توزيع "النفحة" عند ختم القرآن تقليد مملوكي الخليفة الفاطمي كان يوزع "كسوة العيد" على أتباعه حرصاً على أناقة موكبه! ألفا درهم أنفقها "قايتباي" على كسوة العيد! يحرص المصريون على إتمام قراءة القرآن على مدار أيام وليالي شهر رمضان، وذلك بأن يقرأوا كل يوم جزءاً من أجزائه الثلاثين، ويفضل البعض ختم تلاوته قبل اليوم الثلاثين، تحسباً لأن يكون الشهر تسعة وعشرين يوماً فقط، وقد يتلى بصورة منفردة أو جماعية، أو من خلال مشرفين دارسين لفنون التلاوة والتجويد، وهناك مصادر تاريخية تشير إلى عراقة هذا التقليد لدى المصريين، وأنه كان يحظى باهتمام خاص. ففي العصر المملوكي - كما يذكر كتاب "معجم رمضان" لفؤاد مرسي- كان ينظم احتفال موكبي يعد خصيصاً بمناسبة ختم القرآن، حيث كان يتم إنشاد القصائد، ثم يجتمع المؤذنون ليكبروا جماعة في موضع ختم القرآن، ثم يؤتى بفرس أو بغلة ليركبها القارئ الذي تولى الختمة، حتى بيته، وأمامه القراء يقرأون والمؤذنون يكبرون والفقراء يذكرون. وقد يضيف البعض إلى ذلك ضرب الطبل والدف والأبواق. ويحكي د.محمد رجب البيومي أنه عند الخاتمة كان لابد أن توزع "النفحة" وهي قطع صغيرة من الحلوى، يتبرع بإحضارها أحد الذاكرين تذكيراً بطعام أهل الجنة، ومنهم من يحتفظ بها كعلاج روحي للشفاء إذا نزل به داء، لأن جو الذكر والخشوع قد خلع عليها في اعتقاده مما يجعلها بعض أسباب الشفاء. وفي الثلث الأخير من شهر رمضان تبدأ الأسرة المصرية في الإعداد لاستقبال عيدالفطر المبارك بصناعة الكعك وحياكة الملابس الجديدة وتفصيل الأحذية أو شرائها جاهزة من المحلات، وهي كلها أمور تحقق البهجة للأطفال. يشير عبدالحميد حواس إلى أن الأطفال في هذه الأوقات يبدءون في تحويل أغانيهم أثناء جولاتهم من وداع رمضان إلى أغني فرحة بقدوم العيد، مثل: يا برتقان أحمر وجديد / بكرة الوقفة وبعده العيد ثم يتعالى مع تسيير موكب يزف "العيدية"، المكونة من الكسوة والكعك والسك والشربات ونحوها، وهي الهدية المقدمة من أهل الخاطب حديثاً إلى خطيبته. وتحمل البنات والنساء مكونات هذه الهدية في سلال على رءوسهن يستعرضنها سائرات في طابور يغنين ويزغردن. وهذه المواكب الصغرى تمهد للاحتفال الأكبر عند حلول يوم العيد نفسه. تعد كذلك كسوة العيد أو ملابس العيد واحدة من أهم المظاهر الاحتفالية التي تستغرق اهتمامات المصريين في الثلث الأخير من شهر رمضان، حيث كان يطلق على عيد الفطر "عيد الحلل"، وهذه الاهتمامات ليست وليدة هذا العصر وإنما تضرب بجذورها إلى حيث الخلافة الإسلامية في عصور بني أمية والعباس والتي كانت رسومها تقضي بتفريق الخلع على أرباب الوظائف في الدولة خلال شهر رمضان ليبدو موكب الخليفة وهو في طريقه لأداء صلاة العيد مزداناً بألوان الملابس الرائقة والجديدة. وكما هو شأنهم فقد وجه الفاطميون عناية خاصة لكسوات العيد بعدما أسسوا دولتهم الكبرى في مصر والشام وشمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية وذلك في إطار عنايتهم برسوم البلاط والدولة. وقد احتلت "كسوة العيد" المكانة الأولى بين اجراءات احتفال الفاطميين بعيد الفطر حتى أن هذا العيد كان يعرفهم في عصرهم بعيد "الحلل"، لكثرة ما يوزع فيه من كسوات جديدة على الخاصة والعامة. وكانت "دار الكسوة" هي الجهة المنوط بها توزيع كسوات العيد على أربابها بدءاً من الوزير ومروراً بالأمراء وكبار وصغار موظفي الدواوين وانتهاء بالفراشين والمستخدمين في الدولة. ويقوم صاحب ديوان الإنشاء بكتابة "رقاع" من الورق توضع في كل كسوة خاصة بأحد وجوه الدولة. ومن هذه الرقاع واحدة كتبها "ابن الصيرفي" لتوضع في كسوات عيد الفطر عام 535ه وقد جاء بها "ولم يزل أمير المؤمنين منعماً بالرغائب مولياً إحسانه كل حاضر وغائب مجزلاً حظهم من منائحه ومواهبه، ولما أقبل هذا العيد السعيد والعادة فيه أن يحسن الناس هيئاتهم ويأخذوا عند كل مسجد زينتهم، شرّف أمير المؤمنين أوليائه وخدمه فيه بكسوات على حسب منازلهم تجمع بين الشرف والجمال، ولا يبقى بعدها مطمع للآمال..". أما المسئول عن "دار الكسوة" فكان يعرف ب"صاحب المقص" وهو مقدم الخياطين، ولرجاله مكان يقومون فيه بالخياطة والتفصيل، وهو يعمل وفق الأوامر الصادرة إليه من الخليفة، ويحمل إلى دار الكسوة ما يعمل من نسيج وملابس من دور الطراز بمدن تنيس ودمياط والإسكندرية. ودور الطراز هي مصانع النسيج الحكومية التي تشرف الدولة على منتجاتها، ودور الطراز على نوعين "دار طراز العامة" وهي تصنع منسوجات تباع في الأسواق أو تهدى لموظفي الدولة في المواسم والمناسبات، ودور "طراز خاصة" وإنتاجها موقوف على الخليفة وآل بيته فقط. وهذه الدور هي التي تسلم كسوات العيد إلى دار الكسوة. وكان بدار الكسوة قسم خاص بملابس الخليفة تتولى الإشراف عليه امرأة تنعت ب"زين الخزان" وتحت إمرتها ثلاثين جارية "فلا يغير الخليفة أبداً ثيابه إلا عندها". كانت الدولة تخصص ميزانية ضخمة للإنفاق على كسوة العيد. وقد بلغت النفقة عليها في عام 515ه على سبيل المثال عشرين ألف دينار ذهبي، صنعت بها مابس من الحرير الموشى بالذهب والديباج الملون "القطيفة" والقطن والكتان وغيرها. وقد تقلصت عادة إهداء الدولة لكسوة العيد بعد سقوط الخلافة الفاطمية ورويداً رويداً اقتصرت ظارة إهداء "الخلع" على الأمراء وكبار الموظفين عند توليهم لمناصبهم فقط. ولم يمنع ذلك أصحاب الخير من السير على سنة الفاطميين بإهداء كسوت في عيد الفطر، فقد حرص مؤسسو المدارس والمساجد والكتاتيب في العصر المملوكي على النص في وثائق أوقافهم المعينة للإنفاق على أنشطة هذه المنشآت على أن يوم المشرف على الوقف "ناظر الوقف" بصرف كسوات للموظفين والتلاميذ الأيتام بمناسبة عيد الفطر، أو صرف بدل نقدي بلغ في وثيقة وقف السلطان قايتباي ألفي درهم!.