تحكي كتب السيرة أن الحبيب محمد ( صلي الله عليه وسلم) سافر يوما وبعض أزواجه ، يسوق الإبل لهن غلاما حبشيا أسود يقال له أنجشة , يحدو للإبل , أي يغني لها . ولأن صوته كان رائعا ، ينساب رقراقا في صفاء جو الصحراء ، طربت الأبل ، وهرولت في السير خفا وسرورا من فرط عذوبة صوته ، مما أجهد النساء ، فأطل عليه النبي الحبيب وقال له : "يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ، رِفْقًا بِالقَوَارِيرِ" .. أي رفقا بأمهات المؤمنين. وبعد هذه الحادثة بقرون طويلة قال الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه الشهير "إحياء علوم الدين ": من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره ، والعودُ وأوتاره ، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج". وفي مصر ؛ درة العالم الإسلامي , نبغ شيوخ كانوا أعلاما في الإنشاد الديني , تسيدوا به هذا الفن في سائر أنحاء العالم الإسلامي, لهذا كانوا يطيرون كالبلابل من بلد إلى آخر, ينشدون ويهيمون بكلمات صوفية غاية من الرقة والعذوبة في حب رسول الله, وطلب العفو والغفران من الله. نصر الدين طوبار .. صوت الشجن رفضت الإذاعة قبوله خمس مرات ! .. وشدا في المسجد الأقصى عام 1977 " انصرنا على أعدائنا يا رب " - تستطيع أن تطلق عليه صوت الشجن , تحس معه بتوبة العبد الذي أذنب , وتمادي في خطأه , ثم أخذته التوبة , فوقف على أعتاب الله يطرق أبوابه , أملا في رحمته , مستغفرا لذنبه . قدم ابتهالات " يا رب عدت إلى رحابك تائبا" , وينظف قلبه من أدران الدنيا ومن كل هوي فيناجي مولاه "يا رب ..ها أنا ذا خلصت من الهوى..واستقبل القلب الخلي هواك" , ويهيم عشقا في الذات الإلهية فيشدو "في هداة الليل أراك .. في ضوء النهار... وفي الصحاري .. وفي الأنهار تٌسمعني لحن الخلود ..وفي الصحاري..وفي الأطيار تشجيني". نصر الدين طوبار, أحد الأصوات التي تضرب بعنف ورقة في آن واحد, وتحلق في رحاب السماء والخشوع, وجمال الكون, وخالق الكون. - بعد الثورة الشعبية الكبرى الشهيرة بثورة 1919 بعام ولد طوبار في مدينة المنزلة بالدقهلية في نفس العام الذي جاء فيه رفيق دربه الشيخ سيد النقشبندي. ومنذ نعومه أظفاره مارس الإنشاد , فاكتشف والده جمال صوته , فقرر تحويله من المدرسة الخديوية إلى المدرسة الأولية ليتعلم اللغة العربية وقواعدها ومخارج الألفاظ , ويحفظ القرآن الكريم. وبين قري الريف المصري ذاع صيته , وانتشر اسمه كأحد المبتهلين الذين سيكون لهم مكانة بين العظماء , فنصحه من قابله بالتقدم إلى الإذاعة ليصل صوته عبر الأثير الساحر إلى الملايين . الغريب أن لجنة الاختبارات بالإذاعة رفضته , والأغرب أن يتكرر هذا الرفض بعدها خمس مرات , لكن طوبار لم ييأس وواصل تقدمه حتى انفتحت أمامه أبواب الإذاعة .. وعانق صوته ميكروفونها ليأسر الملايين التي تستمع إليه. اكتسب الشيخ قدرة فائقة في القراءة بفضل قربه من المشايخ الذين أحبهم , مثل المبدع دوما الشيخ مصطفي إسماعيل , وشيخ المنشدين الشيخ على محمود , وإلمامه باللغة العربية , وفوق ذلك إحساسه بالكلمات التي يشدو بها , واختيار المقامات الموسيقية الملائمة لها . في حالة الحزن الشديد يشدو بمقام الصبا, وفي حالة الوجد يهيم في مقام النهاوند أو البياتي أو الحجاز. ويعتبر طوبار أول من انشد ابتهال لأبطال حرب أكتوبر أثناء الحرب عام 1973 , فأنشد " سبح بحمدك الصائمون" و " انصر بفضلك يا مهيمن جيشنا". وأعجب الرئيس أنور السادات بصوت طوبار , فاختار الشيخ ليرافقه في زيارة القدس عام 1979 , في مبادرة السلام الشهيرة , وداخل المسجد الأقصى أنشد المنشد ذو الصوت الشجي " أرفع راياتنا على رؤؤس الأشهاد..أنك رءوف بالعباد.. لأجل المسجد لأقصى..لأجل القبلة الأولى..وأنت الحق فانصرنا على أعدائنا يا رب" وفي عام 1980 وقع الاختيار على طوبار ليكون مشرفا وقائدا لفرقة الإنشاد الديني التابعة لأكاديمية الفنون..وطار بلبل الإنشاد إلى لندن في ذات العام ليغرد في قاعة "ألبرت هول" الشهيرة في أطار فعاليات المؤتمر الإسلامي العالمي الذي عقد بالعاصمة البريطانية. ومن شعر الباكستاني محمد إقبال شدا طوبار بقصيدة في مدح السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها ، تقول كلماتها : نسب المسيح بنى لمريم سيرةً بقيت على طول المدى ذكراها والمجد يشرق من ثلاث مطالعٍ في مهد فاطمةٍ فما أعلاها هي بنت من؟ هي زوج من؟ هي أم من؟ من ذا يداني بالفخار أباها هو رحمة للعالمين وكعبة الآمال في الدنيا وفي أخراها ثم يغرد ويقول: فمها يرتل آي ربك بينما يدها تدير على الشعير رحاها بلت وسادتها لأليء دمعها من طور خشيتها ومن تقواها جبريل نحو العرش يرفع دمعها كالطل يروي في الجنان رباها طوبار لم يكن منشدا فقط ، وإنما قرأ القرآن في مسجد الخازنداره بحي شبرا الخيمة ، لكن شهرته كمنشد طغت عليه كقارئ لآيات الذكر الحكيم. وطوبار مثله ؛ كرفيقيه الشيخان سيد النقشبندي وطه الفشني ؛ طغت شهرته كمبتهل ومنشد على كونه قارئ للقرآن الكريم , الفارق هنا أن طوبار تم تعينه قارئا للقرآن الكريم في مسجد الخازنداربشبرا والفشني قارئا في جامع السيدة سكينة. وحتى اليوم مازال طوبار معروفا بين محبيه كأستاذا في "مدرسة الشجن" في الابتهالات الدينية , وقليل من يعرف أن له تسجيلات للقرآن الكريم. وفي السادس من نوفمبر عام 1986 شدا البلبل بآخر تغريدته , وفاضت روحه إلى بارئها , إلى جنات الخلد ، مخلفا ثروة يزينها أكثر من 200 ابتهال مازالت هي المفضلة لدي جمهور عاشقي الابتهالات الدينية ، ومنها: يا بارئ الكون , والضحى من نور من, وحين يهدي الصبح إشراق نداه, صدق وعده, لا إله إلا الله ينبض بها قلبي, وقصة اليتيم, والحوت والعنكبوت, وبك أستجير, يا عالم السر, ويا من ملكت قلوبنا, ويا من يراني في علاه, يا سالكين إليه الدرب, أنا من أنا, سبحانه قد تجل في علاه.