لا يفوّت، سالم باجنيد، طالب البكالوريوس المبتعث إلى بريطانيا، لحظة فراغ واحدة دون أن يستغلها بالانخراط في نشاط ثقافي خلاّق من الضرب الذي تقدمه مؤسسة ثقافية رفيعة متعددة التلاوين، كمعهد الفن المعاصر - Institute of Contemporary Art. خلال فترة وجيزة، هي بالكاد تاريخ انضمامه للمعهد الذي يُعرف بأنه "بيت الفن والثقافة والأفكار الخلاقة"، تسنّى لسالم، التفاعل مع نشاطاته بشكل حيوي فعّال. فمن معرض فني معاصر، إلى عروض سينمائية، وأخرى مسرحيّة، إلى المحاضرات الحيّة مع أبرز صنّاع الفكر في العالم، لا يتردد (سالم) في خياره، ويصدق في انجذابه. أبرز ما جذبه، على سبيل المثال، حضوره لعرض الفيلم الأيرلندي المُستقل (Hunger)، الذي يستحضر مأساة المجاعة التي ضربت أيرلندا مطلع الثمانينات الميلادية.. وانخراطه في جلسة (سؤال وجواب) أعقبت العرض، لم تكلفه سوى دفع مبلغ رمزي زهيد لقاء استمتاعه بالحضور في أجواء أريحية أثيرة وسط ديموجرافيا هائلة الثراء لا تفرقها التقسيمات أو الحواجز الباطلة. كما لا ينسى انضمامه إلى محاضرة رضا أصلان، الباحث الأمريكي من أصل إيراني، الذي تحدث عن كتابه الأخير (كيف تربح حرب كونية؟ - How to win a cosmic war)، كوّن خلالها علاقة حميمية مع الكاتب، وتواعدا إثرها للقاء في جدة في القريب العاجل. يعتبر (سالم) التجربة برمّتها ثرّة ومثيرة. فما إن تدلف المركز ذي البناء الفكتوري الكلاسيكي، المُطلّ على ساحة ميدان ترافلجار بعاصمة الضباب، حتى تخلب لبّك سحر الأعمال المعروضة، وباقي الأجواء والترتيبات الحيّة البهيجة، من (بهو) صاخب ودائم الحركة، يجتمع على أنغام موزِّعة موسيقية (DJ) تقدم وصلات حيّة ترطب الأجواء وتزيدها بهجة وإثارة. يدفع (سالم) خمساً وعشرين جنيها إسترلينياً في العام، لقاء الحصول على عضوية المركز، التي تخوله العديد من المميزات من تخفيضات وخدمات وأولويات حجوزات. فلا يشترط عليه أحد أن يكون صاحب إنتاج مطبوع، أو مذاع، أو متلفز، ولا يسأل أحد إن كان مشهوداً له بحسن السيرة والسلوك، أو إن كان قد تخطى سناً معينة. والICA مركز أهلي، أسسه مجموعة من الفنانين والكتّاب والرسامين والشعراء، في عام 1947م ليضطلع بدوره في رفد المشهد الثقافي الحديث، وحفزه. ومنذ تأسيسه، لعب المركز دوراً محورياً، في دعم الثقافة الحديثة في بريطانيا طيلة ستين عاماً. قدم خلالها إلى الساحة عددا هائلاً من الفنانين، والكتّاب، والممثلين، وباقي أنماط المثقفين، بريطانيين كانوا، أم أجانب. ويحفل معهد الICA، بصالتي جاليري، وصالتي عروض سينمائية، ومسرح، ومتجر لبيع الكتب وباقي وسائط المعرفة والميموربيليا، وخدمة تصفح أبرز المجلات والدوريات الثقافية العالمية، ناهيك عن المنتجات الاستهلاكية كالقمصان والكماليات التي يصممها فنانون يسعون في تصاميمهم إلى إحداث تأثير اجتماعي. كما يضم المركز مقهى خلاّباً، وصالة للاستخدامات المُتخصصة. وتشمل البرامج التي يقدمها المركز، نشاطات في الفنون التشكيلية والجرافكس، الموسيقى، السينما، المحاضرات الفكرية، والندوات العلمية، ناهيك عن الدورات التعليمية. ويقوم المركز كمنتدى دائم للمشتغلين في صناعة الإبداع، ويخلق فرص تواصل جمّة للعاملين في حقول الثقافة المُختلفة. والواقع أن المتجوّل في موقع المعهد الإلكتروني، سيصاب بدهشة بالغة، وحيرة إزاء تعدد البرامج وتنافسها في الجودة والابتكار وقيمة الإبداع الذي تقدمه. فقط في الشهر المقبل، سيستضيف المركز فعاليات، تتنوع من مهرجانات واحتفالات موسمية وعروض مسرحية، وعروض أفلام، ومحاضرات لكتّاب بحجم آمراتيا سين، حائز نوبل في الاقتصاد. حقاً إنه حراك بهيّ، تنضب الينابيع إن جارتها، وينتهي الزمان ولا تنتهي. (يمكن أن تنظر هنا: http://www.ica.org.uk/?lid=46). هكذا تغدو أجندة المؤسسات الثقافية الفاعلة في العالم الأول كدفق رقراق.. تتوشى روافده نبعاً وزهراً وعذارى وحقولاً خضراء ينتشر بها الحب والبهجة والجمال، لتطبق على الآفاق، لا يقابلها في حالتنا إلا الموات والروافد القاحلة الرتيبة. خلال أمسية الدكتور البليهي في نادي جدة الأدبي قبل أشهر. حضر (سالم) برفقة أخيه الأصغر، إلى صالة الندوة، بشيء من الحماس والترقب، لقد كان يتحرّق شوقاً إلى أولى تجاربه الذاتية مع الفعاليات الثقافية المحلية. وفيما كانت الندوة، التي تأخرت أكثر من ساعة، على وشك الانطلاق. اقترب منهما رئيس النادي، ليطلب منه وأخيه، إخلاء مقعديهما الأماميين ليشغلهما بعض "شيوخ" مجلس الشورى المتأخرين بدورهما عن المحاضرة ما يزيد عن الساعة! في لندن.. لا يفوّت سالم، وهو الطالب الجامعي، أي زيارة للمركز دونما التبرع بكل رضا ومن تلقاء ذاته بمبلغ مالي يدعم به صندوق المعهد، دلالة على انجذابه لقيمة المركز ووظائفه. إن العلاقة الحميمية التي كوّنها مع المركز، والأثر الذي نفذ إلى قلبه وعقله بيسر وسهولة، يتجاوز منطق الحدود الواهمة أو الانتماءات الضيّقة. ماذا عن نادي جدة الأدبي؟ يشيح سالم برأسه، ويجفل عن الإجابة، في موقف يفيدك بأنه "لن يعتّب قُرب بوابته، مرة أخرى"! حقاً.. فرقٌ عظيم بين تحريك الصخور، وإثارة التراب. ** منشور بصحيفة "الوطن" السعودية 7 يوليو 2009