اعتماد 24 مدرسة من هيئة ضمان جودة التعليم والاعتماد بالوادي الجديد    جدول امتحانات المواد غير المضافة للمجموع للصف الثاني الثانوي ببورسعيد(متى تبدأ؟)    جامعة القاهرة تحتفل بيوم المرأة العالمي في الرياضيات وتطلق شبكة المرأة العربية- (صور)    أخبار مصر اليوم: هيئة الدواء تسحب 3.4 مليون عبوة منتهية الصلاحية من السوق.. قرينة السيسي رئيسا شرفيا للهلال الأحمر المصري.. حقيقة إقرار الحد الأدنى للقبول بالجامعات الأهلية    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الجديد.. سعر الذهب اليوم الثلاثاء 13 مايو بالصاغة (تفاصيل)    ارتفاع طن السلفات إلى 1063.5 جنيه، أسعار الأسمدة اليوم في الأسواق    محافظ سوهاج يُقرر تشكيل لجنة لفحص كافة أعمال وتعاقدات نادى المحليات    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 13 مايو 2025    رسميًا بعد الانخفاض الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه اليوم الثلاثاء 13 مايو 2025    لقاء جماهيري لتوضيح ملف تقنين الأراضي بالعبور الجديدة    ولاية أمريكية تُقر قانونًا يسمح بسيارات «كي» بدءًا من عام 2027    جدل وانفعال.. تفاصيل جلسة الاستماع لمستأجري الابجار القديم بمجلس النواب    اشتباكات في طرابلس.. مقتل رئيس جهاز دعم الاستقرار التابع للمجلس الرئاسي    الخارجية الأمريكية: إدارة ترامب تريد نهاية لحرب غزة وتحسين الظروف الإنسانية    جدول أعمال زيارة ترامب الخليجية فى ظل ديناميكيات إقليمية معقدة    إعلام ليبي: توقف حركة الطيران في مطار طرابلس    «قصر طائر» ب400 مليون دولار.. قصة هدية فاخرة منحتها قطر ل أردوغان قبل ترامب    بسبب الاشتباكات العنيفة.. ما حقيقة تعليق الدراسة والامتحانات ب طرابلس؟    بعد حل حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان يعيد صياغة دوره في تركيا    أبو الغيط: إذا كانت المصلحة الفلسطينية تتطلب قرارات صعبة فعلى حماس الاستجابة    منتخب مصر للباراسيكل يكتسح بطولة إفريقيا لمضمار الدراجات ويحصد 29 ميدالية.    آس: بعد أول مباراتين ل البرازيل.. نجل أنشيلوتي سيتولى تدريب رينجرز    عضو مجلس الزمالك يوجه رسالة للجمهور بعد الخسارة من الأهلي في السوبر الإفريقي لليد    "كأس أمم أفريقيا للشباب ودوري سعودي".. نتائج مباريات يوم الإثنين 12 مايو    النصر يكتسح الأخدود بتسعة أهداف نظيفة في ليلة تألق ماني    الكشف عن حكام مباراة الأهلي وسيراميكا كليوباترا    موعد وصول مدرب الأهلي الجديد إلى القاهرة لتوقيع العقود    مدرب الترجي السابق يكشف حقيقة مفاوضات الأهلي والزمالك معه    القبض على طرفي مشاجرة بالأسلحة النارية والبيضاء في المرج    حالة الطقس اليوم الثلاثاء، ارتفاع جديد بدرجات الحرارة    سقوط طفل من مرتفع " بيارة " بنادي المنتزه بالإسماعيلية    مباحث الغربية تكشف لغز العثور على جثة محام بقرية سبطاس    اليوم| محاكمة تشكيل عصابي بتهمة الشروع في قتل شاب ببولاق الدكرور    اليوم| محاكمة تشكيل عصابي بتهمة سرقة المواطنين بالإكراه في بولاق    انتحار شقيقي الشاب ضحية بئر الآثار في بسيون بالغربية    مصرع شاب التهمته ماكينة حصاد القمح في كفر الشيخ    نانسى عجرم تنشر صورا من حفلها الأخير المخصص للنساء فقط فى هولندا    «الأسد بيحب يدلع نفسه».. الأبراج والمال كيف يؤثر برجك في طريقة إنفاقك للفلوس؟    الرئيس السيسي يطمئن على الحالة الصحية للروائي صنع الله إبراهيم ويوجه باستمرار الرعاية الطبية    إيمان العاصي في "الجيم" ونانسي عجرم بفستان أنيق.