هل الأشجار تقلل من تأثير التغيرات المناخية؟.. البيئة ترد    لبنان.. استشهاد سيدتين جراء الغارة الإسرائيلية على مبنى في جناتا    الطيران الحربي للاحتلال الإسرائيلي يشن غارة تستهدف موقعا وسط مدينة رفح الفلسطينية    الاتحاد السكندري: شعورنا بالفوز بدوري السلة لا يوصف.. ونشكر الخطيب    القنوات الناقلة لمباراة افتتاح يورو 2024 بين ألمانيا وإسكتلندا    هيثم عرابي: حققنا قفزة كبيرة في الدوري بالفوز على الجونة    ننشر صور الأشقاء ضحايا حادث صحراوي المنيا    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 14 يونيو: انتبه لخطواتك    في يوم التروية.. صور وخلفيات للحرم المكي اجعلها خلفية لتليفونك    «الأرصاد» تكشف عن انكسار الموجة الحارة    أماكن ذبح الأضاحي مجانا بمحافظة الإسماعيلية في عيد الأضحى 2024    بايدن يكشف العائق الأكبر أمام تنفيذ خطة وقف إطلاق النار    ناتشو يقترب من اتحاد جدة السعودى براتب 20 مليون يورو سنويا    تحرك نووي أمريكي خلف الأسطول الروسي.. هل تقع الكارثة؟    جامعة الدلتا تشارك في ورشة عمل حول مناهضة العنف ضد المرأة    بشرة خير.. تفاصيل الطرح الجديد لوحدات الإسكان الاجتماعي    يورو 2024| أصغر اللاعبين سنًا في بطولة الأمم الأوروبية.. «يامال» 16 عامًا يتصدر الترتيب    مباراة الزمالك وسيراميكا كليوباترا في الدوري المصري.. الموعد والقنوات الناقلة والتشكيل المتوقع    مصطفى فتحي يكشف حقيقة البكاء بعد هدفه في شباك سموحة    شوبير: وسام أبو على يغيب 3 أسابيع.. وخارج مباراة الأهلي والزمالك    المدير التنفيذي لنادي الزمالك يكشف خطة تطوير النادي.. وآخر تطورات أزمات الأبيض    بعد استشهاد العالم "ناصر صابر" .. ناعون: لا رحمة أو مروءة بإبقائه مشلولا بسجنه وإهماله طبيا    مصطفى بكري يكشف موعد إعلان الحكومة الجديدة.. ومفاجآت المجموعة الاقتصادية    استعجال تحريات شخص زعم قدرته على تسريب امتحانات الثانوية بمقابل مادي بسوهاج    السيطرة على حريق "غية حمام" فى أوسيم بالجيزة    قبل عيد الأضحى 2024 .. تعرف على مواعيد مترو الأنفاق خلال الإجازة    جماعة الحوثي تعلن تنفيذ 3 عمليات عسكرية بالصواريخ خلال ال 24 ساعة الماضية    أوس أوس: وافقت على عصابة الماكس بسبب أحمد فهمي    مستقبلي كان هيضيع واتفضحت في الجرايد، علي الحجار يروي أسوأ أزمة واجهها بسبب سميحة أيوب (فيديو)    تصعيد أمريكي جديد ضد إيران    5 أعمال للفوز بالمغفرة يوم عرفة.. تعرف عليها    هل تمثل مشاهد ذبح الأضاحي خطورة نفسية على الأطفال؟    ماذا تفعل لتجنب الإصابة بنوبات الاكتئاب؟    