هل من المعقول أن تمتلك مصر مثل هذا الجامع البديع ولا يعرفه المصريون ؟ هل معقول أن هذا الكنز يظل مخفيا عن عيون عشاق الفن والإبداع ؟ هل معقول أن أيدي الترميم لم تمتد إلى جامع الطنبغا المارداني منذ عام 1896 في زمن الخديوي عباس حملي الثاني ، ومنذ هذا التاريخ والإهمال يسرق زخارفه ونقوشه واللصوص يسرقون منبره؟ يقع الطنبغا المارداني في شارع درب التبانة بحي الدرب الأحمر ، تاريخ بناءه يعود إلى عام 1340 ميلاديا / 740 هجريا ، في زمن أقوي سلاطين الدولة المملوكية الملك الناصر محمد بن قلاوون. وكان المارداني هو ساقي السلطان وصفيه المقرب. المارداني تحفة معمارية فريدة ، له واجهة من أجمل واجهات جوامع القاهرة ، يطلق عليها في العمارة الإسلامية "الواجهة التذكارية" ، لا تتصل بالطريق مباشرة ، وإنما تبرز عن الحائط بمترين ونصف المتر ، وعلى جانبيها دكتين من الحجر ، وكأن على الداخل أن يسير هنيهة بين عمارة الجامع قبل أن يغشاه ، مرحلة من العبور بين ضوضاء الشارع وأصواته الدنيوية إلى سكون صحن المارداني وهدوئه. واجهة المارداني البارزة لا تتكرر في جوامع قاهرة المعز إلا في جامعي الحاكم بأمر الله الفاطمي في شارع المعز ، وجامع الظاهر بيبرس المملوكي. هذا هو المدخل البحري وهو الرئيسي ، لأن للجامع باب آخر قبلي يقابله مباشرة ، لكنه أصغر منه حجما وجمالا ، بالإضافة إلى باب غربي ، مغلق في الوقت الراهن. فور أن تخلع نعليك وتدخل بروحك إلى الطنبغا تجده على شاكلة مساجد مصر الإسلامية الكبرى ، صحن يتوسط أربعة أروقة ، وفي القلب مباشرة تقف ميضأة بديعة ، وإن كانت تعاني الإهمال وقلة العناية بها ، بعدما تجردت أخشابها من زخارفها ونقوشها. ويلفت النظر الأشجار الوارفة الظلال في الصحن ، وأصوات العصافير التي تضفي على المكان جمالا وخشوعا " وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ" ، أشجار لا تجدها إلا في القليل النادر من مساجد القاهرة ، تذكرك بالجوامع الأندلسية في الجناح الغربي من العالم الإسلامي الكبير ، حينما كان المسلمون يزرعون أشجار البرتقال في الأندلس ، يأكل منها الجائع والمحتاج ، وتهيئ المجال بألوانها وبهجتها وخفيف الرياح للروح الإنسانية كي تسمو وترتقي إلى عالم السماء. أرفع البصر إلى أعلي الجدران ، إلى الشرفات أو العرائس. في جامع أحمد بن طولون تطل الشرفات على السائر في الشارع وكأنها جنود مدججة بالسلاح أو ملائكة حراس شداد يحمون الجامع. هنا في الطنبغا تطل الشرفات على الواقف في الصحن ، تنظر إليه برقة وعذوبة ، ومن بعض الشرفات تنبت مئذنة صغيرة على هيئة المبخرة ، عنصر معماري لا تراه في مساجد القاهرة إلا هنا في الطنبغا المارداني. المارداني يستغيث جامع المارداني مربع الشكل ، عرضه 20 مترا وطوله 22.5 مترا ، تتوسطه الميضأة. ويتميز عن باقي مساجد القاهرة أيضا بذلك السياج الخشبي ، الصرح الجمالي ، الفاصل بين الصحن وراق القبلة ، وكأن على المصلي أن يعبر من عالم إلى عالم نوراني إلى عالم روحاني ، يترك الدنيا بزحامها وضوضائها ويلج إلى الجامع ، فتستقبله الخضرة والأشجار الوارفة وغناء الطيور ، وهذه هي المرحلة الأولي ، ثم عليه أن يتطهر ويغتسل مما تعلق به من ذنوب الدنيا ودنسها في مياه الميضأة ، ليستعد للدخول إلى العالم الروحاني في رواق القبلة. السياج الخشبي البديع ، المرشح الروحاني لصخب الدنيا ، الحاجب لأصوات الصحن ، الناقل لعالم رب السماوات ، لا تجد له مثيلا إلا في جامع الأزهر الشريف. وهنا ترك الفنان المسلم للسياج أن يحيط برواق القبلة كله ، وفتح فيه أبواب يمكن من خلالها المرور إلى الإيوان. هنا إيوان القبلة ، أكبر الأروقة ، وأكثرها غني بالزخارف ، كًسيت جدرانه إلى ارتفاع ثلاثة أمتار بفسيفساء رخامية وصدفية وبرسوم هندسية جميلة ، لكنها تعاني الآن الإهمال ، بعضها سقط بالفعل ، وأغلبها يوشك أن يتداعى. أهكذا نتعامل مع تراثنا ؟! مشاهد التدمير لم تقتصر على ركن واحد في رواق القبلة ، وإنما انتشرت فيه ، فلا تجد مترا من إبداعات الفنان المسلم إلا ويعاني في صمت. أما محراب