«الطلياني» يواجه أشباح النخب وإغراءات الجنرال وصاحبها : الأمل قائم لكن قداسة الرموز الوطنية فكرة عبثية خطب زين العابدين الرنانة عن العدالة .. تتحول لكابوس! ثورة الياسمين عاشت لهذه الأسباب .. وخطة الذئاب لن تدوم المبخوت : استبشرت بعد فوز أول رواياتي .. وأستعد لجزء ثان قيادي سابق في الاتحاد العام لطلبة تونس يحلم بالمدينة الفاضلة فينتهي به الحال للسقوط مع الفيلسوفة المتحررة ببئر الضياع وبيع الأوطان .. هل كان الجنرال المهيمن سببا بنكسة أجيال بأكملها، أم أن "السلف الصالح" من اليمين لليسار قد أفقدهم البوصلة ؟ . . يتحلق اللغوي والناقد التونسي البارز د. شكري المبخوت بروايته "الطلياني" والتي فازت قبل يومين بجائزة "بوكر الرواية العربية" وقبلها بجائزة "كومار" التونسية، في عالم ما قبل الربيع ، وما قبل انقلاب دموي قاده زين العابدين بن علي ضد الحبيب بورقيبة، سيعود بنا لثمانينات القرن الماضي، يفكك واقعا بائسا ألم بالأوطان العربية فكانت حتمية الثورات لتطهير البلاد .. بطل الحكاية "عبدالناصر" يحيلك فورا للزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وحلم العروبة الذي تصدع . هذا الفتى الآتي من قرى تونس والذي يمثل "جذور البطاطا" بتعبير الماركسية، أو الطبقة الكادحة المناضلة، سيكون فتى الطلبة المفوه في الدفاع عن استحقاقاتهم، طلبة يرون البلاد على حافة الإفلاس، والصراع على أشده بين الأجنحة في قصر الزعيم – يعني بورقيبة – والذي "لا يستفيق سوى ساعتين في اليوم"! وهو هنا يشير لنهاية عهد بورقيبة. أما حبيبته "زينة" طالبة الفلسفة ، القاسية والجميلة معا، هي طالبة ثورية تمرست على نقد الأيديولوجيات كلها وواجهت مع عبدالناصر ظلم القصر الحاكم ، كما يجمعهما تجربة التحرش المهينة بالطفولة. تهرب معه ويعيشان بلا زواج تحت سقف واحد،والغريبة أنها ترفض الزواج منه وتصر على تأكيد نجاحها الأكاديمي والبحثي منفردة.. لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، سيجد عبدالناصر أنه مضطر للعمل كصحفي بجريدة ناطقة باسم السلطة، وسيكشف له هذا العالم عن حجم الخيانات والبذاءات بالمجتمع ونخبته، حيث تكون الدولة ممثلة فقط في "وزارة الداخلية" ويكون وظيفة الصحفي هو تدشين صداقة مع النافذين بجهاز الأمن ومحاولة السير على الحبل حتى لا يتحول ل"واش قواد نمام" فتغلق دونه حنفية الأسرار، أو يكون "لحاسا متزلفا" فيرمى به خارج الدائرة ! أما الحبيبة فلن تكون كما كان يحلم، هي رمز لطبقة انتهازية نفعية، جاءت من بيئة متدنية، فلم تسع سوى لمصلحها بشكل "سخيف وسطحي" ، تجاهلت ما تقوم به الأنثى لحفظ أسدها في عرينه، وتجاهلت أبسط احتياجات بيتهما، بل وأجهضت نفسها، ولم يعد هناك ما يفرحها سوى مزيد من النجاحات العملية بالجامعة واجتياز الاختبارات نحو الأستاذية بالفلسفة، وكانت أهل لكل ذلك . بل إن زينة ستسعى لفراق مع عبدالناصر، في تعبير عن فصام البرجوازية البسيطة التي يمثلها عبدالناصر، مع