سفير السعودية بالقاهرة يشكر مصر لتسهيل إجراءات سفر حجاج فلسطين    3 مليارات جنيه إجمالي أرباح رأس المال السوقي للبورصة خلال الأسبوع    رئيس "مكافحة المنشطات": لا أجد مشكلة في انتقادات بيراميدز.. وعينة رمضان صبحي غير نمطية    عناوين مراكز الوقاية لتوفير تطعيم السعار وعلاج حالات ما بعد عقر الحيوانات    سعر ساعة عمرو يوسف بعد ظهوره في عرض فيلم ولاد رزق 3.. تحتوي على 44 حجرا كريما    حملات مكثفة على محال الجزارة وشوادر الذبح بالقصاصين    لإيداعه مصحة نفسية.. ضبط مريض نفسي يتعدى على المارة في بني سويف    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية بالأسواق الجمعة 14 يونيو 2024    عماد الدين حسين: قانون التصالح بمخالفات البناء مثال على ضرورة وجود معارضة مدنية    عماد الدين حسين يطالب بتنفيذ قرار تحديد أسعار الخبز الحر: لا يصح ترك المواطن فريسة للتجار    وكيل صحة الإسماعيلية تهنئ العاملين بديوان عام المديرية بحلول عيد الأضحى المبارك    دواء جديد لإعادة نمو الأسنان تلقائيًا.. ما موعد طرحه في الأسواق؟ (فيديو)    نقيب "أطباء القاهرة" تحذر أولياء الأمور من إدمان أولادهم للمخدرات الرقمية    حدث بالفن| مؤلف يتعاقد على "سفاح التجمع" وفنان يحذر من هذا التطبيق وأول ظهور لشيرين بعد الخطوبة    دعاء يوم التروية مكتوب.. 10 أدعية مستجابة للحجاج وغير الحجاج لزيادة الرزق وتفريج الكروب    محافظ الإسكندرية: قريبًا تمثال ل "سيد درويش" بميدان عام في روسيا (صور)    «انتو عايزين إيه».. إبراهيم سعيد يفتح النار على منتقدي محمد صلاح    محمد صلاح العزب عن أزمة مسلسله الجديد: قصة سفاح التجمع ليست ملكا لأحد    تراجع سعر السبيكة الذهب (مختلف الأوزان) وثبات عيار 21 الآن بمستهل تعاملات الجمعة 14 يونيو 2024    القبض على سيدة ورجل أثناء تسليم مخدرات بإدفو في أسوان    حزب الحركة الوطنية يفتتح ثلاثة مقرات في الشرقية ويعقد مؤتمر جماهيري (صور)    محافظ شمال سيناء يعتمد الخطة التنفيذية للسكان والتنمية    الأنبا تيموثاوس يدشن معمودية كنيسة الصليب بأرض الفرح    آداب عين شمس تعلن نتائج الفصل الدراسي الثاني    لبيك اللهم لبيك.. الصور الأولى لمخيمات عرفات استعدادا لاستقبال الجاج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر منوّرة بأهلها!
نشر في محيط يوم 23 - 08 - 2014

صدمتنى إلى حد الاختناق صورة القاهرة المظلمة بعنوانها الاستفزازى التهكمى المصاحب لها «مصر منوّرة بأهلها» باتساع الصفحة الأولى لإحدى جرائدنا المصرية الصباحية هذا الأسبوع.. لم أصدق عينى من هول الإساءة للوطن فى أحرج ظروفه،
والتعريض بأهله وكأنهم أعمدة ظلام وليسوا صناع حياة ونور على نور.. كيف بالله طاوعهم قلبهم على إسدال ستار أسود بغيض على غد مشرق تتناقل رياداته وإنجازاته الأسطورية أقلام العالم تصنعه الأيادى المصرية التى تمسك فأس النماء بيد وتزيل باليد الأخرى آثار الإرهاب الأسود الذى يدور كالملتاث على كل بقعة ضوء محاولا إخمادها، وتضحى بخيرة أبنائها للحفاظ على أمن مصر، وأمن من يسيئون إليها بالصوت والصورة!..
