التيسير ومراعاة أحوال المستفتى الشريعة الإسلامية بُنيت على اليسر، والاجتهاد فيها مبني على قاعدة أصولية معتبرة قررها الأصوليون تسمى «رفع الحرج»؛ لأنه ليس مقبولاً لدى أهل العلم أن يتحول دين الرحمة والرفق إلى حرج ومشقة، تجعل من الالتزام به عسرًا لا يسر فيه، ففي الحديث الشريف: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»، فالدين مبناه التيسير، والمثل والقدوة في ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي ما خُيِّر بين أمرين إلا واختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا أو قطيعة رحم، والذي ذكر في حديثه صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة». إذًا فالتيسير مأخوذ من اليسر الذي يعني السهولة، وأهل العلم يطلقون عليه التسهيل والتوسعة والتخفيف ورفع الحرج، وهو فطرة فطر الله الناس عليها. ولما كان الإسلام هو دين الفطرة فإننا نجد نصوصه وقد امتلأت بالدعوة لرفع الحرج عن هذه الأمة، إلى الحد الذي وصلت به لدرجة القطع كما يقول بعض الأصوليين. يقول تعالى: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر»، و«ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج»، و«ما جعل عليكم في الدين من حرج» وغيرها من نصوص القرآن الكريم، وليس المقصود بالطبع من الحديث عن التيسير ورفع الحرج في الإفتاء الإتيان بشرع جديد يسقط الفرائض ويحل المحرمات، إنما المقصود جملة من المعاني والآداب الشرعية. ومن هذه المعاني والآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المفتي، والتي قد تصل إلى الشروط في أيامنا هذه، التيسير على الناس، وإدخالهم في دين الله، وإلقاء الستر عليهم، والعمل على جعل الناس متبعين لقول معتبر في الشرع، فذلك خير لهم من تركهم للدين بالكلية، مما يُعد صدًّا عن سبيل الله من حيث لا يشعر العالم، إذن فالمقصد الأساسي الذي يسعى لتحقيقه المفتي هو إحداث آلية شرعية للتعامل مع التراث الفقهي الإسلامي؛ بحيث لا تخرج عن دائرته ولا يكون عائقًا للمسلم المعاصر، فلا بد للفتوي أن تكون مرتبطة بالأصل متصلة بالعصر ترفع الحرج عن الناس. والتيسير الذي نقصده هو ما نقل تعريفه ابن أمير الحاج في التقرير والتحبير شرح التحرير؛ حيث قال: »أي أخذه من كل منها- أي المذاهب- ما هو الأهون فيما يقع من المسائل (ولا يمنع منه مانع شرعي)، ونستخلص من ذلك أن اتباع الرخص جائز، ولكن بشروط وقيود لا ينبغي إهمالها، وهو مذهب أكثر العلماء، ومن أبرزهم العز بن عبد السلام، والقرافي، والعطار، وغيرهم من المحققين. وجاء في ذلك المعنى نُقُولٌ أخرى منها قول سفيان الثوري رحمه الله: »إذا رأيت الرجل يعمل العملَ الذي قد اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه«. وهذا الإمام أحمد بن حنبل يقول: »لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ويشتد عليهم«، وقال الإمام الحنبلي ابن قدامة المقدسي: »وجعل في سلف هذه الأمة أئمةً من الأعلام, مهَّد بهم قواعد الإسلام, وأوضح بهم مشكلات الأحكام, اتفاقُهم حجةٌ قاطعةٌ, واختلافُهم رحمةٌ واسعةٌ«. إلا أن التيسير لا يقتصر على الفتوى فقط، بل يمتد إلى أمور أخرى من أهمها مراعاة أحوال المستفتي، ولذلك عدة وجوه، منها؛ إذا كان المستفتي بطيء الفهم، فعلى المفتي الترفق به والصبر على تفهم سؤاله وتفهيم جوابه، وإذا كان بحاجة إلى تفهيمه أمورًا شرعية لم يتطرق إليها في سؤاله، فينبغي للمفتي بيانها له زيادة على جواب سؤاله، نصحًا وإرشادًا، وقد أخذ العلماء ذلك من حديث أن بعض الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بماء البحر، فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته». كما أن المفتي له أن يعدل عن جواب السؤال إلى ما هو أنفع، ومن ذلك قوله تعالى:«يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ»، فقد سأل الناس النبي صلى الله عليه وسلم عن المنفق فأجابهم بذكر المصرف إذ هو أهم مما سألوا عنه. ومن ذلك أن يسأل المستفتي المفتي عما هو بحاجة إليه فيفتيه بالمنع، فينبغي أن يدله على ما هو عوض منه، كالطبيب الحاذق إذا منع المريض من أغذية تضره يدله على أغذية تنفعه. أو أن يسأل عما لم يقع، وتكون المسألة اجتهادية، فيترك الجواب إشعارًا للمستفتي بأنه ينبغي له السؤال عما يعنيه مما له فيه نفع ووراءه عمل، قال ابن عباس رضي الله عنه: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. وقال ابن عباس لعكرمة: «اخرج يا عكرمة فأفتِ الناس، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عن نفسك الناس». كما أن للمفتي أن يراعي أحوال الناس وأفهامهم لقول علي رضي الله عنه: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله ؟»، وقول ابن مسعود: «ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة». فالتيسير على الناس والترخص لهم لإدخالهم في الدين خير من التعسير عليهم وإلزامهم بالقول الشديد، لما في ذلك من مخالفة لمنهج النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسبيل الصالحين من أسلافنا العلماء، ولما فيه من صد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، رزقنا الله الفهم والإخلاص نقلا عن " الاهرام " المصرية