طبقة المهمشين التي تمثلها زينة، وترتمي الأخيرة بأحضان مستشرق فرنسي ستيني، وجدت فيه ملاذها كامرأة تنشد الحرية بعيدا عن أية قيم بمجتمع محافظ كتونس . وتبرز بالرواية شخصيات مثيرة كصديقة البطلة "نجلاء" ، والتي تعوض الفتى اليافع عن إحباطاته العاطفية والجسدية مع زينة، فتكون هي الحضن والمأوى ، وهي تعبير عن امرأة منسحقة تماما، تعرضت لزواج مبكر من رجل متوحش جنسيا، عاملها بقسوة فكرهت الزواج برمته، وسقطت ببئر الرذيلة . الرواية أيضا تحتقر رجال الدين "المزيفين" ومنهم الشيخ علال الذي سعى لوطء عبدالناصر بصباه بالقوة، فكان جزاؤه الضرب بالنعال في جنازته ، كما تبرز شخصية الحاج محمود الذي تسقط ابنته "ريم" في علاقة آثمة مع عبدالناصر. وفي هذا السياق يقول سي عبدالحميد لعبدالناصر عن تنظيمات الإسلاميين السياسية : "هؤلاء ليسوا أبناء مجتمعنا، إنهم امتداد لتنظيم عالمي وراءه أموال كثيرة من أجل ضرب الأنموذج التونسي وخصائص القومية ومكاسب دولة الاستقلال .. إنهم يكرهون حداثة بورقيبة ومجلة الأحوال الشخصية ومكاسب النساء .. هم خليط من إخوان مصر ووهابية بن باز وحاكمية الخوميني" أما اليسار فهو مازال يحلم ب"ديكتاتورية البروليتاريا والإطاحة بالنظام" يقول عبدالناصر :"مثلهم مثل الإتجاه الإسلامي، مع فرق في الألوان بين الأحمر والأسود والبنفسجي، وفي الشعارات بين الطاغوت والإمبريالية ، وفي الأهداف بين استبداد بيروقراطية حاقدة على الحزب الثوري، واستبداد أشباه الفقهاء والمتسترين بالدين باسم الرب وشريعته" ربما يصدم القاريء بسقوط أغلب أبطال الرواية ببئر الرزيلة ، كما تضيع أحيانا بالرواية الأرضية المبررة لهذا التلاشي والعدمية ! لكنها إرادة الكاتب . "للا جنينة" محبوبة شقيق البطل، والذي يعمل لدى جهة مالية دولية، ويمثل تلك الطبقة التي كانت واسطة لوضع الوطن تحت مبضع البنك الدولي وتنكرها للفقراء ولبرامج الدولة وغيرها من مساويء الرأسمالية المتوحشة، وهو الذي سيغرر بزوجة الشيخ حتى تسقط، ثم يتركها فريسة سائغة ويهرب للخارج، فتسعى للإيقاع بشقيقه! حفلت الرواية برؤية فكرية رصينة لأوضاع اجتماعية وسياسية مهدت للفساد في عهد زين العابدين بن علي، وهو الذي جاء ليعلن انه لم ينقلب على سالفه، بل رأى أن أوان المسئولية قد حان بعد ان اصبح الرئيس "عاجزا" عن أداء مهمته . وسوف يعلن دولة "الديمقراطية، ونهاية الظلم" ، دولة تفتح أبوابها للمعارضين، فيخرج الإسلاميون من السجون ويكونوا أول المبشرين بمرحلة جديدة! ويتابع بن علي بخطابه الرصين بعد توليه مقعد رئاسة تم اختطافه بأن الدولة الجديدة لا مكان فيها لاستغلال النفوذ، وهي عبارة ساخرة ، ويكفي أن نتأمل حجم الفساد والتردي واستغلال بن علي وزوجته وعائلتهما لمقدرات الشعب التونسي والتي مهدت لثورة الياسمين المباركة 2010. والرجل القادم من خلفية مخابراتية، والذي نسق أمره تماما مع أمريكا – الغريبة أن القوى الكبرى ستزيحه من المشهد لاحقا بعد الثورة – هذا الرجل