ولأن العقل «دفتر» لم تزل الصورة السابقة بنفس المساحة لنفس الجريدة ماثلة أمام العين لأحد مداخل المقرات الانتخابية لرئاسة الجمهورية شاغرًا اللهم إلا من ظل بعيد لمواطن يتيم لتعكس انفضاض الجماهير عن التصويت، فأتى لها الصباح التالى بصفعة مدوية بنتائج «بشرة خير» المزغردة فى جميع المحافظات.. كيف بالله لم تتسع تلك الصفحة وغيرها لهواة تصيد العناكب والضرب تحت الحزام والتمسكن حتى التمكن لنشر لقطات بمساحات بانورامية مماثلة للإنجازات وليس للسيئات وحدها، ولديها أكثر من 850 مشروعا قائما فى جميع المجالات منها على سبيل المثال سيمفونية الطرق والكبارى والمحاور الجديدة الرحبة التى تذيب بامتدادها النورانى الجلطات المستديمة من شرايين المرور فى العاصمة بين يوم وليلة، وتوصل الرحم بسلاسة وأمان بين أبناء المحافظات، وتمحو تفشى سرطان التعديات..الخ.. وإذا ما كان إغفال صور الإنجازات سهوًا فلماذا لا ينسدل مثل هذا السهو المريب على الدعاية المجانية بتوسيع مساحات نشر الصور والأخبار المقيتة للمذابح الاستعراضية التى تبثها جماعات الإرهاب وخوارج العصر الآن باسم بيت المقدس وداعش حلوان وشياطين القلعة والإخوة كرامازوف وثلاثى أبناء القاعدة.. الخ.. وغيرها من الأسماء الترامادولية لخلق بيئة حاضنة للخوف تضخم من كيانات إجرامية تستخدم حرب العقول، وكان الأجدى والأوقع تأثيرا مناهضاً للإرهاب نشر صور ضبط التكفيريين بما يعكس أن الجريمة لا تفيد، ومرسى لن يعود، ودم الشهداء أبدًا لن يذهب هباءً، ومصر الجديدة قد نضت عنها ثوب الإخوان ومزقت أكمامه وبترت ذيوله.. و..وحتى مشروع قناة السويس الجديدة الذى يحق فيه المثل الشعبى «مالاقوش فى الورد عيب قالوا له يا أحمر الخدين» عندما لم يجد فيه المفترى خدشًا ولا غشاً وإنما سلام سلام وخير وفير، قام بعد غسل يديه من مسئولية الكتابة بنفسه بنشر رسالة جاءته بالبريد يعلن فيها صاحبها: «عن تخوفه من فشل المشروع، كما فشل من قبل السد العالى، بسبب نقص الدراسات الاستراتيجية لتقييم الأثر البيئى والاجتماعى للمشروع»... لا والله!!! وما قولك ونحن لم نقل بعد يا هادى فى عملية الحفر والأوناش الجديدة لم تزل بشوكها فى مسارعة البنك الدولى للمشاركة فى المشروع مؤكدا على لسان مندوبه بالقاهرة هاتفيج شافر «أنه سيغيّر من المشهد الاقتصادى لمصر، وسيحوّل الأرض حول القناة لمركز عالمى لوجيستى صناعى لخدمة التصدير مما يسمح للشركات المصرية بالنفاذ الواسع للأسواق العالمية، فضلا عن توفير فرص عمل ضخمة للشباب المصرى وتحسين حياتهم».. إذا كنت تدرى ونشرت فتلك خيانة وإن كنت لا تدرى فانتماؤك للمهنة عار عليها..
ووسط الألم ووجع القلم ونحن على شفا إعداد وثيقة شرف جديدة للإعلام والأقلام لابد وأن ندرك أن الفارق قد أصبح جلياً واضحاً بين الكتّاب والكتَبة.. قلم الكتّاب متصل بوريد القلب، وقلم الكتبة متصل بوريد المصلحة.. الكتّاب يكتبون ما تمليه عليهم ضمائرهم، والكتبة يكتبون ما يُملى عليهم.. والكتابة انفصلت عن القراءة وتراجعت الموهبة وغدت الثقافة علاقات عامة ومصالح وشِلل وتويتر وفيس بوك وشات، وبالأمس دخل صاحبنا صالة التحرير رابطا صباع رجله فسألوه: سلامتك إيه اللى جرى؟ فأجاب: صابعى انكسر.. فأتاه الرد المفحم: بطل كتابة لأجل تريّحه.. والكتابة الآن قد غدت مهنة من لا مهنة له.. لكل مهنة شروط وشيوخ إلا الكتابة الآن التى أصبحت ما لها شيوخ ولا مرجع ولا ميثاق، والغريب والطريف أن الصحافة الآن قد غدت باسبوراً لإثبات الذات والشرعية فى المجتمع بعدما غزتها جميع الطوائف، فالدكتور والأستاذ والعالم والنائب والباشمهندس والمحلل النفسانى والسكرتير العلانى والمذيع الترتانى والخبير الغذائى ومحلل الفتاوى والحكاوى والشكاوى كلهم كلهم يعيش الواحد منهم ويموت ونفسه رايحة لحاجة واحدة لا غير.. للوصول للناس.. للقاعدة الجماهيرية.. لأجل يقول من خلالها أنا هنا.. مقالة فى جريدة أو جرنال.. عامود يذيله باسمه بحروف الطباعة يفتح الجرنال عليه ويفرجه للعائلة والشلة والزملاء.. أو إنشالله صندوق صغير على جانب صفحة يأتى على ذكره فى طيّات النقاش «أنا كتبت كل ده فى الجرنال».. ومن هنا أسفت ودهشت للطبيب العالم الكبير صاحب الشهرة الطنانة فى مجال تخصصه عندما لاحظت مكوثه قابعاً فى حجرة السكرتيرة أكثر من مرة فى انتظار لقاء من بيده أمر النشر والمنع والتأجيل يسمح له بكتابة عدة سطور على صفحات الجريدة تجعله محط الأنظار خارج دائرة المرض.. كاتب عامود أصبحت رتبة مثل باشوية وبكوية واكسلانس زمان.. العامود الصحفى غدا بمثابة ميلاد جديد فى دوائر المجتمع، من خلاله تكتسب الشهرة الحقيقية التى قال عنها يوما الشاعر حافظ إبراهيم ولم يزل عطرها سابحاً فى الأجواء للآن:
لكل زمان مضى آية وآية هذا الزمانِ الصُحف
ومن هنا عذرت يوماً الكاتب الكبير زكى نجيب محمود الذى التقيته بعد أن كان قد أمضى أكثر من نصف قرن يطل علينا فيه بمقالاته ونظرياته وفلسفاته.. وجدت له عذرا هذا الكيان العملاق عندما اصطدت على وجهه مظاهر الانتعاش والحبور لحظة نقلت إليه إعجاب فاتن حمامة بمقالاته فى الأهرام.. ابتسم الفيلسوف وكأننى منحته قالباً من الشيكولاتة معلقا بسعادة بادية: يا خبر فاتن بتقرالى؟!!.. وأبدا لم يكن ورم الأبناط فى كتابة الأسماء أو شهرة الجرنال دافعا على إقبال القراء، وعلى سبيل المثال الكاتب يحيى حقى بوزنه الثقافى وقامته المعرفية الفارعة عندما عرضت عليه الصحف الكبيرة أن يكتب لها رفض بإباء وفضَّلَ الكتابة فى صحف دار التعاون قليلة التوزيع واللمعان بمنطق أن القراء يذهبون للكاتب وليس للجرنال، ومن هنا استمتع قراء التعاون بأندر السطور للأديب الصادق مع نفسه ومع القارئ عندما وضع القلم جانبا قبل وفاته بكثير لشعوره بأن مداد العقل قد جف، وأنه لن يستطيع أن يضيف جديدا.. توقف يحيى حقى بينما تعاقب علينا مئات آخرون.. كتّاب وكتبة يتحفوننا بالغث والثمين فى صحف سيارة ودوّارة يومية وأسبوعية وموسمية وخليجية وتبعاً للتساهيل الأمنية.. أصحاب أقلام نامت وأقلام قامت وأقلام مدفوع بها وأخرى مدفوع لها وثالثة حار ونار فيها حبرها وورقها، وأقلام تتحسر على رحيلها وتقول فين زمانها من زمن غيرها، وأخرى ترفع يديك للسماء تدعى عليها يندك على رأسها عامودها.. أقلام جريئة وأقلام بريئة، وأقلام تشمها قبل ما تقرأ لها، وأقلام تبوسها وتحطها جنب الحيط، وأقلام تدوسها وتسيبها مطرحها، وقلم تميل عليه وتقول له ليه؟ وقلم شِرك، وقلم شر، وقلم شبق، وقلم شره، وقلم شُح، وقلم شيّلنى وأشيلك، وقلم لا يكتب وإنما يُكتب له، وقلم شاك، وقلم باك، وقلم على راسه بطحة والتانى على راسه ريشة، وقلم شوكة فى جنب الظلم، وقلم هلفوت وقلم حوت وقلم ملطوط، وقلم لما يغيب يُفتقد، وقلم تاه منه الهدف، وقلم سيد، وقلم خدام، وقلم إخوانى لابس طاقية لينين، وقلم يصدمك من أول سطر لكن تقرأ له لآخر سطر، وقلم بيته من قزاز، وقلم فحل وقلم ضحل، وقلم يناطح السحاب فى اتساع الأفق، وآخر أرضيته واطية قرصته والقبر، وقلم تزرعه يقلعك، وقلم مفخخ، وقلم كلب ينبح ومايعضش، وقلم زى القطط يسبّح ويسرق، وقلم يرقص للقرد فى مملكته، وقلم لا يخاف لومة لائم... وقلم حبره أسود غطيس يكتب تحت صفحة مظلمة «مصر منوّرة بأهلها»!!!
