"اللهم لا تجمع بيننا وبين الظالمين، واجمع بيننا وبين من هم للحق محبون، والسلام على من ناصرنا وما خذلناهم ولن نخذلهم ولكننا نطلب بذلك قرار الحفاظ عليهم وعلى سمعتهم من التشويه والانطراف في الدنيا ولاسيما مع وجود من يتلاعب بكم ويستغل ذلك للوصول إلى مآربه الدنيوية البغيضة".. بهذا الدعاء كانت نهاية الحياة السياسية لزعيم التيار الصدري العراقي مقتدى الصدر. وعلى الرغم من أنه لم يعط تبريرا وتوضيحاً لقراره هذا ، إلا أن الأوضاع العراقية والقرارات الأخيرة خير دليل على أسباب اتخاذ مثل هذا القرار، الذي سيؤدي إلى فراغ سياسي مفاجئ في العراق، بل واعتبره الكثيرون بمثابة زلزال يهز البلاد ، بينما رأى آخرون أن قرار الصدر يُعد هدية لخصومه، خاصة وأنه جاء قبل أسابيع من إجراء الانتخابات البرلمانية. وجاء قرار الصدر بإبعاد ممثليه في البرلمان والحكومة عنه في خضم موجة غضب شعبي عارم جراء إقرار البرلمان امتيازات لاعضائه لدى تقاعدهم، علما بأن وسائل إعلام عراقية أبرزت مؤخرا أسماء ممثلين عن تيار الصدر صوتوا لصالح القانون. ولما لهذا القرار من صدى واسع على الحياة السياسية بالعراق كانت لشبكة الإعلام العربية "محيط" وقفة أمام ردود الفعل والأسباب والدوافع التي أدت بالصدر لاتخاذ مثل هذا القرار المفاجئ.. الصدر يعتزل وفي بداية تقريرنا نتوقف قليلا أمام بيان زعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر الذي اعلن فيه انسحابه من الحياة السياسية، والذي تجلى في طياته أن أسباب الاعتزال تراوحت بين دينية وسياسية وعائلية، حيث قال الصدر في البيان مبرراً قراره: "من المنطلق الشرعي وحفاظا على سمعة آل الصدر ومن منطلق إنهاء كل المفاسد التي وقعت أو التي من المحتمل أن تقع تحت عنوانها وعنوان مكتب السيد الشهيد في داخل العراق وخارجه ومن باب إنهاء معاناة الشعب كافة والخروج من افكاك السياسة والسياسيين أُعلن إغلاق جميع المكاتب وملحقاتها وعلى كافة الأصعدة الدينية والاجتماعية والسياسية وغيرها". وأكد الصدر عدم تدخله بالأمور السياسية كافة، مؤكداً أن لا كتلة تمثله بعد الآن ولا أي منصب في داخل الحكومة وخارجها ولا البرلمان ومن يتكلم خلاف ذلك فقد يعرض نفسه للمساءلة الشرعية والقانونية، واستثنى الصدر عددا من المؤسسات الدينية والخيرية من قراره. ويسدل هذا القرار في حال كان نهائيا، الستار على مسيرة بدأت بمعارك ضارية مع القوات الامريكية التى اجتاحت العراق عام 2003، وانتهت بنزاع عسكرى سياسى مع رئيس الوزراء الشيعى نورى المالكى الذى يحكم البلاد منذ العام 2006. نعتزل ولكن ولكن على الرغم من قرار الاعتزال الذي أكد عدم التراجع عنه إلا أن الصدر قرر أنه سيشارك في الانتخابات وسيصوت للشرفاء، واصفا من يتخلف عن الانتخابات بالخائن، معرباً عن فخره بهذا القرار. داعيا المواطنين إلى المشاركة فيها ، وأعد التخلف عنها خيانة للوطن، وقال إن الاشتراك في الانتخابات البرلمانية المقبلة ضرورة وواجب ويجب الاشتراك بها من أجل أن لا تقع الحكومة بيد غير أمينة ، مشيرا الى أنه سيقف مع الجميع على مسافة واحدة. وجاء قرار الصدر غير المتوقع قبل شهرين من الانتخابات البرلمانية الوطنية، وبعد حصول حزبه على 40 مقعدا، من أصل 325 مقعدا في البرلمان الماضي، وبعد التصويت على المشروع المثير للجدل لمنح مرتب شهري للنواب العراقيين مبلغ قدره 8000 دولار في الشهر ومعاشات تقاعدية عالية، الأمر الذي أصبح رمزا للفساد في النخبة السياسية التي فشلت بشكل واضح في حل مشكلات العراق منذ سقوط صدام حسين. ذئاب متعطشة وفي مهاجمة قوية لحكومة نوري المالكي، ورفض صدري لما آلت إليه الأوضاع العراقية من انهيار، شن مقتدى هجوما لاذعا على الحكومة، متهمها بتكميم الأفواه واعتقال المعارضين . وأكد زعيم التيار الصدري في لقاء متلفز عقب قرار الاعتزال قائلا: "إن العراق تحكمه ذئاب متعطشة للسلطة والمال مدعومون من الشرق والغرب وجاءوا من خلف الحدود وتسمع كلام أسيادها وتستخدم القضاء المسيس ضد الشركاء". وقال الصدر: "إن حكومة المالكي استأثرت لنفسها بكل شئ ، ولا تسمع لأي شريك ..