سيضع المعارضين في سترة جيبه، كما تشير رواية "الطلياني" فاليسار غاب عن المشهد ، واليمين سوى أوضاعه بعد أن تعهد ألا يحتكر التحدث باسم الإسلام، دين الشعب! ليس أمام عبدالناصر إلا أن يتحول لكازانوفا، يواقع الفتيات وسيدات الطبقة الراقية المثقفة، ويمضي وقته متسكعا بين الحانات والصحف التي صالت "آلة سحق ذكاء التونسيين" ، في تذكير بإعلام جوبلز . تحمل عناوين فصول العمل تعبيرات متنوعة على درب تونس المفتقدة مثل "شعاب الذكريات" ، "رواق الوجع والألم" ، "منحدرات" ، "المنعرج" ، "مسالك موحشة" ، "مفترق الطرق" ، "الدروب الملتوية" ، و"رأس الدرب"، فيما ينساب السرد بلغة فصيحة عذبة تتخللها المفردات الشعبية التونسية الدارجة وبعض قواميس عالم الصحافة وغيرها .. ما وراء الكتابة .. على هامش ملتقى الرواية سألناه: أين الأمل إذا كان حاملو الشعلة يسقطون؟ وكان رده : للأسف اعتدنا بتونس، وقولي ذلك على العرب ككل، أن نصفق لمن يجلس على الكرسي بصرف النظر من هو، فعلنا ذلك من زمن الاستعمار وحتى الآن . والأمل برغم الواقع البائس متحقق في الأبطال الباحثين عن الحياة السليبة، هذا الكدح والسعي هو الأمل حتى لو تعثرت الخطى، لأنني أريد أن أقول أن الأبطال المثاليين ليسوا سوى خيالات تؤمن بها الشعوب، لكن الحقيقة أن القادة مجرد بشر، يخطئون ويصيبون، تصيبهم داءات المجتمع الفاسد المتعفن من خيانة وتواطؤ، وينجو بعضهم وقد يصمت لأمد محدد ثم ينطلق. خذي "عبدالناصر" مثلا فهو نموذج لبعض قادة التيار اليساري، وليس الكل، حتى لا يتهمني أحد بالتعميم، وكذلك لدينا أبوالسعود، رمز اليسار المتطرف الذي خرج من السجن لينتقم بنفسه من اليسار ويتواطأ أكثر مع قبضة الأمن ضد رفاق الماضي، وزينة التي بحثت عن التحرر بغض النظر عن القيمة ، أبطال ممزقون كما نرى بالواقع، اصطدموا بصخرة الواقع وهرستهم الحياة ، ويبقى السؤال الذي حاولت إجابته أدبيا، وليس بالتنظير، لماذا عجز اليسر وحاملو القيم الحداثية الثورية عن أن يهيمنوا على السلطة؟! وعموما فقد انتهيت ب"رأس الدرب" في الجزء الأول من "الطلياني" والذي أستعد لإصدار جزئها الثاني ما بعد تولي زين العابدين ولغاية ثورة الياسمين. . ما دلالة اختيار زمن سقوط بورقيبة وصعود بن علي ؟ - رأيت أنه أكثر أزمنة تونس تشابها مع زمن ثورة الربيع وما سبقه، سنجد نفس الرموز والتيارات ، بل هناك أسماء ظهرت علنا للشارع ، فكانت الرواية صيحة تحذير من كل هؤلاء . . ألا ترى أن نقدك لرموز التيار الديني جاء قاسيا ؟ لم يكن نقدي على العموم، لكن لأولئك المتنطعين والمزيفين الذين ملأوا المنابر بضجيجهم، وهم قمعوا رغبة الشعوب العربية في الحياة، وعطلوا النهضة كثيرا، وكانوا أحد أسباب الصمت على جرائم ترتكب كزنا المحارم وغيرها، تحت دعاوى "العيب وهيبة المجتمع وشرفه" - لكنك فعلت الشيء نفسه مع كل النخب تقريبا ومن كافة الأيدولوجيات :يسار ، ليبرالية أو يمين ! الايديولوجيات مقولات عامة مغلقة تفرض عليك أن تتطابق