لماذا أخفق المسلمون في نشر الرسالة في الأندلس ؟! ولماذا زالت دولة الإسلام هناك ؟!بعد ترسخ قدمها لقرون طويلة ؟! وغيرها من التساؤلات الملحة طرحناها علي المؤرخ الكبير د. عبادة كحيلة ، وصاحب الدراسات العديدة بشؤون الأندلس. وقد تناولنا معه أسباب فتح الأندلس، وطبيعتها شديدة الخصوصية ، وفيما يلي نص الحوار : لماذا فتح المسلمون الأندلس، وهل كان ذلك حقاً استجابة لنداءات من حاكم سبتة ؟ لم يكن السبب الرئيسي لفتح العرب والمسلمين للأندلس هو أن حكامها ظالمين أو أن هناك من استدعاهم ليعينوه على ملك أسبانيا لوذريق، فقد درج المسلمون ذلك الزمن على فتح بلاد كثيرة حول العالم ونشر دين الإسلام ورسالته بين أهلها وشرعوا في ذلك بعد سنوات قليلة من وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – حينما اتجهوا لفتح الشام والعراق ومصر وغيرها. وبالنسبة للأندلس تحديدا فقد أفاد المسلمون مما كان يحدث فيها من اضطرابات بأسبانيا عموما وما كان يحدث من صراعات على السلطة وإضطهاد للأقليات ومنهم اليهود، أولئك الذين أعانوا المسلمين على فتح البلاد. وأرى أن دافعهم الأساسي – في البداية – كان تبليغ الرسالة . إذا كان الهدف هو نشر الرسالة ، فلماذا لم ينجح المسلمون في ترسيخ الإسلام طيلة تسعة قرون ؟ نحن هنا بصدد الإجابة على تساؤل هام وهو: لماذا انتهى الإسلام سريعا من الأندلس بزوال سلطة المسلمين؟. وإجابته حق معقدة لأن طرد الأسبان للمسلمين من أرض الأندلس لم يتم مرة واحدة أو فجأة وإنما كان على مراحل زمنية كبيرة، فيما يطلق الأسبان عليه "حرب الاسترداد"، وكان طرفي الحرب هم المسلمون من ناحية ونصارى الشمال من ناحية أخرى، وهؤلاء النصارى كانوا في البداية قلة ويشغلون بقاعا بعيدة باردة وجبلية وعرة ولكنهم ظلوا يتوسعون شيئا فشيئا . وكان الصراع سجالا بين الفريقين فتارة ينتصر المسلمون وتارة ينهزمون، إلى أن دبت الصراعات بين الحكام المسلمين بعضهم البعض، وبالطبع كانت فرصة كبيرة لأعدائهم الذين كانوا يتوسعون من جهة كما كانوا يتحالفون مع بعض الحكام المسلمين الذين لجأوا لهم للدعم في صراعاتهم ضد خصومهم من المسلمين أيضا ! وفي كل مرة كانوا يستولون على جزء من الأندلس ويستقرون به وظلت هذه العملية نحو ثماني قرون . ولعل من أكثر مراحل تدهور الدولة الإسلامية تلك التي شهدها عصر ملوك الطوائف بعد زوال الخلافة الأموية وتفرق الاندلس بين 20 دولة صغيرة متصارعة. في هذه المرحلة خسر المسلمون مدينة طليطلة العريقة، وعلى الرغم من أن دولتي المرابطين ثم الموحدين اللتان جاءتا بعد ملوك الطوائف قد أعادت العديد من المدن إلا أن هذه المدينة كانت قد فقدت للأبد. ثم نتذكر أيضا معركة العقاب التي شهدت انتصارا ساحقا للأسبان على المسلمين من دولة الموحدين عام 1212 ميلاديا وبعدها حصل الأسبان على مدن كبرى مثل قرطبة وأشبيلية وغيرها خلال 30 سنة فقط . مملكة غرناطة مدينة غرناطة كانت مملكة محدودة لا تزيد مساحتها عن عشر مساحة أسبانيا، وكانت أبقى المدن في يد المسلمين إلى أن خرجوا من الأندلس عموما، إذ ظلت معهم نحو 262 سنة، ولكن لم يكن ذلك لأنها قوية وإنما لأن أعدائها من الأسبان كانوا منقسمين على أنفسهم إلى أربعة ممالك أسبانية متصارعة أيضا شغلتهم عن إجلاء المسلمين عنها . ومن أكبر الممالك الأسبانية حينها مملكة قشتالة وكانت تشهد حروبا أهلية للحصول على العرش. ولكن في أواخر القرن التاسع الهجري والخامس عشر الميلادي اتحدت مملكتي قشتالة وأراجون، حينما تزوجت ملكة قشتالة المتعصبة للمسيحية واسمها إيزابيل بملك أراجون فرناندو، وهنا صارت لدينا مملكة كبيرة وقوية، وبدأ الأسبان حرب الإبادة للمسلمين في غرناطة وللأسف فقد تم لهم ما أرادوا. وينبغي التركيز هنا