تذكرت مقطعا من قصيدة لواحد من شعراء العرب الكبار. والموت ليس واحدا، فليس من يموت ف الصبح كمن يموت في المساء. باغتتني الأحزان حين روعتني فجيعة موتك أخي وصديقي محسن شعلان مبدعا كنت في زمن لا يعرف قدر المبدعين. هل حقا لن نلتقى ثانية فى بيتك وفى مرسمك هل لن اسمع ثانية نصيحتك لي عن تجهيز أتيليه "العرب"؟ ها قد رحلت فجأة وأنا أعدك سندا لي فى هذه الحياة. كنت اعدك أخا أكبر أهرع إليه لطلب المشورة والنصيحة وكنت اعدك أبا روحيا فى عشقك لفنك وتفانيك فى عملك.. مازلت أراك فنانا كبيرا أبتعد معه ويبتعد معي عن صخب الصغار والأدعياء.. رحلت أيها الصديق الأعز تاركا فنا كبيرا وانجازا عظيما. هل اصبح قدرنا يرحل الكبار فى هدوء بينما يملأ الصغار الدنيا ضجيجا.. يرحل الكبار وهم منسيون مظلومون لأن قدرهم ان عاشوا آخر أيامهم فى زمن الادعياء. يرحل الكبار وهم عاتبون علينا لأننا نعيش فى بلد لا تعرف قدر بنيها إلا بعد موتهم تقيم عليهم مأتما وعويلا يتصدرهم الصغار أيضا.. ثم تنسى سريعا قيمة من فقدت فى ظل تشويشهم وصخبهم. نعم ظلم حيا أربع سنوات قضاها محسن شعلان حبيسا معذبا يعاني من غدر الأصدقاء حين ضيق عليه الآفاقون وسجنوه قهرا وظلما بتهمة الاهمال. وحين ضيقوا عليه الأرض بما رحبت وحاصروه من كل اتجاه رسم شعلان أجمل لوحاته واتسعت له الرؤية واستوعبته اللوحة.. ولأن الريشة والألوان والقلم استسلمت له ووفت بعهدها –شأنها مع كل مبدع حقيقي – بادلها وفاء بوفاء واخلاصا باخلاص فكان هو الصدق كله. كنت أري على وجهه الباسم دائما سحابة عابرة من الاحباط تتسلل إليه, حتى غادرت روحه الشفيفة هذه الدنيا بغته وكأنها تعلن انتمائها لعالم الخلود وانحيازها لدار الحق بعد ما ذاقت من الهموم والزيف فى دار الباطل. عاش شعلان بروح صافية, متسامحا مع الجميع, تسبقه ابتسامة ودودة تصنع دفئا انسانيا حقيقيا وان كان وراءها ما لا يعلم إلا الله سبحانه وتعالي من شعور بالألم والشجن. ربطتني به اخوة حقيقية امتدت إلى ان توفاه الله ولازمني كظلي طوال اجازتي الماضية في القاهرة. ترهقني تفاصيل انسانية قد تبدو صغيرة, أدرك الآن أنها لم تكن كذلك, مرت عابرة وحين أستعيد بعضا منها يدهشني أنها كانت مفاتيح ميسورة تمكن من الولوج إلى العالم الفني شديد الرحابة لمحسن شعلان، وكيف لي ان انسي روحه المتقدة وانسانيته المفرطة في العذوبة وهو يدوس بقدميه اتيليه "العرب" في القاهرة تحت التأسيس ليضع كل التصورات وكل المشاريع الثقافية التي حلمنا بها سويا لرفعة الفن. كان معرضه الأخير بعنوان "القط الأسود" وفكرة القط الأسود لا تخفى على ذى لب من أنها محاولة شعلان الأخيرة فى ان يبوح بكل ما سكن فيه من احساس بالظلم والقهر، وانه كان قليل الحيلة في اتهامه بالاهمال وادخاله السجن ككبش فداء لكل الفساد الذي تعج به البلاد. فكرة القط الأسود هي فكرة رمزيه للغموض والسحر وامتلاك قوى خارقة مسيطرة تستطيع اخضاء اعناق الجبابرة. القط الأسود كان أمل محسن شعلان الأخير فى استرداد بعضا من كرامته التى اهدرت فى زمن العبث. القط الاسود هو ما تمنى شعلان ان يكنه لكنه لن يكون. فشعلان المسكون بسحر الفن وقواه الخارقة التى تخضع اذواق المتلقين بحسه الصادق المرهف تخضعهم لخطوطه وألوانه. القط الاسود الذي لم يكنه شعلان فى الواقع اصبحه فى الفن. وشاءت ارادة الله ان نعجز أن نقدم له الحفاوة التي يستحقها والتي نراها واجبا بحقنا وبحق كل ذي صلة بالفن والابداع وقبلها كل ذي صلة بالانسانية. ** ناقد تشكيلي