أصعب اللحظات هي تلك التي تقرر فيها الكتابة عن مناضلين كانوا عظماء في حياتهم فوق الأرض ، وظلوا عظماء في جوفها بعد مماتهم . عن رجال صدقوا وأوفوا ما عاهدوا الله عليه ، وحملوا هموم شعبهم وقضيته العادلة ، وجعلوا من الوطن مشروعهم ، واختاروا طريق النضال قدرهم . عن أسرى سابقين أمضوا زهرات شبابهم وسنوات طويلة من أعمارهم في سجون الاحتلال، فأدركوا معنى السجن وحجم المعاناة ، ليشكلوا سنداً قوياً لزملائهم الذين لا يزالوا يقبعون في السجون ويعانون صدأ القيد وقسوة السجان . أحمد جبارة " أبو السكر " هو واحد من أولئك المناضلين الذين يستحقون أن تُكتب أسمائهم في سجل العظماء ، فهو من أوائل المنتميين للثورة الفلسطينية المعاصرة ، ومقاوم عنيد سجل في تاريخ المقاومة صفحات مضيئة تَصلح لأن تُدَّرَس للأجيال المتعاقبة ، ومناضلاً سطر إرثاً كفاحيا وطنياً نفخر به ، ورجلاً آمن بأفكاره ومبادئه وقضى لأجلها . وأسير سابق شكَّل قاسم مشترك فيما بين الأسرى بأخلاقه وطيبته وعلاقاته الوطنية الواسعة وبساطته المعهودة وتواضعه المثير للإعجاب ، كما وشكّل بؤرة اهتمام ورافعة معنوية للحركة الأسيرة جمعاء بثباته وصموده طوال ما يزيد عن ربع قرن أمضاها خلف قضبان السجون ، . " أبو السكر " .. منفذ أشهر العمليات العسكرية ، حفر اسمه على جدران الزنازين ، ووضع بصمته في تاريخ الحركة الأسيرة ، وساهم مع إخوانه ورفاقه في تأسيس مدرسة السجون ، وبعد تحرره كان مناصراً قوياً لهم ، وداعماً لحريتهم ومسانداً قوياً لقضيتهم العادلة . لم أنل شرف اللقاء به خلف أسوار سجون الاحتلال الإسرائيلي ، وإنما إلتقيته حراً للمرة الأولى في غزة الصمود ، واجتمعت به مراراً في كل من الجزائر والمغرب والعراق خلال مشاركتنا في مؤتمرات خاصة بالأسرى عقدت هناك ، وتابعت تحركاته ولقاءاته المتكررة ومشاركاته في الفعاليات والاعتصامات منذ تحرره ، وزياراته المتواصلة برفقة وزير الأسرى عيسى قراقع لأسر وعائلات الأسرى والتي لم تتوقف حتى لحظة رحيله ، فكان حقاً واحد من أبرز الأسرى المحررين المخلصين والأوفياء لزملائه الأسرى وقضاياهم. لم يكن " أبو السكر " بالنسبة لنا ثائراً أو مناضلاً عادياً ، أو مجرد أسير سابق أمضى 27 عاما في السجن ، وإنما هو تجربة ثقيلة حملت في ثناياها الكثير من المحطات والوقفات والعلامات البارزة التي تستحق الفخر والاعتزاز . أحمد جبارة " أبو السكر " ، من مواليد عام 1936 , ومن سكان قرية ترمسعيا شمال مدينة رام الله ، وانتمى للثورة الفلسطينية المعاصرة من خلال حركة " فتح " في السنوات الأولى لانطلاقتها ، وقام في الخامس من تموز / يوليو عام 1975 بتفجير " ثلاجة " مليئة بالمتفجرات في ميدان صهيون بالقدس مما أسفر عن مقتل 13 اسرائيلياً وإصابة 78 آخرين ، واعتقل في العشرين من سبتمبر / أيلول عام 1976 ، وأطلق سراحه في الثالث من يونيو / حزيران عام 2003 بعد 27 سنة أمضاها في غياهب السجون ، ليرحل عنا اثر نوبة قلبية ، ويتوارى عن الأنظار فجأة ودون مقدمات في السادس عشر من يوليو / تموز 2013 . أبو السكر .. شخصية نادرة ، عاش حياة خصبة وغنية .. حاملا قضية ورسالة ، فصنع تاريخاً حافلاً بالبطولات والمآثر ، بالعذاب والمعاناة ، بالتواضع والبساطة ، وترك إرثا غنياً بالعطاء والتضحية ، فأحبته الثورة ، وعشقه شعبه واحتضنه ثرى وطنه ، فكتبت له القصائد والأشعار ورددت اسمه الشفاه وستحفظه الأجيال . أبو السكر .. ذاك الرجل الذي خطفه الموت دون مقدمات ، ليبعده عن عيوننا وليُغيب شمسه عن حياتنا ، فيما بقى اسمه حاضراً فينا ، وذكراه باقية لم ولن تختفي أبداً من ذاكرتنا ، ونجمه الساطع سيبقى في قلوبنا .