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    قبل عرضه على "MBC".. صلاح عبدالله ينشر صورة من كواليس مسلسل "حرب الجبالي"    أميرة سليم تحيي حفلها الأول بدار الأوبرا بمدينة الفنون والثقافة في العاصمة الإدارية    الفنانة منال سلامة: أبي كلمة السر في دخولي عالم الفن.. وأبناء الفنانين مظلومون    المخرج حسام علي يشير إلى الشبه بين بوسترات مسلسل فرانكلين والقاهرة كابول    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي أم يجوزُ لي تأجيلُه؟| الإفتاء تجيب    طفل ينهي حياته داخل منزله بالإسماعيلية    أحمد الباز: "مستقبل وطن" يطلق قافلة طبية مجانية بكفر الزيات في هذا الموعد    45 فرصة عمل برواتب تصل إلى 36 ألف جنيه.. تعرف عل وظائف المصريين بالأردن 2025    أعراض ومضاعفات تسمم الماء.. المعاناة تبدأ ب 4 لترات وقد تنتهي بغيبوبة    رئيس «الرقابة الصحية» يزور مستشفى بئر العبد النموذجي تمهيدا لتطبيق «التأمين الصحي الشامل»    عالم بالأزهر: هذا أجمل دعاء لمواجهة الهموم والأحزان    أمينة الفتوى: هذه أدعية السفر منذ مغادرة المنزل وحتى ركوب الطائرة لأداء الحج    أهم 60 سؤالاً وإجابة شرعية عن الأضحية.. أصدرتها دار الإفتاء المصرية    رئيس جامعة أسوان يتفقد امتحانات كلية التجارة    براتب 6500.. فرص عمل في شركة مقاولات بالسعودية    موعد وقفة عرفة 2025.. فضل صيامها والأعمال والأدعية المستحبة بها    موعد تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع جنة بالقاهرة الجديدة    استمرار حملة "تأمين شامل لجيل آمن" للتعريف بالمنظومة الصحية الجديدة بأسوان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموت كائن بلا ملامح
نشر في محيط يوم 30 - 10 - 2007


بقلم: هيلدا إسماعيل
شاسعٌ هو الفقد، يتراكم، يهجس، ينكسر، يتهيأ للمحو أو الترميم على مرِّ الزمن ولكنه وإن تعافى فإن ذلك يكون عادةً بضعف وهشاشة. أحزاني الأولى كانت تقودني إلى التنقيب عن آثار الآخرين الضامرة في جسدي، ففي هذا العالم أجدني دومًا خلف زاوية خائبة أشعل ذكريات، صوراً، أعياداً، بكاءاً، طفولة، أمراض، وملامح الذين رحلوا للأبد بلامقابل وتركوا أعينهم ملتصقة ومعلّقة بي، تعبث في قلبي وترصد النسيان.
كنت دائمًا ما أؤمن بأنه لابد للإنسان من (الحب) حتى يصبح كائنا جميلاً قادرًا على مشاركة الآخرين وهزم أنانيته وأحيانًا إذابة أوصافه غير البشرية، لكنني كثيرًا ما أتساءل ماهو المغزى الجمالي لوجود مايسمَّى ألماً ب(الموت)؟! حين كنت في الخامسة لم أفهم معنى ذلك ولاقساوته، حتى بعد أن رأيت أمي تفقد وعيها حزنا على والدها ذي الراحتين الرطبتين والمتمرِّستين في مسح دموعي ونزقي الطفولي والتي مازلت أستشعر دفء باطنهما على وجنتيّ حتى هذه اللحظة. بينما بدأت باستيعاب الموت متأخرًا ربما في السنة الأولى من الجامعة حين فقدتُ صديقتي (رشا) التي اعتادت أن تجلس بين المحاضرات بالقرب من ماكينة شراء المرطبات الباردة، وحين لم ألوِّح لها ذات يوم عرفت بأنها لن تكون موجودة أبدًا في ذات المكان. (رشا) كانت تستعد لحفلة خطوبتها من شخصٍ طالما كانت تحكي عنه وتتمناه، لكن عمود الكهرباء الذي اصطدمت به سيارتها سبق بهجتها بالحياة، وتجاوز جسدها هكذا بكامل الوجع ليشطره إلى اثنين، ويشطر قلوبنا العديدة معه ويبقينا دونها. المشكلة أننا لا نموت لأننا نهرم، أو نمرض، أو لأننا تعرضنا لحادث ما، نحن لابد أن نموت لأننا نعيش، فقط.. لأننا نعيش.
