بذكرى هيروشيما .. المخزنجي يحاضر عن "بلادة الحس" الأمريكية ملصق ياباني لذكرى هيروشيما محيط – رهام محمود القاهرة : ضرب مدينتي "هيروشيما" و"ناجازاكي" اليابانيتين بقنابل نووية أمريكية 1945 ، كان موضوعا لسلسلة الأفلام التسجيلية التي تعرضها المؤسسة اليابانية في مصر ابتداء من أول أمس ضمن أسبوعها الثقافي بدار الأوبرا المصرية. وسادت حالة من الحزن الشديد بين حضور عرض الأفلام بسبب المشاهد القاسية لمصابي القصف وقتلاه الذين بلغوا أكثر من 200 ألف من سكان المدينتين، كما ألقى الأديب الكبير الدكتور محمد المخزنجي محاضرة عن مخاطر التلوث الإشعاعي وتجربته في اليابان . ويعد هذا العام هو الذكرى الخامسة والستين لهذه الكارثة، وذكرت المؤسسة أن اختيار هذا الموضوع كان لتذكير العالم بمخاطر امتلاك أسلحة نووية. وقال ماسامي ديتيوبوسي نائب رئيس بعثة السفارة بالقاهرة : مؤسسة اليابان تعمل على نشر الثقافة اليابانية في ثلاثة مجالات مهمة؛ تعليم اللغة اليابانية، والتبادل الفكري والثقافي مع جميع البلاد الخليجية والعربية. وقد تخلل الإحتفالية محاضرة لسفير النوايا الحسنة عن الأسلحة النووية ومأساة هيروشيما، وإنتاج فيلم "صلاة أم" الذي يتضمن لقطات ومشاهد تم تصويرها بعد الإنفجار مباشرة. أيام الثقافة اليابانية كما أكد ديتيوبوسي أن الإنفجار ظل تأثيره النفسي والجسدي رهيبا على الأجيال التي عاصرته والتي جاءت من بعدها أيضا، ما يؤكد أن العالم لابد ان يسعى بقوة لأن يكون خاليا من القوة النووية ، مشيدا بجهود مصر لإقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية. ورأى أن السلام يصنعه الحكومات والمؤسسات الدولية والأفراد مهما قلت درجة فعاليتهم فإنها ستكون مؤثرة في النهاية، والسلام ليس صلاة ودعاء فحسب . أما الدكتور محمد المخزنجي فأهدى المسئول الياباني كتابا له يحكي عن اليابان وأكد أننا يجب أن ننحني لآلام اليابان وعظمتها التي علت فوق تلك الآلام، وقد قدمت اليابان لمصر أشياء رائعة منها دار الأوبرا المصرية وكوبري السلام وفكرة عربات الإسعاف، ومشروع بمنطقة الزعفران لإنتاج الطاقة من خلال الرياح والطاقة الشمسية ومشروع آخر في الغردقة . ويبدي المخزنجي إندهاشه من المقاتل الأمريكي الذي تنمحي لديه أية مشاعر بشرية؛ فقد قال أحد الضباط الأمريكيين وكان مكلفا بتصوير عملية القصف من طائرتين مصاحبتين للطائرة التي ألقت القنبلة : "المنظر كان أخاذا، منظر الفطر المؤلف من دخان كبريتي رمادي اللون بقلب الأحمر المتوهج، كان واضحا أن كل شيئا بداخل المدينة يحترق، تلقيت أمر إعداد الإحراق وعلى الفور ساهمت، يا للشيطان، إن ذلك مستحيل، الظلمة تموج وتعلو". وقد كانت هناك نارا سوداء تشتعل وقت قصف المدينتين وهو ما أكده أحد رجال الإطفاء الياباني ، وقال أن الظلمة تغلي أو أن هناك نارا سوداء، ورأى الأديب أنها نار الضمائر البشرية البشعة عندما تتبلد . الأديب المصري محمد المخزنجي يتابع المخزنجي: كتبت عن مأساة مفاعل تشيرنوبل بعد أن عايشتها بنفسي حينما انفجر هذا المفاعل بكوريا 1986 وخلف ضحايا كثيرين كما أدى لإجلاء آلاف السكان من المنطقة نتيجة التسرب الإشعاعي، ولكني لم أعرف أفظع وأبشع من محرقة هيروشيما خاصة أنها مدبرة ولم تحدث نتيجة عطل كما في الحالة الأولى . وقال أحد الضباط الثلاثة الأمريكيين المكلفين بتنفيذ مهمة إلقاء القنبلة على هيروشيما : "كان علينا أن نجهز كل شيء، وأن ننزع صمام الأمان بعد ذلك، ثم كان بإمكاننا التمتع بمنظر مهيب، يراها أحدنا يدندن بكلمات أغنية رحلة عاطفية، فإحراق مدينة بها 320 ألف إنسان هو رحلة عاطفية في أغنية!!!. يواصل الأديب المصري : الاسم الذي أطلقه المجرمون على قنبلتهم التي احرقت هيروشيما كان "الولد الصغير"، أما الطائرة التي ألقت القنبلة فقد أطلق عليها قائدها اسم والدته !