البحر الزاخر
تُظهر فتحة البوابة الكبيرة هيئته قادما مهيبا شامخا لا يكاد شق الجبة ينفتح مع وقع خطاه الوقورة، وقد يتندى جبين الفهم عرقا لكن اليد لا ترتفع لإزاحة العمامة للخلف كى لا تهتز صورة الشيخ الجليل المكوكل المعمم.. وقبل ارتقائه الدرجات لا تفوته نظرة فوقية خاطفة لساعة الجامعة تعقبها نظرة رضا لانضباط ساعة اليد عليها.. ومن قبل أهبة دخوله المدرج الرحيب تحدث الجلبة بين الصفوف.. الشيخ قادم.. الأستاذ نظر لساعته.. وتعتدل الصفوف لتهب واقفة لحظة المواجهة لتشير اليد للجمع بالجلوس بعد التحية، فيلبى الخمسة الحضور الإشارة ويردون التحية بأحسن منها.. تلامذة خمسة كانوا هم قسم الفلسفة بكلية آداب جامعة فؤاد الأول القاهرة الآن على رأسهم الدكتور مصطفى الخشاب التلميذ والحوارى والصفى للأستاذ الدكتور الباشا الشيخ مصطفى عبدالرازق من كان بمجرد دخوله حرم الدرس يخلع العمامة الجليلة يضعها على المنضدة وبجوارها ساعته الأنيقة إشارة إلى تعظيم العلم وتقدير الوقت فى آن واحد.. وينطق الشيخ بالحديث الطلى كأنما مصباح وهاج تستضئ به إلى الحق، وتسترشد إلى الخير وتهتدى إلى الجمال، ورغم غزارة العلم لا ينسب أى فضل إلى نفسه حتى ليذكر السامعين بأبى الفلسفة اليونانية سقراط عندما يقول: إننى لا أعرف شيئا إلا شيئا واحدا هو أننى لا أعرف شيئا.. ويسأل الطلبة أستاذهم ويلحون عليه فى السؤال: لماذا لا يطبع محاضراته الثرية الجامعية فى كتاب؟! فكان الرجل العظيم المتواضع يجيب فى بساطة وإيجاز: لأننى لست مؤلفا، ولكننى مجرد قارئ جيد..