معها ، سطوة هذه الأيديويولوجيات سجنت الإنسان فكرا وجسدا وجعلته أكثر هشاشة، ولا أعني السياسة فقط وإنما كل نسق مغلق ديني او فكري أو سياسي ، يتصور أصحابه أنهم أصحاب الحقيقة المطلقة ويرفضون من يعارضهم، وسنجد أن من يتشدقون بحرية التعبير وحقوق الإنسان يظهرون بالرواية في محاولاتهم لتصفية رفاق الماضي، تصفية جسدية حقيقية لأنهم صاروا خارج سلطتهم. فأنا أقول بأن الخيانة تأتيك من أبعد من تتصور أن تأتي منهم . أما بخصوص النخب ، فقد أصبنا بخيبة كبيرة خاصة بنخبتنا السياسية والثقافية، رغم أنهم قاموا بإنجازات بلا شك في صياغة الدستور وصوغ عقد اجتماعي لحفظ حق المرأة التونسية واستطاع المجتمع المدني مع الاتحاد العام للشغل الضغط لتقليم أظافر التيارات التي خدعت الجماهير باسم الدين . _ برأيك ، لماذا كتبت الحياة لثورة الياسمين التونسية ؟ تونس قطعت شوطا من تأسيس دعائم دولة مدنية حداثية، وكان ذلك من أواسط القرن التاسع عشر وإبان الاستعمار الفرنسي، والذي استقلت عنه تونس ولكنه خلف آثارا، وشاركت مختلف الأطياف الثقافية في صياغة هوية تونس، وبرأيي فإن الإسلاميين تبنوا شعارات حداثية مؤخرا ولكنها قيد الاختبار لمعرفة مدى صدقيتها وتمسكهم الحقيقي بالفكر الإصلاحي الوطني . - ما دلالة انتهاء المتنورة التونسية بأحضان رجل من باريس ؟ هو مستشرق غربي رأت انه يمثل التحرر وهذه القيمة التي كانت تنشدها، وأنا لم أدافع عنها بالرواية، فهي لها نسق شخصية يميل للتطرف في هذا التحرر والرغبة في نبذ الماضي وبدا ذلك منذ رحلت عنها أمها فقالت أنها صارت أم نفسها ورفضت الصلة التي تربطها بزوجها العرفي وسافرت للخارج . - لماذا تأخر ظهور أول رواياتك وهل تفضل النقد أم الإبداع ؟ أحيانا نحتاج لأعمار طويلة من التأمل والاحتكاك والممارسة بالحياة كي يكون إبداعنا صادقا معبرا عن المجتمع والواقع . وأنا أيضا مشغول بالنقد وبالعمل الأكاديمي حيث أرأس جامعة منوبة بتونس . وعموما لا أفضل النقد عن العملية الإبداعية، قد منحني أدوات كثيرة للكتابة والدليل أن تصل أولى رواياتي لمنزلة طيبة عند القراء والمحكمين، يبقى أن لي تجارب اخرى بالشعر والقصة وكلها أجناس تلبي لدي حاجة فكرية وثقافية ، تماما كما النقد والعمل البحثي الأكاديمي، ودائما يكون هناك شوق يحملك لأن تقول ما لا يمكن قوله نقديا ، وأنت حين تكتب تنسى تماما صلاتك بالنقد وتنساب كمبدع . - بعيدا عن الأدب .. هل تشعر بالقلق من وصول الجماعات المتطرفة لقلب تونس؟ نعيش خطة الذئاب المنفردة التي تقرأ أدبيات التوحش فتضرب بلا هوادة كل منجزاتنا ، ولن نأسف على تراث وحضارة وآثار طالما أن العدو لا يحترم حق الإنسان في الحياة ويمارس القتل البشع بصوره وبدم بارد وزورا ينسب أفعاله لديننا القويم وهو منه بريء . وبالطبع جاءت الأعمال الإرهابية على مقربة من البرلمان التونسي وفي متحف يرتاده السائحون من كل الجنسيات ولكن تلك الأعمال الخسيسة لن تفلح في تحقيق مبتغاها على المدى البعيد .