الموت كائنٌ بلا ملامح، ترتبط فكرته لديَّ بلون الظلام و القبر و الخشية من أن نكون وحدنا هناك، حيث لا أحد إلا التراب وأصوات أقدام تغادرنا ببطء حتى تختفي. بينما إن تساءلتُ ماهو الموت حقا!؟ فلايمكنني أن أملك لذلك إجابة واقعية ترضيني أو تقنعني بها، الموت قد يعني لنا كأحياء بأننا سنفقد الآخرين ونشتاقهم. فحين نفقد عزيزاً، حبيباً، أو قريباً، فإننا نفتقد أشياءً كثيرة تجمعنا به، حتى يصبح هو فيما بعد (شيئاً) ككل الأشياء، لايمكن استحضاره منفعلاً إلاَّ ساكنا.. بلاحراك.
الموت لا يستثني أحداً فلماذا نشيح بوجوهنا عنه؟!، يقول بوسويه Bossuet أكبر مفكر أصولي كاثوليكي في القرن السابع عشر أن اهتمام الناس بدفن أفكارهم عن الموت لا يقل شأنا عن اهتمامهم بدفن موتاهم، فنحن نخاف الموت ونرتعد منه لأننا نعتقد أن الموتى يتعرضون له بقسوة وأنهم يعانون منه ويتألمون، بينما المنطق الوحيد الذي لانعترف به هو أن الموت قد يكون مؤلماً للأحياء فقط.
للجسد طاقاته، قوانينه، جمالياته، قبحه، حيويته، حراراته، دفؤه الذي يتحول إلى برودة وينتهي بمجرد الموت، وهذا مايجعلنا ندفن جثث أحبائنا.. نحرقها.. نغرقها حتى نتخلص من أي أمل باقٍ بعودتهم إلينا. أظننا تعلمنا ذلك من الإنسان البدائي الأول الذي كان يجلس أمام جثث أحبَّائه بانتظار أن تستيقظ من نوم طويل حتى تتحلَّل وتختلط بمكونات الأرض وذراتها، وحتى تأكّد فيما بعد بأن هذا السبات لايعني سوى حقيقية الحياة القاسية والوعد الصارم ب(عدم العودة). لهذا ربما أصبحت جلجامش أول ملحمة في التاريخ تبحث عن الخلود وأول رجل خاض صراعًا ضد الموت من أجل (أنكيدو) صديقه الذي انفصل عن الحياة أمام جلجامش ولم يعد إليها، أو إليه.
لم نختر الحياة حتى نختار الموت، المسألة أننا لم نولد أحرارا، كل ما فعلناه أننا تمسكنا بشيء بدأنا نعتاده. نعم لقد اعتدنا الحياة، أما (الموت) فلم نجربه بعد. إنه ذلك المجهول الذي نخافه، نتفاداه، ونستعيذ من مفاجآته. قد يكون علينا أن نفكّر به، نتقبَّله، نحبُّه، ونبرز أجمل مافيه وإن كان مؤلما بالدرجة التي لايحتملها البقاء، أو إن كانت رغبتنا جامحة في إعادة الحياة إلى كل من سبقونا، تركونا، ورحلوا دوننا. أولئك الذين ما زالوا يموتون فينا كل يوم، مهما حاولنا استعادتهم بكامل الحب أو بدعوى الذكريات.