الشيخ الجليل ينحدر من أسرة وطنية عريقة من قرية أبوجرج بكسر الجيم وتسكين الراء من قرى محافظة المنيا فى الصعيد التى كانت على عداء وخصومة مع الملك فؤاد، وعلى خصومة مع الخديو عباس الثانى لدورها فى إنشاء حزب الأمة وجريدته، وبعدها لدورها فى تأسيس حزب الأحرار الدستوريين، ثم لكتاب «الإسلام وأصول الحكم» الذى وضعه رأس العائلة ليسد الطريق أمام الملك فؤاد حين طمع فى أن يكون خليفة للمسلمين.. أسرة عرفت باسم أسرة القضاة قدرت ملكيتها بسبعة آلاف فدان.. فى شهور الصيف تدب الحياة فى القصر العالى الكبير وتعود أسرة حسن باشا عبدالرازق الممثل لمديرية المنيا فى مجلس النواب فى عهد الخديو إسماعيل ثم فى مجلس شورى القوانين، تعود بأبنائها السبعة من الذكور رابعهم مصطفي، وشقيقتين يخالطون الكبير والصغير بلا ترفع، والقصر مأوى للغريب والمحتاج، والموائد حافلة ليل نهار بالضيوف.. وساعة العصارى يرى الأهالى فوق الجسر الطويل الشيخ مصطفى فى رقته وحيائه يسير منفردا أو بصحبة صديقه الدكتور طه حسين وزوجته الفرنسية، وكانا ينزلان كل صيف ضيفين على آل عبدالرازق.. أما قصر العائلة بالقاهرة خلف قصر عابدين فكان يوم الجمعة فيه يوما حافلا لأبناء أبوجرج بالقاهرة، فالدعوة مفتوحة والطلبة يكفيهم أن يكتبوا فى خانة ولى الأمر بيت عبدالرازق عابدين.. وتقوم الحرب العالمية الأولى عام1914 ليعود الشيخ للوطن من باريس بعد الدكتوراه من السوربون فى فكر الإمام الشافعى ويعين عام1915 فى مجلس الأزهر بتوصية من السلطان حسين كامل الذى تعرف عليه فى فرنسا مما دعا الأميرة قدرية بنت السلطان بتكلفته بترجمة كتاب لها إلى العربية فقام بترجمته بعنوان طيف خيال ملكي.. وفى عام1935 يعين أستاذا للفلسفة بالجامعة وينال البكاوية عام1937 ثم يتولى وزارة الأوقاف فى حكومة محمد محمود باشا سنة 1938، وحتى عام1942، ويعين خلالها عضوا بالمجمع اللغوى، وفى عام1941 ينال رتبة الباشوية ثم شيخا للأزهر في27 سبتمبر1945.
كان إنسانا لكنه لم يكن كغيره من الناس.. كان عالما وفيلسوفا، لكن ليس كغيره من الفلاسفة والعلماء.. وكان وزيرا لكن ليس كأشباهه من الوزراء، وكان شيخا للأزهر وإماما للمسلمين لكنه من طراز خاص.. كان هذا كله، وكان غير هذا كله الإمام رقم31 فى تاريخ المشيخة مؤلف «الدين والوحى فى الإسلام» و«تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» و«فيلسوف العرب» و«الإمام الشافعى» و«محمد عبده» وغيرها من المؤلفات بجانب ترجمته لرسالة التوحيد إلى الفرنسية مع صديقه برنارد ميشيل، ومع طه حسين قاما بترجمة كتاب «الواجب» عن الفرنسية لجيل سيمون بهدف أن يزيلا ما علق بأوهام المسلمين من سوء الظن بالفلسفة، واشترك مع الفيلسوف الفرنسى لويس ماسينيوس فى تأليف كتاب «التصوف الإسلامي».. ويقدم الشيخ مصطفى عبدالرازق البراهين والأدلة التى تؤكد أن الاجتهاد بالرأى هو بداية التفكير الفلسفى عند المسلمين، فقد سن الرسول صلى الله عليه وسلم لولاته أن يجتهدوا برأيهم حين لا يجدون نصا، ولم تلعب الجينات أثرها ليغدو كل من الأخوين مصطفى وعلى عبدالرازق نسخة من الآخر.. كان أحدهما يكمل الآخر دون أن يكون صورة مطابقة له.. كلاهما من مدرسة الشيخ محمد عبده، والاثنان أزهريان تربيا ودرسا فى بيئة أسرية وعلمية واحدة وعانيا من جمود الأزهر