يتصور البعض أن الخلاف بين قطر وشقيقاتها من دول مجلس التعاون الخليجي جديد وطارئ، وأنه لا علاقة له بمصالح الشعوب الخليجية وأمنها واستقرارها، بل باختلاف المواقف حول قضايا خارج دول مجلس التعاون. وهذا ما عمل بيان مجلس الوزراء القطري حول سحب سفراء كل من الإمارات والسعودية والبحرين من الدوحة، على أن يحول الأنظار إليه، لاوياً عنق الحقيقة. والحقيقة أن لهذا الخلاف جذورا تمتد إلى منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وإلى عام 1995 على وجه التحديد، وهو العام الذي جاء فيه أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني إلى سدة الحكم بعد تنحية والده، حيث بدأت قطر تتطلع إلى لعب دور في الشؤون الدولية، كي «لا تبقى على هامش التاريخ»، مثلما صرح وزير الخارجية القطري الأسبوع الماضي في كلمته بمعهد الدراسات السياسية في باريس. هنا نستطيع أن نربط بين هذه التطلعات، وبين بداية إنشاء قناة «الجزيرة» أواخر عام 1996، بعد عام ونصف تقريبا من تغير نظام الحكم في قطر، حيث تأسست القناة بمنحة مقدارها 150 مليون دولار من أمير قطر وقتها، وبدأت بثها في الأول من نوفمبر 1996، منطلقة في السنوات الأولى من دون إعلانات تجارية، ثم بدأت تبث إعلانات في محاولة منها لتحقيق الاكتفاء الذاتي عام 2001. لكنها فشلت في ذلك لإحجام المعلنين السعوديين عن الإعلان فيها نتيجة مواقفها السلبية من المملكة، مما اضطرها للجوء إلى الأمير الذي وافق على الاستمرار في تقديم دعم سنوي لها، وفقا ل»أرنولد بورشغراف» المحرر في وكالة «يونايتد برس إنترناشيونال». هنا نعترف أننا جميعا، والعاملين منا في مجال الإعلام على وجه الخصوص، كنا مبهورين بسقف الحرية العالي الذي كانت تتمتع به القناة المدعومة من الحكومة القطرية، ومن أميرها على وجه الخصوص، في الوقت الذي كانت فيه معظم وسائل الإعلام في دول الخليج مدعومة من الحكومات، لكنها لا تتمتع بالسقف الذي كان متاحا لقناة «الجزيرة» الفضائية. ولعلنا نتذكر الآن أن «الجزيرة» استضافت وقتها بعض المعارضين السعوديين المقيمين في الخارج، مثل الدكتور محمد المسعري والدكتور سعد الفقيه المقيمين في لندن، وأتاحت لهما المجال لمهاجمة النظام السعودي، في خطوة نظر إليها البعض على أنها جرأة لا تستطيع «الجزيرة»، ولا غيرها، الإقدام عليها دون موافقة من يمولها، بينما نظر إليها البعض الآخر على أنها بداية لعهد جديد من الإعلام الحر، خاصة وأن «الجزيرة» ترفع شعار «الرأي والرأي الآخر» معتبرةً نفسها قناة خاصة وليست حكومية! إلى أي مدى تعاملت المملكة العربية السعودية مع هذه السياسة بهدوء وصبر تُحسَد عليهما؟ ومتى فقدت المملكة هدوءها وصبرها؟ هذا هو السؤال الذي يمكن أن نستشف جوابه من الأحداث والقرار الأخير الذي اتخذته المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، ليس بسبب الاختلاف في المواقف حول قضايا خارج دول مجلس التعاون، مثلما حاولت قطر أن تصور المسألة، وإنما لأن النار أصبحت داخل البيت الخليجي. وتوشك أن تحرق هذا البيت بمن فيه وما فيه، خاصة بعد نشر التسجيلات المسربة للمكالمة الهاتفية التي جرت بين الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري السابق، والرئيس الليبي السابق معمر القذافي، قبل أن تنقلب قطر عليه، وتقود معكسر الثورة ضده، وهي تسجيلات تنمّ عن مؤامرة على النظام السعودي، تديرها قطر وتحشد لها الأنصار والمؤيدين. وهذا ما تمت مواجهة قطر به في أحد الاجتماعات الخليجية التي جرت مؤخرا، في إطار سعي دول مجلس التعاون الخليجي لرأب الصدع، وإعادة قطر إلى الصف من جديد، لكن قطر تعللت بأن هذه التسجيلات قديمة، وقالت إنها ملتزمة بوحدة الصف الخليجي، وبكافة المبادئ التي قام عليها مجلس التعاون، وتنفيذ كافة التزاماتها، رغم أن وزير خارجيتها رفض التوقيع على ورقة الإجراءات التنفيذية التي اقترحها وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل، في الاجتماع المشار إليه! قطر مضت إلى أبعد شوط في التحليق خارج السرب الخليجي، ليس باتخاذ مواقف مختلفة عن مواقف دول المجلس حول قضايا خارج دوله، كما يزعم بيان مجلس وزرائها، وإنما باحتضانها لمنظمات تعمل على تقويض أنظمة الحكم في دول المجلس. وتهدد أمنها واستقرارها، مثل سماحها بفتح فرع ل»أكاديمية التغيير» يديره هشام مرسي، صهر «القرضاوي» الذي رفضت قطر إيقافه عن مهاجمة بعض دول المجلس، قائلة إنها قد عنفته على تصريحاته السابقة، وهي منظمة مقرها بريطانيا، تقوم من خلال فرعيها في «الدوحة» و»فيينا» وعبر الانترنت ومواقع اليوتيوب، بتدريب الشباب على الثورة وتزويدهم بأفكارها، وتكتيكات التفاوض، وأساليب رفع سقف المطالب. وتنفيذ خطوات العصيان المدني، وإبراز بعض المعاني الرمزية؛ مثل حمل المصاحف، وإضاءة الشموع، ودق الطبول، وحمل الأعلام الوطنية، وهي أساليب شاهدناها في كثير من المظاهرات والاعتصامات التي جرت في مصر والبحرين. كما تحتضن قطر «منظمة الكرامة لحقوق الإنسان» التي يرأسها القطري عبد الرحمن بن عمير النعيمي، أستاذ التاريخ في جامعة قطر، و»المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» الذي يديره النائب العربي الإسرائيلي السابق عزمي بشارة، وفرع مركز «بروكنغز» الذي أنشئ بمبادرة من مركز «بروكنغز» في واشنطن، ويرأس مجلس مستشاريه الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني. وبعد هذا كله نتساءل: هل تحلق قطر خارج السرب، أم أنها تحلق داخله؟! نقلا عن جريدة " البيان" الاماراتية