فمن يعارض الحكومة من شيعي او سني او كردي يتهم بالارهاب". واستطرد: "لا حياة في ظل حكومة دكتاتورية وآل الصدر لايريدون منصبا أو كرسيا بل إلى تقديم نصيحة أغفلتها الحكومة، فالعراق تحول إلى لقمة سائغة، فهو بلا زراعة ولا صناعة ولا خدمات وحكومة تسلطت علينا بلا ذمّة". وأضاف الصدر، أن البرلمانين في كراسيهم البالية لا يستطيعون دفع الضر عن أنفسهم فما بالهم بدفع الضر عن الاخرين، موضحا أن النواب يستطيعون أن يجمعوا الاصوات تحت قبة البرلمان في حالة واحدة اذا كانت فيها امتيازات او نفعا شخصيا واذا وصل الامر لنفع شعبي عام تخاذل الجميع. وأعرب الصدر عن استيائه من تلك القوانين التي تنتهك الأعراض والدماء، حسب وصفه ، داعيا إلى سقوط الذين يدعون لقطع الرقاب وتفخيخ الأبرياء واغتيالهم. وقد عكس القرار قناعة الصدر بفقدان العملية السياسية مصداقيتها وأهليتها، بعد أن أسهمت في تعميق الانقسام بل والاحتراب الطائفي، ما جعل كثيرين يحذرون من ان البلاد تنزلق بسرعة نحو حرب أهلية واسعة. أزمات متشابكة وفي أول رد على قرار الصدر، كان من شخصية سياسية بارزة على الساحة العراقية وهو رئيس الوزراء العراقي السابق أياد علاوي رئيس ائتلاف "الوطنية"، حيث وجه رسالة إلى الصدر، حضه فيها على مراجعة قراراه باعتزال العمل السياسي وإنهاء علاقته بكتلته البرلمانية. وقال علاوي، في بيان له: "إن العراق يمر بأزمات متشابكة تتعقد يوما بعد يوم، وهو ما يضاعف مسئولية الرموز والقوى الوطنية والإسلامية في التصدي لهذا الانحدار الخطير مهما غلت التضحيات"، معبرا عن "صدمته" بقرار الصدر اعتزال العمل السياسي "احتجاجا على الانحرافات الجسيمة التي سلكتها العملية السياسية". واعتبر علاوي أن الصدر "امتداد حي" لدور أسرته في "مجابهة الاحتلال ومنازلة الطائفية السياسية المقيتة"، محذرا من أن خروجه وتياره من العملية السياسية"، سيترك فراغاً كبيراً وخطيراً يعزز نهج الانحراف بها وتقويضها، مما سيؤدي إلى ان تترك شخصيات وقوى أخرى هذه العملية البائسة التي أخلت بالتوازن وعصفت بالبلاد". متضامنون وتضامناً مع قرار الصدر، أعلن سبعة من نواب كتلة الأحرار التابعة للتيار الصدري، عن انسحابهم من العملية السياسية، بعد ساعات من إعلان زعيم التيار الصدري عن انسحابه من العمل السياسي وإغلاق جميع مكاتبه. وقال النواب السبعة في مؤتمر صحفي عقد بمبنى مجلس النواب: إننا نعلن انسحابنا من العمل السياسى الذى يشمل الاستقالة من مجلس النواب وعدم حضور جلساته وسحب الترشيح للانتخابات البرلمانية المقبلة . وأرجع النواب السبعة سبب انسحابهم إلى تضامنهم مع قرار انسحاب زعيم التيار الصدرى واعتزاله العمل السياسى . هدية للخصوم وفي رؤية تحليلية لهذا القرار، أكد محللون أن خروج مقتدى الصدر المفاجئ من العملية السياسية في العراق بعد مسيرة حافلة بالنزاعات العسكرية وغير العسكرية، يمثل هدية لخصومه قبل أسابيع من الانتخابات البرلمانية. وأضاف المحللون أن انسحاب الصدر الذي انتقل تياره في فترة قياسية من خانة التطرف إلى خانة الاعتدال، يشكل أيضا خسارة لعنصر أساسي في دائرة التوازن