ومن بطش الحكام، وكان كل منهما يعشق صحبة أخيه عشقا مبالغا فيه، فإن زار أحدهما الآخر فى داره وقيل له مثلا إنه يستحم، فإنه يذهب إليه ساحبا كرسيا بجوار باب الحمام ثم ينخرطان فى الحديث كأنهما يكملان ما انقطع سابقا!.. ولم يجد على عبدالرازق وصفا لمصطفى فى حفل تأبينه بالجامعة المصرية في27 مارس1947 أدق ولا أجدى من عبارة شقيق روحى وبعدها أجهش بالبكاء ولم يستطع أن يكمل كلمته التى أعدها مسبقا.. غير أن عليّاً كان على الطبيعة أكثر حدة من مصطفي، بل أقل صبرا منه تجاه المخالفين والنقاد والمهاجمين.. وربما تظهر المحادثة التى جرت فى بداية الثلاثينيات بينما الأزمة الاقتصادية طاحنة فى البلاد بين الشقيقين مصطفى عبدالرازق وشقيقه على التى أنصت لها الكاتب حافظ محمود أثناء سيرهم فى أحد شوارع عابدين الهادئة.. ربما تظهر مدى اختلاف طباع الشقيقين.. كان حديث على إلى أخيه يدور حول الظروف الاقتصادية القاسية التى ألمت بثروة الأسرة مما يحتم اختصار الكثير من النفقات.. وسأل مصطفى شقيقه عن أهم أبواب الاختصار فقال علي: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ونحن ندفع لعشرات الأسر رواتب شهرية من باب المساعدة، لكن حينما نكون نحن أحوج إلى المساعدة، أليس من العدل أن نبلغ هذه الأسر أننا على كره منا لن نستطيع لها عطاء بعد شهر أو اثنين؟.. وتمهلت خطوات مصطفى قليلا ثم توقف نهائيا قائلا لأخيه: لا يا علي.. الموت أهون علىّ مما تقول.. أولئك ناس ربطوا عيشهم بعيشنا واطمأنوا لنا.. فلنقطع نحن من أقواتنا لنعطيهم وإن اقتضى الأمر نستدين لنجنبهم مذلة الحاجة...
وتعد حياة الشيخ مصطفى عبدالرازق قصيرة كالشهاب فقد ولد عام1885 ورحل عام1947 إلا أنه كان فريد زمانه بأخلاقياته وإضافاته وعلومه وفلسفاته وتواريخه وأفكاره ومؤلفاته وألقابه ومراكزه وتراثه ومواقفه وصداقاته وصولاته وجولاته، مما يجعل العمر مديدا مديدا ومهمة متابعة خطاه أكثر من عسيرة... من هنا لم أستطع وضع خطة للجرى وراءه، أو فك الملابسات من البدهيات فى حياته، أو تحصيل الحاصل مما هو حصل فى أيامه.. بل تركت نفسى أتجول.. أحازي.. أقترب.. أنتقى من كل بستان زهرة: البطل واقف بعيون دامعة يودع فرنسا فوق ظهر الباخرة عائدا إلى مصر، وقبل أن يهبط إلى ميناء بورسعيد يدخل حجرته ليخلع ملابسه الأفرنجية ليرتدى زى الشيوخ ويُحبك العمة فوق رأسه وما أن خرج من حجرته حتى أنكره من كانوا قد أمضوا معه الليالى الخمس مدة رحلة العودة.. تلك الواقعة التى قال عنها فى مذكراته: فى الصباح أنكر رفاقى فى الرحلة من عرفونى فى المساء، واستوحش الشباب الجديد منى مظاهر الشيخوخة والقدم، وشعرت أنا نفسى كأننى خرجت من جيل إلى جيل...
أرى طالب السوربون مصطفى عبدالرازق فى حديقة لوكسمبورج الشهيرة الواقعة فى قلب الحى اللاتينى يقترب فيها من البحيرة ليقف متأملا ليعود يكتب فى مذكرات مسافر: لمحت فى بعض النواحى فتاة بيدها خطاب تقرؤه فيشرق وجهها بالسرور وتبتسم وأمامها فتاة تكتب فى صحيفة وتتلو ما تكتبه فتبكي، وكم أوى إلى تلك البركة من باك ومبتسم، وعندما ينزعج طالب السوربون من عبث الأطفال بماء البحيرة يكتب إليهم راجيا متوسلا: رويدكم أيها الأطفال العابثون بماء البحيرة ليس ماء ذلك الذى يجرى فى البحيرة لكنه ذوب ابتسامات ودموع المحبين...