المارداني ؛ فتقول عنه الدكتور سعاد ماهر أنه "من أروع الأمثلة الموجودة بالقاهرة ، فقد زُخرف بمجموعة كبيرة من زخارف الفسيفساء الرخامية والصدفية الدقيقة الجملية التنسيق والترتيب" ، هذا المحراب الفريد يضيع الآن وتتساقط زخارفه منذ فترة ولا مغيث. ويجاور المحراب منبر خشبي مكون من حشوات مجمعة على شكل أطباق نجمية مطعمة بالعاج والصدف ، جعلته مطمعا للصوص منذ زمن طويل ، فقد حدث أن ُسرق نحو أربعين حشوة ونقلت إلى أوروبا ، ثم اشترتها لجنة حفظ الآثار العربية ، وأعادتها إلى منبرها الأصلي ، حدث ذلك عام 1902. ثم تكررت محاولة السرقة مرات ومرات حتى عرت المنبر من حشواته وتكرته مفرغا من الجمال الذي كان عليه. من هو المارداني؟ يقول عنه المؤرخ المملوكي تقي الدين المقريزي أنه الطنبغا المارداني الساقي ، أي ساقي السلطان ، وهي وظيفة مرموقة في البلاط السلطاني المملوكي لا ينالها إلا من حظي على ثقة السلطان في عصر كثرت فيه المؤامرات والدسائس والانقلابات العسكرية ، في زمن اعتمد على قوة السلاح وكثرة الأنصار للاستيلاء على عرش قلعة الجبل ، ويكفي أن نعرف أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون خُلع من الحكم مرتين ، قبل أن يعود في المرة الثالثة ويقبض بيد حديدية على مقاليد الأمور ويحكم مصر والشام أكثر من ثلاثين عاما. وبلغ المارداني مكانة كبيرة لدي السلطان الناصر محمد بن قلاوون حتى زوجه ابنته ، ويقص علينا المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" في حوادث عام 738 هجريا أن السلطان رغب في بناء حوش تأوي إليه الأغنام والأبقار بالقلعة ، فوقع اختياره على مكان كانت قد قُطعت منه الحجارة لعمارة قاعات القلعة فأصبح غائرا ، وأقام الناصر أمير مملوكي غاشم ليتولى الأشراف على عملية البناء ، فاشتد الأمير آقبغا عبد الواحد على الأمراء الآخرين ورسم لوالي القاهرة بتسخير العامة ، فكان المماليك يقبضون على عامة الناس من الطرقات ويسخرونهم في البناء.. يقول المقريزي " وكان أحدهم إذا عجز وألقي بنفسه إلى الأرض ، رمي أصحابه عليه التراب فمات لوقته. هذا والسلطان يحضر كل يوم حتى يري العمل"!. وقتئذ كان الأمير الطنبغا المارداني مريضا ، فلما برأ ، وطلع إلى القلعة استغاث به الناس ، وسألوه أن يخلصهم من هذا العمل ، فتوسط لهم عند السلطان ، حتى عفي السلطان الناس من السخرة ، وأفرج عمن قبض عليه منهم. وفي ذات العام 738 هجريا أنشأ السلطان الناصر قصرا للأمير الطنبغا قريبا من ميدان الرميلة تحت القلعة ليكون محل سكنه قريبا من مولاه . وفي ذات العام أيضا شرع الطنبغا في بناء جامعه ، وكان مكانه أولا مقابر لأهل القاهرة الفاطمية ، فلما بني الوزير الفاطمي طلائع بن رزيك مسجده خارج باب زويلة عام 555 هجريا بدأ العمران يزحف إلى تلك البقاع. وتولي شراء الدور من أصحابها شرف الدين ابن عبدالوهاب النشو ، وهو موظف مملوكي غاشم عمل في خدمة السلطان الناصر محمد حتى كسب ثقته المطلقة ، فكان نهابا لأموال الناس ، طامعا لما في أيديهم ، ففشا ظلمه ، واستغل دهائه في جمع المال. أخذ النشو الأماكن من أصحابها فلم ينصفهم في الثمن ، وهو أمر يشير إلى التناقض بين رغبة المماليك في بناء بيوت للعبادة يتقربون بها إلى الله وبين الطريقة التي يسلكونها في سبيل بناء تلك الدور ، حتى لقد انتشرت سرقة الحجارة والأعمدة من المساجد الصغيرة والكبيرة على السواء ، واستعمال الناس في السخرة! وفي يوم الجمعة ، الرابع والعشرون من شهر رمضان سنة سبعمائة وأربعين هجريا خطب الشيخ ركن الدين عمر بن إبراهيم الجعبرى أول خطبة جمعة في جامع المارداني. الغريب أن المقريزي يقول إن الإمام الخطيب " لم يتناول معلوما" أي لم يحصل على أجر مقابل عمله. واستمر نجم المارداني يعلو في سماء الحياة المملوكية في حياة السلطان الناصر محمد وكذلك في عهد أولاده ، حتى مات فجأة في حلب مستهل صفر سنة أربع وأربعين وسبعمائة ، أثر صراعات ونزاعات بين أمراء المماليك الكبار ، للحكم والسيطرة على العرش ، بعدما صار أولاد أستاذهم الناصر محمد مجرد واجهة للحكم.