وربما علينا أن نألف فكرة الموت لأن الألفة هي السبيل الوحيد لقهر الخوف من الأفكار المجهولة، لهذا يقولون دائمًا بأن الموت لا يفاجيء الحكيم لأنه مستعد في كل الأحوال لاستقباله. هذا تماما مافعله سقراط وهو يتجرَّع موته أمام تلاميذه، وهذا أيضًا ماكانت تصنعه الفلسفة اليونانية حين عرَّفت التفلسف على أنه لا يعدو أكثر من كونه استعدادًا للموت، بينما تأمَّلتُ طويلا موقف عالم الاجتماع الفرنسي مونتاني Montaigne في كوننا نعكر صفو الحياة بخشيتنا من الموت ونعكر صفو الموت بانشغالنا بالحياة، وأن من يعرف أن الحرمان من الحياة ليس شراً.. سيعرف كيف يستمتع بها. لقد ألَّف مونتاني كتابا بعنوان (التفلسف: هو أن تتعلم كيف تموت) وهي فكرة تختلف عن الفلسفة اليونانية كونها تشرع سؤالاً يبقينا على قيد الحياة: (كيف تواجه الموت وكيف تنتظره؟). ببساطة لقد راقب مونتاني أشخاصًا يموتون وتفاجأ بأن لا أحد من هؤلاء كان يخشى الموت. هذا ماحدث لجدِّي الذي غادرنا قبل أيام. لقد كان يتوقَّع بهدوء الموت قبل ساعات منه وكأنه تصالح معه وفهم كغيره من الأنقياء كيف سيصبحون أموتاً بلا استثناء. بعد وفاته حزنت كثيراً على رائحته التي غابت وعلى صوته حين كان يواسيني في ظُلمي ويقرأ {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}، وحزنت أكثر بأننا قمنا بدفنه في أرض (مكة) ذلك المكان الأول الذي أراد الذهاب إليه في بداياتِ مرضه، وتساءلت كيف لا يمكننا أن ندفنه في السماء.. هناك حيث كانت عيناه، رغبته، أمنيته، وإشارته الأخيرة؟!.
حجرته وحيدة، مجردة من اللون والملاءات والأشياء الثمينة، لكنها تتنفس عاداته وتمتماته وتلاوات صدرٍ لم يكف عن ذكر الله وتلاوة القرآن عن ظهر غيب. غريب!! كيف لاتوجد أي قنينة عطر أو شال حرير أو أي أدوات لهو آدمية هنا؟!. كومة ثيابه القليلة تتفانى في التعافي من الدنيا و الزهد فيها. لم أكن آبه بالضوء المتسلل من الثقوب حتى بعد غياب جدِّي. صرامة الأشياء وحميمتها التي خلَّفها موته كانت تنزّ بداخلي، حادة، تراجيدية، عذبة ومتضاربة. أشعر بفراغ محكم يشدُّ خناقه عليَّ ويؤذي ملامحي.. أنا الكائن الذي مازالت ملامحه تدل عليه، المؤلم حدَّ التبلّدِ والدهشة أنه لايمكننا أن ننتقم من هذا الفقد ولا استبدال (الآتي) الذي لم يعد جدِّي جزءاً منه ، ولا حتى ذلك الذي لم تعد تنطوي عليه أصغر جزيئاته الطاهرة.
الموت كمفردة، لغة، تاريخ، قاموس، لاتعنينا ولاتشغل بالنا كثيرًا. ما يهمنا هو أن لا نفقد من نحب كما نفقد قطرة مطر ارتطمت للتو بسطح الأرض وذابت فيها، أن لاتختفي رائحته من جسد طالما تعرفنا عليه وميزناه بها قبل أن نراه، تلك الرائحة التي لا تبقى طويلا بعد أن يفارق صاحبها الثياب التي كان تؤويه من الموت.. وتؤويه منَّا.
التعايش مع أشخاص يموتون بالفعل.. قد تزيل الكلفة بيننا وبين المجهول، تدخلنا إلى منطقة مألوفة تشبه الروح، بيضاء ورشيقة لاتشكل الحياة فيها همَّاً من همومها، تُعلّمنا أن هناك أناسًا مستعدون للذهاب دائما حين تلوِّح لهم النهاية وأنهم قادرون على احتضانه عندما يمدُّ ذراعيه الطويلة إليهم. وتُعلمنا أيضا كيف نتدارك الوقت لأن نخبرهم بمدى حبنا وتقديرنا لهم قبل موعد رحيلهم.
أليس من المهم أن ندرك بأن الموتى لا يختفون؟! أظن أنه من الخطأ أن نعتقد بأنه لا توجد طريقة للتواصل معهم. كل الذي تغير بيننا وبين حبيبنا الميّت أن الوسيلة التي كنا نتصل بها معه اختلفت الآن.. وعلينا أن نعتاد فقط على لغة الموتى وإن كنّا لا نجد منهم استجابة ترضي أجسادنا التي مازالت تدبُّ فيها الحياة ولم تفارقها بعد.
المصدر: مجلة "الجزيرة الثقافية"
بتاريخ 30 أكتوبر 2007


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.