ملاعب الجولف.. للمواطنين د. حازم الببلاوي لا شك أن الصيف قد أصبح أشد حرارة وأكثر رطوبة مع مزيد من تلوث الجو, فسماء مصر الزرقاء ولياليها الصافية ونسيمها الرقيق ونجومها المتلألئة في السماء هي مجرد ذاكرة باهتة في النفس عن تلك الأيام الخوالي للصبا والشباب, وإذا أضفنا الي ذلك ازدحام الشوارع وفوضي المرور وارتباكه, فإن قضاء الصيف في القاهرة هو تجربة مؤلمة ومعاناة صعبة يجدر بالانسان العاقل أن يتجنبها قدر الإمكان, ولذلك فإذا كان لك موطيء قدم في الساحل الشمالي, فلابد من الرحيل من القاهرة, وبسرعة وهذا ما فعلته بالضبط, وان كنت قد اضطررت للبقاء عدة أيام في القاهرة لقضاء بعض الأشغال, وبمجرد أن انتهيت من هذه المشاغل الصغيرة انطلقت إلي مارينا عبر الطريق الصحراوي. وبعد الخروج من اختناق طريق المحور الذي تجري عمليات إصلاحه الآن رغم أنه لم تمض علي افتتاحه سوي سنوات قليلة فان السير في طريق عريض وسط خلاء فسيح يعيد للنفس هدوءها ويتيح للخيال مجالا للانطلاق.. كم تغيرت مصر خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة! إنها لم تعد مصر طفولتنا وشبابنا انها أكثر ازدحاما واشد ضوضاء وأكثر قبحا أيضا. وأول ما يقابلك في الطريق هو لوحات الإعلانات العملاقة وهي تبشرك بالمنتجعات الجديدة في كل مكان, في الساحل الشمالي, وفي غرب الاسكندرية, وفي البحر الأحمر وفي سيناء بل أيضا في القاهرة التي أضيفت إليها القاهرةالجديدة, فضلا عن مدينة نصر التي أصبحت هي الأخري جديدة إضافة إلي مصر الجديدة( هليوبوليس), والمعادي الجديدة, الكل أصبح جديدا والجميع يتحدث عن فيلات وشاليهات وحمامات سباحة, ولا يقل أهمية تأكيد أن بكل منها ملاعب للجولف أيضا. والجولف الذي بدأ في اسكتلندا لمناخها الممطر دائما ومروجها الخضراء الواسعة, انتقل إلي أمريكا ليصبح رياضة الأغنياء ونجوم المجتمع وذلك قبل أن ينتقل مع المعجزة الاقتصادية اليابانية ليصبح هوس الأجيال الجديدة من اليابانيين حتي أن السياحة من اليابان أصبحت تتبع تسهيلات وخدمات الجولف, وبالتالي أصبحت معظم دول جنوب شرق آسيا السياحية من تايلاند إلي إندونيسيا مجالا لملاعب الجولف وللسياحة اليابانية, وهي كلها دول ممطرة غزيرة المياه وهكذا فإن ملاعب الجولف تكاد تكون في معظم هذه الدول من عمل الطبيعة أكثر منها من صناعة الإنسان, ولكن الجديد حقا هو ظهور الجولف وعلي نحو واسع في عدد من الدول الصحراوية, وحيث تصبح إقامة هذه الملاعب من عمل الإنسان, وذلك بمساعدة من أموال البترول عادة. عندما انتقلت إلي العمل في أبو ظبي منذ خمس أو ست سنوات واجهتني مشكلة قضاء الوقت في هذا البلد الصغير حيث لا أكاد اعرف أحدا ونصحني أحد الأصدقاء بأن الحل هو في الجولف, وبالفعل اكتشفت أن أبو ظبي ودبي بشكل أكبر تمتليء بملاعب الجولف الحديثة والواسعة والمزودة بأحدث التجهيزات وأن لعب الجولف يتم فيها عادة في المساء, وسط أضواء باهرة كما في الصباح, وإذا لم تكن أبو ظبي تعرف أمطارا, إلا قليلا ونادرا في فصل