داخل الطائفة الشيعية، وعلى المستوى الوطني العام، بعدما لعب دورا مركزيا في تخفيف الاحتقانات الطائفية. الخليج يتساءل ولما لهذا القرار من صدى واسع كانت لدول الخليج تساؤلاتها، فمن جانبها، أفادت مصادر دبلوماسية في الكويت أن مسئولين رفيعي المستوى في دول مجلس التعاون الخليجي أجروا اتصالات عاجلة فيما بينهم لتبادل المعلومات المتوافرة لديهم عن التطورات السياسية في العراق بعد قرار مقتدى الصدر بالاعتزال. وقالت المصادر: "إن ما يشغل دول الخليج هو احتمال حصول فراغ سياسي مفاجئ وفي توقيت غير متوقع داخل العراق لا سيما أن حسابات الخليجيين كانت منصبة على إمكانية حصول نتائج جديدة في الانتخابات العراقية المقبلة نهاية إبريل/ نيسان المقبل". وأكدت المصادر أن بعض الدول الخليجية اقترحت إجراء اتصالات مباشرة أو عن طريق طرف ثالث مع التيار الصدري لاستجلاء موقف الانسحاب المعلن من العملية السياسية. وقال المصدر الدبلوماسي الخليجي: "إن اتصالات من قيادات في مجلس التعاون الخليجي تمت مع أطراف أمريكية لبحث تطورات العراق لا سيما بعد غموض الموقف الأمريكي جراء عدم التعليق على ما حدث في بغداد". تصعيد حاد ومن جانبها، قالت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية: "إن الإعلان المفاجئ من قبل الزعيم الشيعي الديني، بالانسحاب من الحياة السياسية، يعد تصعيدا حادا للاضطرابات السياسية التي تعيشها العراق". وتضيف الصحيفة أنه من غير الواضح أن انسحاب الصدر هل سيكون مؤقت أو دائم على الرغم تأكيد مسئول التيار الصدري أنه كان من الخطأ استخدام كلمة "التقاعد" لوصف رحيل الصدر عن السياسة. وأضاف المتحدث "أن خيبة أمل الصدر من السياسة العراقية تتجاوز قضايا الفساد والأجور البرلمانية المفرطة وأنه يشعر بخيبة أمل أن الكثير من الناس متعاطفة مع السياسات الطائفية". وتشير الصحيفة أن رئيس الوزراء، نوري المالكي اتهم بانه يلعب بورقة الطائفية في الانتخابات المقبلة من خلال تقديم نفسه على أنه زعيم الطائفة الشيعية في وجه هجوم من قبل الأقلية السنية. وتواجه العراق أزمة سياسية تزداد عمقا تحت اسم التمرد في المناطق السنية في البلاد، مع الجماعات الجهادية ضد الشيعة، بما في ذلك دولة العراق الإسلامية وبلاد الشام "داعش" التي استولت على الفلوجة قبل خمسة أسابيع. كما سيطرت "داعش" على بلدة سليمان بك، التي تقع على بعد 100 ميلا شمال بغداد، وأن موقف الصدر يناقض سمعته في الولاياتالمتحدة وبريطانيا بعد الغزو عام 2003 بعد أن عارض احتلال العراق والمحاربة في معركتين ضد القوات الأمريكية في النجف عام 2004 والاستيلاء على البصرة ضد القوات البريطانية. في عام 2011 وكانت مواقف الصدر المناهضة للاحتلال حاسمة في اجبار المالكي للضغط على القوات الولاياتالمتحدة لمغادرة العراق. وتضيف الصحيفة، أن الصدر ينبع نفوذه من شعبيته السياسية والقومية، إلى جانت هيبة عائلته في العراق، الذي اشتهد كثير منهم أثناء مقاومتهم صدام حسين. وفي محاولة للصحيفة لتبرير قرار الصدر، أشارت الصحيفة، إلى حديث الصدر مع "الإندنبدنت،" في نوفمبر الماضي، عندما أعرب عن تشاؤمه من التطورات الجارية في العراق قائلا: "في المستقبل القريب العراق ستصبح مظلمة". الصدر والمالكي وجاء هذا الهجوم الصدري اللاذع على المالكي، بعد أن ساعده في الحصول على فترة ولاية ثانية للحكومة في عام 2010. فبالعودة إلى تاريخ الصدر، نجد أن مقتدى الصدر وميليشيات "جيش المهدي" الذي كان يأتمر بأمره يتمتع بنفوذ كبير في العراق عقب الغزو والاحتلال الأمريكي للبلاد عام 2003، ولكن هذا النفوذ اخذ بالتضاؤل