على أن سقوط الأندلس وضياعها من المسلمين لم يكن لعيب في المسلمين بالتحديد، حيث فتح المسلمون أعماق آسيا وأواسطها ولا يزال الإسلام موجودا هناك وإن زالت سيادة المسلمين على بعض البلاد، مثل الإتحاد السوفيتي الذي سقط منذ القرن السادس عشر على يد الروس على مراحل، وإلى أن تم الإستيلاء على كل الأراضي الإسلامية أواسط آسيا في أواخر القرن التاسع عشر وخضعت مدن هذه الإمبراطورية الكبيرة التي كانت إسلامية فيما مضى لروسيا القيصرية حينها، ثم أصبحت جزءا من الاتحاد السوفيتي . ورغم محاولات التنصير في العهد القيصري ومحاربة الإسلام في العصر الشيوعي لكن الإسلام ظل موجودا ويتنامى أيضا، كما نجد أن هناك نحو 100 مليون مسلم في الصين وخاصة في منطقة كاشغر وشعب الأويهو هناك مسلم وهو ذو أصول تركية أو قومية الهوي هناك أيضا المسلمة وذلك رغم أنه بالصين شيوعية عتيدة . ولكن الأسباب الحقيقية كانت متعلقة بطبيعة الأندلس وحروب المسلمين مع الأسبان فيها، فقد عمد الأسبان في حربهم لمبدأ "حرب الإبادة" للمسلمين ، ففي معركة العقاب على سبيل المثال رفض الملك اتخاذ أسرى من الجيش الإسلامي وأمر بقتلهم ذبحاً جميعا، لدرجة أن جيش الموحدين كان تعداده مائتي ألف وكان ضعف الجيش الأسباني ولكن لظروف المعركة انتصر الخصم الأسباني وأباد ألفونسو الثامن معظم جيش المسلمين وكان هناك بعض الرحالة حينما يزورون بعض القرى في الأندلس لا يجدون فيها شبابا لأنهم هلكوا في الحرب . الحروب الصليبية نضيف لنظرية الإبادة، فكرة غلبة النزعة الصليبية على العالم حيث كان الصليبيون يمرون في حملاتهم على بلاد الأندلس قبل أن يصلوا لبلاد الشام ويحفزون الأسبان على إبادة المسلمين، ومع العلم بأن الصليبيين كانوا أكثر قسوة من الأسبان في حروبهم . ونضيف لما سبق مأساة المورسيكيين أي المسلمين الذين ظلوا في أسبانيا بعد سقوط غرناطة آخر معاقل الدولة الإسلامية هناك ، وقد أجبرت محاكم التفتيش جميع المسلمين على التنصير أو النفي من البلاد أو الذبح، وقد نفي جميع المسلمين بالفعل نهايات القرن السابع عشر وبخاصة لشمال المغرب . وهذه المحاكم لم نشاهدها في بلاد أخرى خرج منها المسلمون، مثلا حينما تمكنت روسيا من الإستيلاء على البلاد الإسلامية أواسط آسيا كان هناك تعصب فعلا ضد المسلمين ولكن لم يكن يقارن بأسبانيا مطلقا ولذا رأينا الإسلام في آسيا منتشر إلى اليوم رغم زوال دولته . ولكن في المقابل يرى باحثون أن الإضطهاد جاء قبل سقوط الدولة ، فما الذي فعله المسلمون لنشر الرسالة طيلة ثمانية قرون ؟ لابد أن نعلم أن المساحة التي سادها الإسلام كانت معظم شبه الجزيرة الايبيرية في البداية، ولكنها ظلت تتآكل بالتدريج على مدى 800 سنة، ولذا فنحن لا نتحدث عن مساحة كبيرة شغلها المسلمون طيلة القرون هذه. طرد المسلمون من غرناطة في نهاية الأمر وهي عبارة عن مجرد شريط ضيق في الجنوب لا تزيد مساحته عن عشر مساحة شبه الجزيرة. خصوصية البشر والأرض لماذا زالت دولة الإسلام من الأندلس تحديدا برأيك إذن ؟ نشرت كتابا من فترة طويلة أسميته "الخصوصية الأندلسية وأصولها الجغرافية" وفيه تحدثت عن طبيعة هذه البلاد، فهي شبه جزيرة في أقصى العالم الإسلامي ولم تكن هناك دولة مسلمة جارة لها غير المغرب ويفرقها عن الأندلس البحر المتوسط، وكانت تعد بعيدة ونائية عن العالم الإسلامي في ذلك العصر . وفي اوقات الخطر لم تكن المغرب دائما تهب لنجدة الأندلس من الأسبان كان ذلك يحدث مرات، ومرات أخرى لا، حتى أنه قبل السقوط مباشرة استنجد الحكام المسلمون بالسلطان العثماني ولكنه لم يقدم شيئا ملموسا سوى بعض التمنيات الطيبة كما نقول، وذلك على الرغم من أن الدولة العثمانية كانت أكبر قوة في العالم حينذاك، وربما يكون المبرر