وعندما قرأ شيخ الأزهر مصطفى عبدالرازق رواية توفيق الحكيم «أهل الكهف» كتب فى جريدة «السياسة» منذ 72 عاما نقدا يقرظها جاء فى بعضه: «فى الرواية تحليل للعواطف فى هدأتها وتحليل للعواطف فى ثورتها.. وفيها حب إذا كان لابد للناس من حب».. ويكتب الشاعر المتذوق فضيلة شيخ الأزهر فى عام1925 وصفاً لأم كلثوم: تظهر أم كلثوم بادئ الأمر رزينة ساكنة تشدو بصوتها الحلو شدوا لينا، من غير أن يتحرك طرف من أطرافها إلا هزة لطيفة تنبض بها رجلها اليسرى أحيانا ثم ينبعث الطرب فى هيكلها كله فتنهض قائمة وترسل النغمات متعالية تذهب فى الآفاق هتافا مرددا أو تترجع رويدا حتى تتلاشى حنينا خافتا وتهزها أريحية الشباب والطرب فتساير النغمات فى حركاتها، مندفعة بوثبات الشعور وراء مذاهب الفن، وتتلوى عن يمينها وشمالها أعناق الشيوخ.. وياليت شعرى ما لأم كلثوم والشيوخ؟.. أم كلثوم نعمة من نعم الدنيا».
ويسأل السائل الشيخ مصطفى عام1949: هل تقدمت أخلاقنا أم انحطت؟.. فيجيبه بقوله: هذا سؤال يرغمنى على الفلسفة لأنه لكى يتسنى لنا أن نحكم على الأخلاق وهل تقدمت أم تأخرت يجب أن يكون هناك معيار إذا انحرفت عنه الأخلاق قلنا إنها انحطت.. وإذا بلغته وتخطته قلنا إنها بخير.. وحتى لو وجد هذا المعيار فإنه يتغير بتغير الزمن..
لمدة عام واحد وخمسين يوما تولى الشيخ مصطفى فيها مشيخة الأزهر متنازلا عن رتبة الباشوية الحديثة، وذلك بعد صدور تشريع جديد يقضى بأن يكون التدريس فى الجامعة مساويا للتدريس فى المعاهد الدينية.. وكأى عالم وعظيم دبرت له المكائد وراح حزب الوفد القوى المناوئ لحكومة النقراشى يؤلب مراكز القوى ضده، وتراكمت السحب إثر ما عزته جريدة لوموند الباريسية إليه بعد توليه المشيخة من حديث اتخذ منه خصومه أداة للنيل منه، وفيه أن فرنسا قد أحرزت مكانا ممتازا بما بذلت من الجهود الكريمة فى نشر الثقافة بين المسلمين وأن الشيخ يأمل ألا تتخلى فرنسا عن خطتها تلك كى تحتفظ بحب العالم الإسلامي.. وقامت الصحف فى مصر وبر الشام تزيد النار اشتعالا خاصة بعدما أهدت الحكومة الفرنسية شيخنا وسام جوقة الشرف من رتبة الصليب الأحمر.. وقامت فى الأزهر ثورة بسبب تخطى الحكومة خريجى الأزهر فى بعض المناصب التى كانت مخصصة لهم، وسمع الشيخ رفيع المكان والمكانة من قبل المناصب وبعدها بأذنيه هتاف بعض الطلبة ضده فلم يخرج عن وقار الإمام، لكنه عاد إلى البيت حزينا بعد رئاسته لجلسة المجلس الأعلى للأزهر كانت قد امتدت إلى ما قبل آذان العصر، فتناول الغداء وأخذ قيلولته ثم استيقظ وتوضأ ليصلي، وساعة أن أخذ يرتدى ثيابه شعر بإعياء فاستدعى الطبيب لإسعافه، وما أن لاحظ الشيخ المؤمن باضطراب الطبيب حتى علم بأنها النهاية، فالتفت ناحيته مبتسما مهدئا من روعه هامسا: هون عليك يا بني.. لقد فعلت ما بوسعك وإلى الله حسن المآب.
و.. حقت نبوءة الإمام محمد عبده حين قال عن الأزهر بعد استقالته منه فى عام1905: إننى ألقيت بين جوانح هذا المكان شعلة لنهضة لا تنطفئ.. وإن لم تلتهب اليوم أو غدا فستلتهب فى ثلاثين عاما وستكون ضراما... وقد حمل الشيخ مصطفى عبدالرازق شعلة الإمام نورا ونارا يخوض بها وسط الأمواج... والبحر الزاخر لا يضره إن رمى فيه صغير بحجر!
نقلا عن " الاهرام" المصرية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.