يعترف الروائي الأمريكي هنري ميلر في روايته الوشيجة أنه لم يقرأ كامل روايات ديستوفيسكي "فقد تركت بعضها لأتجرعها في اللحظات الأخيرة من حياتي". هل كانت روايات "الجريمة والعقاب" و"الأخوة كرامازوف" رائعة إلى حد أن يترك أحدهم بعضها ليتلذذ بها قبل موته. إذا أعدنا قراءة أدب ديستوفيسكي، وتولستوي، وهمنجواي، وحتى ماركيز وإيزابيل أليندي، وفوكنر، وفيتزجيرالد، لن نجد فيها أقمار الإباحية التي أشرقت علينا في الرواية العربية في سنواتها الأخيرة!. كل ما نجده فيها أدب رفيع مجلل بالتجربة الإنسانية الغنية في معارفها وحكمتها وشهادتها على عالمها، إذن ما الذي يحدث حتى يتحول الأدب في عالمنا العربي إلى وسيلة للعري اللغوي والصور الإباحية التي تخجل حتى سيمون دي بوفوار من ذكرها. الجواب على ذلك بسيط ومحرج في آن واحد، إنه ذو طابع سياسي، وإن بدا لنا أن مجاله هو الأدب والثقافة. فمنذ مطلع التسعينات، وإعلان جورج بوش الأب عن عالمه الجديد، متزامناً مع سطوع نجم المحافظين الجدد تم ابتسار التجربة الإنسانية بنهاية التاريخ، كما لو أن الليبرالية الجديدة هي آخر المطاف، وأنه ما من تجربة قبلها أثبتت صحتها، ولا تجربة بعدها يمكن أن تقوم. إن تعبير (نهاية التاريخ) هو في موضوعه تعبير إقصائي وشوفيني متغطرس، وبلا قيمة حقيقية، وعلى الرغم مما أثاره من ردود أفعال على المستوى العالمي، إلاّ أن العديد من المفكرين الجادين اعتبروه مجرد هرطقة ثقافية، من ليبرالي يكتب من وحي النظرية الشوفينية ذاتها التي يتبناها البوشيون، وهي أن العالم انتهى في كونه مجالاً للاختيار وللتجريب، وقد انتهى إلى ما هو ثابت ويقيني، وهذه ليست فقط ادعاءات ثقافية بل هي في جوهرها إدعاءات دينية مغلفة بما هو ثقافي، وهو يعني فيما يعنيه أن علينا أن ندخل طائعين تحت مظلة هذه النظرية، التي تعتبر الشذوذ سمة أصيلة في المجتمعات الإنسانية، والانحلال أحد أساليب ممارسة الحرية، والعري والجنس المكشوف من سمات المعاصرة وحرية الاختيار، وهذه القيم جميعها بدأت تظهر في الرواية الجديدة بوصفها كشفاً عما هو مسكوت عنه. إن تعبير (المسكوت عنه) يتخذ في الرواية الجيدة معنى انهزامياً لا أخلاقياً مضللاً، يهدف إلى تبرير العري والانحلال. ** منشور بصحيفة "الوطن" السعودية 18 مايو 2009