المعقول هو أن المسافة على الجيش الإسلامي للوصول للأندلس في ذلك العصر كانت حق شاسعة، فلم تكن وسائل المواصلات متاحة اللهم إلا بعض الوسائل البدائية . كما لا نغفل نقطة أن الأندلسيين المسلمون كانت لديهم حضارة راقية ،وهذا جعلهم يشعرون بنوع من التفوق على بقية الأجناس العربية الأخرى، فكانت الأندلس تلجأ أحيانا لطلب النجدة من المغربيين ولكن الأندلسي كان ينظر للمغربي في بلده على أنه أقل حضاريا وثقافيا . نقطة ثالثة أن العرب أو البربر المسلمون في الأندلس تزوجوا من نساء أسبانيا الأندلسيات فصارت دماء معظم الأبناء أندلسية، فالأم وعائلتها تكون أسبانية، وبعض المسلمين الأندلسيين كانت دمائهم أسبانية خالصة إلا في الجدود القدامى من الفاتحين للبلاد من العرب، ومن هنا وبسبب هذا الدم الأيبيري نشأ نوع من الحنين بين بعض الأندلسيين ونصارى الشمال الأسبان وكانوا يفضلون التعامل معهم على البربر من مسلمي المغرب، بل وكثيرا ما تواطأ حكام مسلمين بسبب ذلك مع أسبان للتقوي على بعضهم . لماذا انتقلت قبائل عربية وبربرية للأندلس بعد الفتح ؟ هذا كان أمرا معتادا بعد أي فتح عربي كانت تتبعه هجرة واستقرار، فحينما فتح العرب بلاد فارس إيران وشرقها وهي أفغانستان حاليا انتقلت معهم العديد من القبائل العربية، ومازالوا موجودين إلى الآن بل ويتحدثون العربية، وقد هاجرت القبائل العربية لخراسان وهي مقسمة حاليا بين إيرانوأفغانستان وأوزباكستان . ويوجد سبب آخر وهو أن الإنتقال بين دول العالم الإسلامي لم يكن معقدا مثل الآن ، فكان يكفي أن تكون مسلما لتتحرك بحرية فيما كان يسمى "دار الإسلام" وهي كل الدول التي يحكمها مسلمون ودون أية عوائق، ومن هنا هاجرت العديد من القبائل بحرية تامة للشمال . احتفال للمنتصرين هل ترك المسلمون حضارة في الأندلس ؟ بالطبع نعم . ووصلت الحضارة الإسلامية في الاندلس لمستوى متقدم، فتجدين على سبيل المثال عمائر إسلامية رائعة وخالدة إلى الآن منها قصر الحمراء، وعندما زرت قرطبة ورأيت الجامع الأموي أدركت المستوى الذي وصلت له العمارة حينها، وفي أشبيلية بنى الموحدين جامع يعد تحفة بحق ولكنه تحول لكنيسة . وإلى الآن فإن نظام الري الذي تقوم عليه أسبانيا من اختراع المسلمين الأندلسيين، لأن أسبانيا بها عدد كبير من الأنهار ولكنها يصعب إيصال مائها للأراضي لطبيعة البلاد وعلى المستوى الأدبي لا نزال نجد العديد من الألفاظ العربية المحرفة في اللغة الأسبانية، أما في مجال الشعر مثلا فنجد أن العرب أدخلوا شعر الغزل للشعر الأوروبي وهو فن عربي صرف، ويحيلنا لمسألة فكرية إذ أن الرجل الأوروبي منذ العصر الروماني كان ينظر للمرأة على أنها اداة فقط للمتعة ومخلوق أدنى منه وأنها مستنقع الخطيئة أيضا وبالتالي كانت أشعارهم العاطفية جنسية ولم تكن تعني تبادل العاطفة مع المرأة وهذا ما تعلموه من نظرة الأندلسيين لنسائهم . تحتفي أسبانيا هذا العام بذكرى خروج المسلمين من الأندلس، بدعوى أن ذلك لفتح صفحة جديدة وللحوار الحضاري، هل ترى أن علينا المشاركة في هذه الإحتفالات؟ لا المنتصرون هم من يحتفل وليس المنهزمون. فهل نحتفل اليوم مثلا مع إسرائيل بنكسة العرب في حرب 1948 ! ومع العلم فأنا من مؤيدي ثقافة الحوار مع الآخر، ولا أمانع في فتح صفحة جديدة بين العرب والأسبان ، في علم السياسة يقولون لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة دائمة ولكن مصالح دائمة.(؟!)
اقرأ فى هذا الملف * أوراق مجهولة لأحد مؤسسي الإخوان .. يكشفها نجله المؤرخ عُبادة كُحيلة * المؤرخ عبادة كحيلة : حالنا أشبه بملوك الطوائف .. ومشروع ناصر لم يرثه أحد * رائد التاريخ الأندلسي يترجل في صمت جليل .. ومؤرخون يكشفون محطات من حياته ل"محيط" ** بداية الملف