الشتاء, فانها بالمقابل تقوم علي بحيرة من البترول, ومع البترول وأمواله يصبح كل شيء ممكنا, ومن هنا أصبحت دولة الإمارات ومن ورائها دولة قطر مراكز جذب لبطولات الجولف العالمية, يفد إليها أشهر لاعبي الجولف في العالم من أمثال تيجروودز للاستمتاع ليس فقط بهذه الملاعب; وإنما غالبا بكرم وسخاء أهل البلد علي النجوم اللامعة من الرياضيين, بل إنها أصبحت مركزا لجذب رموز السياسة العالمية من أمثال كلينتون وآل جور فضلا عن نجوم السينما والتليفزيون أو حتي الحائزين علي جائزة نوبل في العلوم والآداب فأموال البترول وسخاء أهل البلد وغير قليل من الدهاء السياسي مع هذه النجوم الساطعة يمثل قوة جذب لا تقاوم, فما الضرر من قبول دعوة لقضاء أربعة أو خمسة أيام في أفخم الفنادق مع استضافة كاملة والسفر في الدرجة الأولي, ثم إلقاء كلمة في ندوة أو حضور لقاء مع شيك وهدايا بنصف مليون دولار أو أكثر غالبا بعيدا عن الضرائب وقد حققت هذه الدول من وراء هذه الدعوات مكاسب سياسية وأحيانا استثمارية أيضا. فالبترول وأمواله تفعل عجبا, أما الأكثر عجبا فهو مصر الصحراوية القليلة أو العديمة الأمطار, محدودة الموارد البترولية والقادرة رغم ذلك علي التوسع في تشييد ملاعب الجولف, ووجه العجب هو أن مصر الفقيرة بتروليا تتصرف وكأنها دولة بترولية, فما أن تفتح الجريدة الصباحية والتي قد يصل عدد صفحاتها في كثير من الأحيان إلي أكثر من40 صفحة حتي تجد أن أكثر من نصف صفحاتها اعلانات عن منتجعات جديدة تنتشر في أطراف القطر,, كل منها يحرص علي تطمين القاريء علي وجود ملاعب للجولف, وقد تزداد المفارقة اذا وجدت, نفس الصحيفة خبرا وربما صورة عن أهالي قرية أو أكثر يتجمعون ويتصايحون لانقطاع المياه عنهم منذ شهور, أو تقرأ في بريد القراء رسالة قاريء أو قارئة في أحد أحياءالقاهرة أو احدي المحافظات يشكو من انقطاع المياه لمدة أيام أوأسابيع إن لم يكن شهورا ولا يخفف من هول العجب أن تأتي تصريحات المسئولين بأن المشكلة سوف تحل في القريب العاجل وهي عبارة سحرية يستخدمها معظم المسئولين باسراف شديد. وبطبيعة الأحوال فإن هذهالخواطر وأمثالها والتي تجول في ذهنك وأنت في الطريق الصحراوي لابد أن تنقطع أو تتوقف عندما تقترب من مدخل مارينا, فهذا وقت العودة الي أرض الواقع ولا مجال للسرحان في الخيال والتأمل, وعليك أن تنتبه لمخاطر الطريق ولمعرفة باب الدخول الي المارينا بعدان اتسع حجم قرية مارينا علي امتداد يزيد علي خمسة كيلومترات وربما أكثر, وهو ما يقرب من طول كورنيش الإسكندرية الذي كان في وقت من الأوقات مصدر افتخار الاسكندرية والتي كانت تعرف بعروس البحر المتوسط, وحيث كان كورنيشها يجاوز جمالا وطولا وعرضا كورنيش نيس أو كان جنوبفرنسا, وكان لمارينا بابان أو مدخلان وربما ثلاثة أبواب لدخول القرية, وقد زاد عددها الآن الي سبعة أبواب آخرها مايطلق عليه باب الوزراء, حيث الفيلات الجميلة والفخمة والتي يقال إنها خصصت للوزراء بشكل خاص ويتميز باب الوزراء بأن بناءه أكثر جلالا حتي