اختارت قرية سيدي بوسعيد السياحية (شمال شرقي تونس) وسكانها أن يودعوا العشر الأواخر من شهر الصوم على طريقتهم/ فلم تؤثر أصداء أخبار هجمات الإرهابيين في الشعانبي (غربي تونس) على سهراتهم الرمضانية الهادئة التي فضلوا أن يقضوها بين بحر وجبل بتقاليد خاصة يزيدها هدوء الليل سحرا وجمالا. وتعودت القرية على أن تستقبل يوميا أفواج الزوار من جميع دول العالم بهدف التسوق والتجول في أرجائها للتمتع بحمالها الخلاب. أما في الليالي الرمضانية فتحفل القرية بقدوم ضيوفها على مختلف أشكالهم فمنهم من يأتي للسمر ومنهم من تستقطبه أجواء المكان لأداء صلاة التراويح التي تغسل القلوب وتطهر الأرواح لتطير بها في سماء الايمان الفسيح. فعقب الإفطار يتوجه التونسيون عائلات وفرادى لأداء التراويح التي تزيد الصائم خشوعا وتملأ قلبه إيمانا. وتتميز صلاة التراويح بترديد العديد من الأدعية المأثورة بين ركعاتها حيث تصدر بصورة جماعية مما يبعث على النفس مزيدا من الروحانية وللقلب سهولة الاتصال بالخالق ، وللعقل مزيدا من التدبر لآيات الله خاصة إذا ما كان الإمام يمتلك نعمة الصوت الحسن الذي يرهف به أفئدة المصلين . وتعد قرية سيدي بوسعيد مدينة ساحلية تقع في الشمال الشرقي لتونس وتطل على البحر الابيض المتوسط ولا تتجاوز مساحتها الإجمالية 164هكتاراً (الهكتار يساوي 10 آلاف متر مربع) لكنها تلعب دوراً تجارياً وحضارياً مهماً، حيث تضم سلسلة من الفنادق الجيدة والمطاعم السياحية التي تغص بالحاضرين من مختلف الجنسيات، علاوة على مينائها السياحي الذي يتسع لعشرات القوارب السياحية الرابضة تحت ضوء القمر التي لا تكاد تتشح بخيوط الضباب حتى تظهر كاملة لتسحر الناظرين بلونها المائل إلى الصفرة . وفي جولة ليلية التقى خلالها فريق الأناضول بالشاب التونسي منير الرحموني، ابن القرية الذي أوصى بتصوير كل الأماكن بالمدينة قائلا : "أنا يوميا أذهب إلى مقهى الشرفات لأكمل سهرتي بعد أداء التراويح رفقة الشيشة (النارجيلة) وكوب الشاي ورائحة الفل التي لا تفارق أنفي على طول السهرة". وأضاف الرحموني "عند حلول الليل لا يتراءى للناظر جمال القرية وألوانها الزاهية التي تجعل زائرها يشعر وكأنه دخل إلى لوحة زيتية زاهية الألوان وهو ما ساعدها على الوصول إلى المرتبة ال13من بين قائمة المناطق الأكثر جمالا في العالم، وفق تقرير نشره الموقع الالكتروني المتخصص فى الأسفار ‘'وين أون أورث'‘. ومضى قائلا " لكن ورغم سواد الليل يبقى شعاع واحد من النور قادر على إضاءة المدينة التي ينعكس بياض جدرانها على قلوب سكانها ليجعلهم أهلا للضيافة والكرم وحسن الإقامة في ليالي الشهر الكريم". وعندما تدخل القرية يستقبلك مسجد الغفران محاطا بالمصلين وكأنه المكلف الأول والوحيد باستقبال الزائرين، وتتميز القرية بأجواء رمضانية خاصة، تجذب الكثير من الناس على اختلاف أعمارهم وجنسياتهم ليجتمعوا معا لقضاء ساعات المساء في أرجاء سيدي بوسعيد بين بحر وجبل، سعيا وراء البهجة التي لا تتوفر إلا في شهر الصوم. وفي مرحلة أعمق من القرية يعترضك في البداية متجر حلويات تقليدية يتخصص في اعداد البوزة والزرير وعصيدة الزقوقو وكلها حلوى رمضانية تستقطب مئات التونسيين الذين يفضلونها في قضاء بقية السهرة . وأنت تتجول في أرجاء