيز وكان للرئيس الفنزويلي " هوجو تشافيز " موقفاً واضحا تجاه التهم والاعتداءات التي تعرض لها كارلوس ، فقد أعلن أمس خلال لقاء مع وزير الخارجية البرازيلي "أنتونيو باتريوتا " عن مسئوليته عن كارلوس لأنه يمثل الوريث الموثوق للثورات الكبري ، وأنه ضحي بنفسه من أجل قضية الشعوب ليحقق العدالة لكافة الفلسطينيين ، مؤكدأ علي تبنيه لتلك القضية ، وأن الحكومة ستتحمل كافة مطالبه التي تجعله مستمتعاً بكافة حقوقه . ** نشر بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات