أحلى أعطيات الصوم وأغلى معانيه الإخلاص، والإخلاص لله خلاص وتجرد بعيداً بعيداً عن أوحال الأرض، والصوم هو العبادة الوحيدة التي خُصَّت بالنسبة إلى الله "إلا الصيام فإنه لي" (صحيح). وكما قال الإمام أحمد: لا رياء في الصوم، فلا يدخله الرياء في فعله، من صفى صفي له، ومن كَدَّر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، وإنما يُكال للعبد كما قال، والجنة لا تطلب إلا قلباً خالصاً لله (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) . والصوم يعلم الناس الإخلاص، فما صام منافق مرائي. فهو العبادة الوحيدة التي لا يدخلها رياء. والغاية الواحدة في مصطلح القرآن هي الإخلاص وهي محور دعوات الرسل، يقول تبارك وتعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين..) الآية. والإخلاص: التعري عما دون الله ونسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.. أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة وإخراج الخلق عن معاملة الرب، والصدق في الإخلاص من أشد الأمور على النفوس، يقول سفيان الثوريّ: "ما عالجت شيئاً عليّ أشد من نيّتي، إنها تتقلب عليّ". "شجرة الإخلاص أصلها ثابت، لا يضرها زعزع (أين شركائي)، وأما شجرة الرياء فاجتثت عند نسمة (وقفوهم)، لريح المخلصين عطرية القبول، وللمرائي سموم النسيم، نفاق المنافقين صيّر المسجد مزبلة (لا تقم فيه أبداً) وإخلاص المخلصين رفع قدر الوسخ "رُبَّ أشعث أغبر"، فيا أسفا ذهب أهل الإخلاص والتحقيق وبقيت بنيَّات الطريق، رحل والله السادة وبقي قرناء الرياء والوسادة. الأمة أحوج ما تكون إلى إخلاص أبنائها، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم" (النسائي) ، وفيه خلاص الأمة ورفعتها، فعن أبي بن كعب (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بشِّر هذه الأمة بالسناء والدين، والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب" (أحمد والحاكم). وفي رواية للبيهقيّ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بشر هذه الأمة بالتيسير والسناء، والرفعة بالدين والتمكين في البلاد والنصر، فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا، فليس له في الآخرة من نصيب". ما أحوجنا إلى الصيام والإخلاص: عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما يبعث الناس على نياتهم" (ابن ماجه)، وعن جابر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما يحشر الناس على نياتهم" (ابن ماجه). عن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "من سمَّع الناس بعمله سمَّع الله به مسامع خلقه وصغره وحقَّره" (البيهقي)، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثلاث لا يُغَل عليهن قلب امرئ مؤمن: إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعاءهم يحيط من ورائهم" (البزار) . ولو لم يكن في الإخلاص إلَّا طرد الخيانة والحقد من القلب لكفاه شرفاً، فكيف والأعمال ميتة بدونه، وقشر خالٍ من اللباب سواه. ومن هنا تأتي أهمية الصوم ومعناه الكبير إذ كل عبادة سواه قد يدخلها الرياء وإرادة عَن أبي سعيد الخدريّ (رضي الله عنه) قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال" فقلنا: بلى يا رسول الله! فقال: "الشرك الخفي: أن يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" (البيهقي) . وعن محمود بن لبيد (رضي الله عنه) خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر" قالوا: يا رسول الله! وما شرك السرائر! قال: "يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر" (ابن خزيمة ) . وعن أبي هريرة قال : حدثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل على العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يُدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله عز وجل للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فما عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله عز وجل: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردت أن يقال فلان قارئ وقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله عز وجل: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد، قال: بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما أتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: فيم قتلت؟ فيقول: أي رب أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ركبتيّ، فقال: "يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة", قال الوليد أبو عثمان المديني: وأخبرني عقبة أن شُفَيّاً هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا، قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حاتم أنه كان سيّافاً لمعاوية، قال: فدخل عليه رجل فأخبره بهذا عن أبي هريرة، فقال معاوية: قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس ثم بكى معاوية بكاءً شديداَّ حَتى ظننا أنه هالك، وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلَّا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) (الترمذي).