يضيع اليوم في تونس صدى الحناجر التي ارتفعت خلال شتاء وربيع 2011 في شوارع تونس "ارحل.. ارحل يا تجمع RCD dégage (حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي) مع سقوط الفصل 167 والسماح لمنتسبي نظام بن علي بالمشاركة في الانتخابات. وخلال شتاء وربيع عام 2011 ترددت في شوارع تونس "ارحل.. ارحل يا تجمع" RCD dégage ، وتم خلال اعتصام القصبة في شهري فبراير/شباط ومارس/آذار من نفس السنة الدعوة إلى انتخابات مجلس تأسيسي جديد يضع دستورا جديدا بدل دستور ما بعد الاستقلال. وبعد انتخابات المجلس التأسيسي 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011 طرح قانون لتحصين الثورة يستهدف منع رموز الحزب الحاكم في عهد بن علي والذين ناشدوه للترشح لانتخابات سنة 2014 قبل أن تطيح به الثورة من المشاركة في الحياة السياسية. وفي مايو/أيار 2011 منع المرسوم الرئاسي رقم 35 الذي أصدره الرئيس المؤقت السابق فؤاد المبزع (الذي خلف بن علي في حكم تونس منذ يناير/كانون الثاني 2011 حتى ديسمبر/كانون الثاني من العام ذاته) كل من تحمّل مسؤولية في حكومات الرئيس السابق زين العابدين بن علي ومن تحمل مسؤولية في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي طيلة حكم بن علي من خوض انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول 2011، وسبق ذلك حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي بحكم صادر عن محكمة الاستئناف بتونس يوم 9 مارس/آذار 2011 . وكان سيتم تمرير قانون لتحصين الثورة، الذي طرحه حزب المؤتمر من أجل الجمهورية (حزب الرئيس محمد المنصف المرزوقي)، مرتان، لكن الأحداث تطورت في تونس لتمنع طرح القانون للمصادقة عليه في المجلس التأسيسي. والمرة الأولى التي طرح فيها القانون للمصادقة يوم 6 فبراير/شباط 2013 ولكن اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد في ذات اليوم ساهم في التخلي مؤقتا عن طرح القانون بفعل الأزمة السياسية الحادة التي أعقبت الاغتيال والتي أدت إلى استقالة حكومة حمادي الجبالي. وباءت محاولة أخرى للمصادقة على قانون تحصين الثورة بالفشل إثر اغتيال النائب القومي محمد البراهمي يوم 25 يوليو/تموز 2013 بعد كان أن طرحه ثانية حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" خلال أبريل/نيسان 2013 على المجلس الوطني التأسيسي. وكان طرح القانون يحظى بموافقة حركة النهضة صاحبة الأغلبية في المجلس التأسيسي التونسي وحزب "المؤتمر من أجل الجمهورية"، وحركة وفاء بقيادة النائب عبد الرؤوف العيادي والعديد النواب المستقلين. في خضم خشية حركة النهضة من مواجهة مصير، يعتبره بعض المراقبين، مشابه للسيناريو المصري (إطاحة الجيش بمشاركة قوى سياسية ودينية بالرئيس السابق محمد مرسي) خاصة بعد تشكيل جبهة الإنقاذ بين المعارضة اليسارية وحزب "نداء تونس" في يوليو/تموز الماضي، وتصاعد الأعمال الإرهابية في جبل الشعانبي (غرب) وعديد المناطق الأخرى ومطالبة جبهة الإنقاذ بحل المجلس الوطني التأسيسي واستقالة حكومة رئيس الوزراء السابق على العريض وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، غيرت حركة النهضة، صاحبة أكبر كتلة في المجلس التأسيسي، من موقفها المعارض لحزب نداء تونس الذي كانت تعتبره حزب الفلول والمستهدف الأساسي حسب المراقبين من قانون تحصين الثورة ، وسافر رئيسها راشد الغنوشي إلى باريس يوم 15 أغسطس/ آب للقاء الباجي قايد السبسي رئيس حزب نداء، فيما اعتبره المراقبون تكتيكا سياسيا من زعيم حركة النهضة لشق صف جبهة الإنقاذ. وأعلنت حركة النهضة عن تخليها عن قانون تحصين الثورة رغم ما بدا من مساندة غالبية قواعدها للعزل السياسي لرموز المنظومة السابقة خلال أكبر تجمع نظمته الحركة بساحة الحكومة بالقصبة في أغسطس/آب الماضي. وخلال شهر أكتوبر/تشرين الأول 2013 قبلت حركة النهضة بالدخول في حوار وطني للخروج من وتشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة وكان إلى جانبها في جلسات الحوار الوطني حزبان لهما خلفية "تجمعية" حركة "نداء تونس" بزعامة الباجي قايد السبسي رئيس أول برلمان تشكل في عهد بن علي، وحزب "المبادرة" بقيادة