القرية يلفت انتباهك العدد الكبير من بائعي الياسمين الذي يتخذون من سيدي بوسعيد وبقية المناطق السياحية في مختلف أنحاء البلاد سوقا أساسية لتوزيع عقود الياسمين ذات الرائحة العطرة . ويتراءى لك وأنت تتقدم نحو مركز القرية متاجرها التي لا تخلو من المصطافين والزائرين الذين اختاروا أن يقتنوا مشتريات من الأسواق العتيقة للقرية التي تملك أسواقا متشابهة لتلك الموجودة بالمدينة العتيقة بالعاصمة تونس، وهي قادرة على تلبية ما يطلبه السائح الغربي والشرقي من ملابس تقليدية ومنتجات تذكارية تنفرد بها الأسواق التونسية العتيقة ويتوسط الأسواق محل شهير يأتيه الزوار يوميا من كل حدب وصوب طمعا في الظفر بكعبة من "البنبلوني" وهي بمثابة فطيرة تصنع من عجين الدقيق والماء وتقلى في الزيت ثم تكسى بحبات السكر لتصبح جاهزة للأكل. كما يقصد الكثيرون مقهي الشرفات أو ما يعرف بمقهى "سيدي شبعان" الذي يقع في اتجاه طرف التل وهو يطل هذا المقهى بشرفاته الكبيرة على ميناء القرية وخليج تونس وشاطئ قرطاج وعلى مشهد خلاب يسحر الألباب. ويقدم مقهى الشرفات أشهى انواع البيتزا والأكلات الخفيفة فضلا عن مختلف أنواع المشروبات الباردة والساخنة منها حيث يتجه المئات من التونسيين كل ليلة من ليالي الصيف في رمضان لشرب كوب من الشاي الأخضر بورق النعناع وحبات البندق التي تضفي عليه نكهة خاصة لا يمكن مقاومتها. وبحسب الروايات فإن القرية سميت بهذا الاسم، نسبة للولي الصالح أبو سعيد بن خليف بن يحي الباجي، الذي كان يعيش فيها أوائل القرن الثالث عشر، بعد أن انقطع فيها عن العالم من أجل العبادة قبل أن يدفن فيها، ويزور ضريحه (الذي بنى في القرن الثامن عشر) إلى الآن الكثير من الناس، ويقع ضريحه بجانب جامع "الزاوية" . وتقام في مزار الولي الصالح أبو سعيد خلال أغلب ليالي الشهر الكريم احتفالات دينية من أهمها "الخرجة" التي تحييها فرق من العيساوية تقوم بسرد قصائد ومدائح ودفوف وبخور وزغاريد تعلو الأجواء. والخرجة العيساوية هي بمثابة حفل ديني تدق فيه الطبول، وترتل فيه الأذكار الدينية والأناشيد، ويجتمع كل أهالي القرية لإحياء ذكرى الأولياء الصالحين. وتتزايد خلال شهر رمضان وتيرة الاحتفالات والسهرات في فضاءات سيدي بوسعيد الثقافية التي تقدم يوميا العديد من العروض والورش الفنية، ويعتبر "قصر النجمة الزهراء" من أبرز وأهم الفضاءات الثقافية بالمنطقة . وقصر النجمة الزهراء أو "دار البارون ديرلنجي"، شيدها المستشرق ذو الأصول الفرنسية والإنجليزية رودولف ديرلنجي عام 1911 واشترته الحكومة التونسية عام 1989 وحولته إلى مجمع ثقافي أطلقت عليه "مركز الموسيقى العربية والمتوسطية". وعلاوة عن دوره الثقافي يحظى القصر بدور أكاديمي كبير يدفع الباحثين في التراث الموسيقي التونسية إلى التردد عليه كما يتم استغلاله لتقديم عروض موسيقية طيلة السنة. ورغم تعدد الأماكن الجميلة التي من الممكن أن تقضى فيها سهرات رمضان في ليالي الصيف الحارة تبقى قرية سيدي بوسعيد المعروفة باسم قرية "السلام" لأن أغلب محلاتها يغلب عليها اللون الأبيض، كما يسميها أهلها الملجأ الأول والأقرب للمصطافين وأحباء السهرات الرمضانية التي لا تنسى خصوصا بعد أكل البنبلوني وشرب الشاي الأخضر في إحدى مقاهيها المنتشرة .