يناسب مقام الوزراء وأول ما يصادفك وأنت تنحرف لدخول الطريق العام الي القرية هو بناد جديد ومرتفع متعدد الالوان يشبه في الوانه الفاقعة قصور الكرملين في موسكو, وان كان القصد علي ما يبدو هو أن يكون علي الطرازالايطالي في الوسطي, فينسيا( البندقية) بوجه خاص, وهذا البناءهو مايطلق عليه بورتومارينا وتأكيدا لوصول العولمة الي أرض مصرالمحروسة, فإن الاسماء التي التي تصادفها في الساحل الشمالي تغلب عليها الاسماء الأجنبية, في الوقت الذي تضم المساكن العشوائية بل القبور في القاهرةوالاسكندرية ما لا يقل عن عشرة ملايين نسمة, ويقدرها البعض بأكثر من ذلك. هذا فضلا عن ان أكثر من أربعة آلاف قرية تعيش في أجواء من البناء العشوائي فماذا كان سيكون وجه مصر لو أنفقت هذه الاستثمارات أو جزءا منها في تحسين الظروف السكنية لسكان القري والمدن المصرية من متوسطي ومحدودي الدخل. ولعل ما يدعو للغرابة في هذا الصدد أن العديد من هذه القري السياحية مثل ماراقيا وميرابيلا ومارينا لا تملكه شركات خاصة وإنما شركات حكومية للقطاع العام. واذكر أنني ذكرت مثل هذا التعليق في ندوة عقدت منذ سنوات في المركز القومي للبحوث الاجتماعية, وكان المهندس حسب الله الكفراوي وزير الإسكان الأسبق حاضرا هذه الندوة, وكان رده علي تعليقي أنه كان الأجدر بي أن أحمد الله, لأنه سمح لي بتملك فيلا في مارينا دفعت فيها أقل من مائتي ألف جنيه وقد أصبح ثمنها آنذاك أكثر من ستمائة ألف جنيه, وهذه حقيقة لذلك فقد سكت وحمدت الله وفقا لنصيحته, فالحمد واجب علي كل حال, ولكن هذا لم يغير رأيي وعلي أي الأحوال فالاسعار التي تحدث عنها الوزير الكفراوي في ذلك الوقت تجعل تلك الأرقام الآن مضحكة ولعب عيال وقد كان ارتفاع أسعار الفيلات في الساحل الشمالي أحد اكثر الموضوعات إثارة في أحاديث مارينا المشهورة بتداول الشائعات والقصص المثيرة وربما الفضائح, ولم يعد الحديث عن مئات الآلاف مثيرا, فالكل يتحدث عن الفيلات التي تباع بعشرة أو عشرين مليون جنيه بل ان أحد المواقع علي الانترنت يعلن عن قرية جديدة جنوبالغردقة تبلغ قيمة الفيلا فيها أحد عشر مليون دولار, أي ستين مليون جنيه.. أي والله, ستون مليون جنيه لفيلا لابد انها جميلة, وهي في الصورة كذلك, ولكنها لا يمكن أن تستخدم لأكثر من أسبوعين في السنة انه عالم عبثي, ولامؤاخذة وطالما أنني بدأت حديثي عن ملاعب الجولف, فأود أن اطمئن القاريء العزيز, أن مارينا قد استوفت مقوماتها الضرورية, فإلي جانب اليخوت والمراكب وحمامات السباحة, فقد توافر لها أيضا ملاعبها للجولف, فدعاني الصديق المهندس علي مشرفة للتدريب في ملاعب بورتومارينا للجولف عصر أحد الأيام, وكان يوما جميلا وكنت قد قرأت في صباح نفس اليوم العنوان الرئيسي في الجريدة بأن الحكومة تهتم بالمواطن وبمحدودي الدخل مع ملاعب الجولف فلابد أن سعادة المواطنين ستكون كبيرة. إن مصر ليست فقط أم الدنيا ولكنها أم العجائب.. وعدت الي عملي في أبو ظبي. الله أعلم عن صحيفة الاهرام المصرية 16/9/2007