في السنوات الاخيرة، وتميزت مواقفه بمعارضة الوجود العسكري الأمريكي في العراق. وكان جيش المهدي قد خاض معارك ضد القوات الامريكية في النجف والكوت وغيرها من المدن العراقية. كما اتهم جيش المهدي باختطاف وتعذيب وقتل الآلاف من السنة أثناء الحرب الطائفية التي شهدها العراق والتي بلغت ذروتها في عامي 2006 و2007، وفر الصدر إلى إيران بعد صدور مذكرة القاء قبض بحقه في عام 2006. وكان الصدر قد أمر بحل جيش المهدي في اغسطس / آب 2008، بعد ان قاد رئيس الوزراء نوري المالكي حملة عسكرية ضد الميليشيا اختتمت في البصرة في مارس / آذار. ولكن الصدر تصالح مع المالكي فيما بعد، وكان له الفضل في حصول المالكي على فترة ولاية ثانية في عام 2010. وشارك التيار الصدري في حكومة المالكي، وحصل على حقائب وزارية عدة عقب انتخابات 2010. وبعد خروج مظاهرات في محافظة الانبار غربي العراق ضد حكومة نوري المالكي في العام الماضي، دعا الصدر إلى تأييد الاحتجاجات ضد المالكي مادامت سلمية. «حجة الإسلام والمسلمين» وفي إطلالة قصيرة عن مقتدى الصدر وتاريخه نتوقف قليلاً، خاصة وأنه صب تركيزه في الأشهر الأخيرة على متابعة تعليمه الديني في النجف وإيران، قبل أكثر من شهرين على الانتخابات البرلمانية المقبلة المقرر تنظيمها في نهاية شهر إبريل / نيسان المقبل. ويملك الصدر الذي أطلق عليه لقب حجة الإسلام والمسلمين مكاتب سياسية في معظم أنحاء البلاد، ويتمثل تياره في البرلمان ب40 نائبا من بين 325، وفي الحكومة بستة وزراء. ويتمتع الصدر المولود مطلع السبعينات، بشعبية هائلة في أوساط فقراء مدينة الصدر ذات الكثافة السكانية العالية في بغداد، وقد ورث هذه الشعبية عن والده المرجع محمد محمد صادق الصدر الذي قتله النظام السابق في 1999 مع اثنين من ابنائه. وبرز اسم مقتدى الصدر في العام 2003 بعدما أسس وحدات مسلحة تضم عشرات الالاف من الشبان تحت اسم جيش المهدي، سرعان ما خاضت تمردا ضد القوات الأمريكية في النجف في آب / أغسطس 2004، قتل فيه ما لا يقل عن ألف من أنصار الصدر. ويدعو الصدر منذ عودته إلى العراق قبل ثلاث سنوات إلى الابتعاد عن الطائفية، والى نبذ الخلافات، وغالبا ما ينتقد العملية السياسية والسياسيين، وحتى المسؤولين المرتبطين بتياره، متهما اياهم بالفساد وبالابتعاد عن الاهتمام بمشاكل الناس. أسئلة مطروحة وأخيراً نختم تقريراً بعدد من الأسئلة التي طرحتها جريدة "القدس العربي" اللندنية، وغيرها من المهتمين بالشأن العراقي، حيث رأت الصحيفة أن اعتزال الصدر يثير أسئلة مهمة بشأن ما إذا كان حان الوقت لإعادة تقييم نتائج هيمنة المؤسسة الدينية على الساحة السياسية ونظام الحكم في العراق؟. وبكلام آخر هل مازال مقبولا أن تواصل المراجع الشيعية، من مقاماتها العلمية والدينية الرفيعة وطبيعتها الايديولوجية المحصنة، الانغماس في المستنقع السياسي المثقل بطبيعته بالمكايدات والتناقضات والأخطاء والمؤامرات؟ وهل إشارة مقتدى إلى انه سيكتفي بالانكباب على العلم والدرس والإرشاد الروحي، رسالة ضمنية إلى باقي المراجع الشيعية، خاصة بعد أن انحدر التحزب الطائفي في البلاد إلى درك غير مسبوق؟ وهل التشيع السياسي بمعناه الايجابي المتمثل في الثورة على الظلم، اقتداء بالحسين بن علي رضي الله عنه، يقتضي ‘تسييسا' لمذهب ديني وعمامات سوداء يفترض أن تبقى بعيدة عن شبهة المساومة بين مصالح الوطن وضرورات فقه الطائفة؟. وهناك أسئلة عديدة أخرى .. ولكن جميع الإجابات ستتجلى أمام الجميع في الفترة القادمة عملياً في الحياة السياسية، وهذا ما ستتابعه الشبكة عن كثب في الفترة المقبلة.