محمد جغام وزير خارجية سابق في نظام بن علي وعند نقاش قانون انتخابات التي ستنظم وفقها الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة المتوقع إجراؤها قبل نهاية هذا العام طرح على التصويت الفصل (المادة) 167 الذي ينصّ على أنه "لا يمكن أن يترشح لانتخابات مجلس الشعب كل من تحمل مسؤولية صلب الحكومة في عهد الرئيس المخلوع باستثناء من لم ينتم من أعضائها إلى التجمع الدستوري المنحل. كما لا يمكن الترشح لكل من تحمل مسؤولية في هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل وفق مقتضيات الأمر عدد 1089 المؤرخ في 03 أغسطس/آب 2010. وتبقى هذه الأحكام سارية المفعول إلى حين تطبيق منظومة العدالة الانتقالية وفق الفقرة 9 من الفصل 148 من الدستور". وهو ما اعتُبِر محاولة لتمرير جوهر قانون تحصين الثورة الذي تمّ التخلي عنه من قبل القوة السياسية الأبرز في تونس، "حركة النهضة"، إلا أن الفصل لم يمر في التصويت وسقط لأنه لم يحصل سوى على 108 أصوات، بينما كان مفترضا أن يحصل على 109 أصوات ليمر، وعارضه 23 نائبا وامتنع عن التصويت 43 نائبا من بين 217 وهو عدد نواب المجلس الوطني التأسيسي الذين لم يحضر منهم يوم التصويت سوى 164 نائبا. وصوتت كتل المؤتمر من أجل الجمهورية (13 نائبا) والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات (12 نائبا) والوفاء للثورة (9 نواب) والتحالف الديمقراطي (7 نواب) و39 نائبا من حركة النهضة و18 نائبا من المستقلين لصالح تمرير الفصل 167. إلا أنه لوحظ أن كتلة حركة النهضة انقسمت خلال التصويت –وربما لاول مرة – إذ صوت 5 نواب ضد الفصل و26 امتنعوا عن التصويت، ولم يصوت لصالح الفصل سوى 39 نائب مما لم يسمح بتمرير الفصل. وبحسب المراقبين فإن هذا الانقسام في مواقف نواب النهضة يعكس انضباط الرافضين والمحتفظين لتعليمات القيادة و"تعهداتها السياسية" في حين صوت لفائدة القانون النواب لذين يعتبرون انفسهم "نواب الشعب الذي نادى برحيل حزب التجمع الديمقراطي الدستوري واستبشر لحله" . وألقى متحدثون باسم كتل المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات و الوفاء للثورة في تصريحات إعلامية سابقة باللائمة في عدم تمرير الفصل 167 على حركة النهضة واعتبروا ما وقع نتيجة "صفقة" عقدتها حركة النهضة مع حزب "نداء تونس". في حين رد رئيس كتلة حركة النهضة في المجلس التأسيسي الصحبي عتيق خلال تصريحات إذاعية سابقة بأن "عدم تصويت كتلة حركة النهضة بالمجلس التأسيسي لفائدة الفصل 167 المتعلق بالعزل السياسي يأتي في إطار احترامها لتعهداتها خلال الحوار الوطني. وقال عتيق إن "موقف حركة النهضة من هذا القانون كان واضحا منذ البداية كما أن حركة النهضة تقدر الوضع الذي تمر به البلاد ولا تريد أن تعيق إجراء انتخابات في موعدها". ويرى مراقبون أن حركة النهضة قامت بدراسة سلوك معارضيها في المشهد السياسي التونسي جيدا، وخلصت إلى أن تحالفا سياسيا بين اليسار و"الفلول" كاد يعصف بالثورة التونسية خلال الصيف الماضي الماضية، وتنبهت إلى أن الاستمرار منفردة في محاولة عزل المنظومة القديمة سيجعلها تواجه مصيرا صعبا كذلك الذي سقطت فيه حركة الإخوان المسلمين في مصر. كما يرى المراقبون أن دراسة حركة النهضة لتطورات الوضع الدولي والإقليمي منذ سنة تجعلها تتجنب صداما أحاديا الجانب ربما يؤول بها إلى نفس المصير "الذي واجهته النهضة لما قررت مواجهة نظام بن علي سنة 1991" كما ذهب إلى ذلك أنصار حركة النهضة على شبكات التواصل الاجتماعي في ردهم على خصومهم ومنتقديهم بعد إسقاط الفصل 167. ولعل السؤال الأبرز الذي يطرح اليوم حسب "المتمسكين بالخط الثوري في تونس" هو : هل تتمكن النخب السياسية التي عارضت طويلا الرئيس السابق بن علي، ودفعت كلفة ذلك غاليا، أن تتجاوز انقسامها الذي أعاد المنظومة القديمة إلى المشهد السياسي وتشكل جبهة انتخابية لمواجهة عودة هذه المنظومة إلى الحكم بعد أربع سنوات من الثورة، أم أن مناكفات النهضة مع التيارات اليسارية والتقارب بين أكبر حزبين في تونس: حركة النهضة وحركة نداء تونس - حسب النتائج التي تقدمها شهريا مراكز استطلاع الآراء في تونس - سيؤديان إلى تقاسم الحكم.