، وهذه مجرد أمثلة على بلادة الحس تجاه المأساة. أما حالة المرح التي التبست أطقم تنفيذ الجريمة فهي أسخف وأثقل من أن يعاد تذكرها. ولم أرصد حالة شعور واحد للندم بعد ذلك إلا للضابط الذي كان دوره استكشاف ملائمة الجو فوق هيروشيما لتنفيذ المهمة، وقد كان معذب الضمير يرسل الهدايا والرسائل للأطفال الذين بقيا على قيد الحياة بعد المحرقة، وظل يسعى لكي يتم اعتقاله وسجنه كمجرم، وأخيرا اختفى أو أُخفي في مستشفى للأمراض العقلية. يتابع الطبيب والأديب المخزنجي: البلادة الأمريكية بعد ذلك أكثر؛ فقد نشرت وزارة الدفاع الأمريكية بعد وقوع المحرقة بستة أيام تقريرا يؤكد أنه تم تشغيل القنبلة على ارتفاع يجعل أثر الاصطدام بحدوده القصوى؛ فقد كانت تيارات الهواء الملتهبة الناشئة تلتقط المواد المشعة وتبعثرها على مسافات شاسعة ما أدى لقتل عدد أكبر من الناس. من ضحايا القنبلة وبعض العلماء المشاركين في مشروع منهاتن لتطويع القنبلة الذرية الأمريكية التي كان من تطبيقاتها قنبلة هيروشيما، قدموا طلبا للمشرف العسكري على المشروع بإلقاء منشورات فوق اليابان للتحذير من خطر الإشعاع الذري، الذي سينتج عن انفجار القنبلة. ولم يستجب أحد لهؤلاء العلماء فقد كان المقصود هو إحداث حالة رعب كبيرة لأن القنبلة كانت عملية تجريب في لحم البشر، وكانت رسالة للعدو الأكبر لأمريكا في الحرب العالمية الثانية وهي ألمانيا النازية ضمن قوات المحور. ويصف المخزنجي كيف أصبحت هيروشيما بعد الكارثة مدينة العذاب، فهناك حوالي 300 ألف إنسان انتهوا عمليا وتحولوا إلى فئة منبوذة بسبب التشوه والعجز الكامل وهي حالة تسمى "هيتاكوستيا"، وقد فقدوا أقاربهم وكل ممتلكاتهم، وراحت البلادة الأمريكية تواصل طريقها فلجأ العلماء لهؤلاء ليجربوا عليهم ما يتوصلون إليه وكأنهم حيوانات تجارب. وفي 14 أكتوبر عام 1945 قامت الشرطة العسكرية الأمريكية بإغلاق مستشفى ببلدة يوبينيا اليابانية بأمر من سلطات الإحتلال، وضمت مصادرة أضابير المرضى وجميع الوثائق المتعلقة بمرضهم وانتقالها إلى الولاياتالمتحدة. بعد ذلك في 18 نوفمبر عام 1946 وافق وزير الدفاع الأمريكي على إنشاء مراكز علمية في اليابان لدراسة تأثير الإنفجار النووي على الجسم البشري. القنبلة لحظة انفجارها في هيروشيما ولم تكن هذه المراكز تعالج المرضى بل تحضرهم في طيارات حديثة ليفحصوا ثم يعادوا إلى آلامهم، أما من كانوا يستبقون في المستشفيات، فكان ذلك لسبب آخر شديد الخبث؛ لأنهم كانوا من الموشكين على الموت، ومن ثم كانت أجسادهم تجسد فرصة لتشريح الجثث والوقوف على آثار الإشعاع النووي. وقد وصف الكاتب الألماني روبرت أن هذه الجريمة الطبية عار يستحق الإدانة. وهناك واقعة أخرى بعد وقف قليل من الإنفجار؛ حيث قامت مجموعة من المصورين اليابانين لتصوير المشاهد المروعة بين حطام هيروشيما ورماد حرائقها، ظلوا يصورون طوال فترة الخريف. وفي شهر ديسمبر انتقلوا بكاميراتهم إلى الأرض المحروقة في ناجازاكي، وبعد أن اقتربت عملية التصوير من النهاية تم اعتقال المصورين من قبل الشرطة العسكرية الأمريكية، وفي الوقت نفسه غار الأمريكيون على الأستوديو الذي تحمض وتطبع فيه الأفلام، كما داهموا منزل مخرج الأفلام، ولم يعثر بعد ذلك على هذه الأفلام، ولعل بعضها تسرب إلى الأفلام التي تعرض في المهرجان . ثم قال المخزنجي: الحيوانات، حتى المفترسة منها، لا يأكل إحداهم آخر من بني جنسه، إلا في حالة واحدة عندما يكون ثمة خلل في المخ يجعله يفقد تمييز أقاربه، ويعتبرهم إما فريسة او مفترسين، فإما أن يلتهمهم أو يحاول إحراقهم. وذكر المحاضر أنه حينما ألقيت القنبلة كان تسعة أشخاص يسيرون على جسر في وسط دلتا هيروشيما، وهو المكان الذي صوب عليه الرامي الأمريكي مؤشر تثبيت القنبلة النووية، وبعدها ظهر هؤلاء وقد احترقوا وتبخروا وذابوا في الهواء، لكن الوميض الحار والقاتم للإنفجار النووي طبع ظلالهم على الحجر!. وقال : التاريخ تستودعه الذاكرة البشرية التي تحتاج باستمرار للإنعاش، ففي هيروشيما يوم 6 أغسطس من كل عام تطفأ أضواء المدينة المتألقة، وينظر إلى النهر آلاف الناس الصامتين، ليضع كل منهم على سطح الماء مصباحا ورقيا عائما، يمضي به التيار مع آلاف المصابيح، فيبدو النهر متلألئا في تيار من النور، ويصير نهرا من الضياء، ولابد أن يستمر هذا النهر مضاءا في ضمائرنا جميعا، حتى لا تتكرر هيروشيما مرة أخرى، حتى لا تلتهم الحياة تلك النار السوداء.