تعكس العاصمة الغانية اكرا شيئا كبيرا من نبض الحياة الإفريقية, وفي هذه العاصمة وصحبة عدد من زملائي الكتاب الأفارقة الذين يعقدون مؤتمرهم العام في هذه المدينة, حضرت الزخم الاعلامي الذي رافق الانتخابات الرئاسية الأمريكية, في تلك الليلة التي امتدت إلي الصباح, وانتهت بتتويج باراك اوباما رئيسا للولايات المتحدة. الفرحة كانت غامرة بهذه النتيجة في المنتديات والمحافل وبينها المؤتمر الذي كنت واحدا من المشاركين فيه, وهي فرحة عكستها الصحافة ووسائل الاعلام المرئي وتجلت واضحة في الشوارع, فقد كان باعة الصحف يهتفون باسم اوباما, بل بعضهم كان يحمل نسخا من كتاب جديد اخرجته المطابع متوافقا مع إعلان النتيجة, مما يعني انه تم اعداده, ليكون جاهزا للطبع والتوزيع حالة أن يفوز اوباما بالمنصب الخطير, ونقلت الاذاعات المرئية الاحتفالات الراقصة في البلاد التي نزح منها والده وهي كينيا, كما زارت مستشفيات الولادة ونقلت أخبار المواليد الجدد الذين حملوا اسم الرئيس الأمريكي الذي تم انتخابه رئيسا. أعتقد جازما أن هناك فيما حدث أملا بأن تنجح هذه الانتخابات التي جلبت رئيسا أسود اللون للبيت الأبيض في اعادة أمريكا إلينا, إلي شعوب العالم, بعد أن ابتعدت عن هذا النبض الشعبي في العالم, وتحولت في أعين كثير من شعوب العالم إلي قوة غاشمة, تسوقها الاطماع وشراهة رأس المال وحق القوة بدلا من قوة الحق, إلي مواقف وصراعات تضر بالمشترك الإنساني بدلا من تعزيزه وتقويته في هذا العصر الحديث, الذي تضاءلت فيه المسافات بين الأوطان والمناطق الجغرافية بسبب الثورة العلمية في مجالات الاتصالات والمعلومات والمواصلات, عصر الانفجار المعلوماتي, والثقافة الرقمية, والسماوات المفتوحة وغيرها من منجزات ساهمت في جعل العالم قرية صغيرة. عودة أمريكا إلي العالم وعودة شعوب العالم إلي أمريكا باعتبارها قوة خير وعونا للانسانية لا عليها, أمل مشروع, اعطاه انتخاب اوباما ساقين يمشي بهما. أهمية انتخاب اوباما لمقعد الرئيس, أعطي للانتخابات الأمريكية, بكل ماتهدر فيها من أموال وما يستخدم فيها من ألاعيب الخداع, وجها آخر, أكثر انسانية وأكثر اشراقا, فها هو مهاجر, مازال طريا, ومازال بعض أهله وبينهم عمات وخالات واحدي جدتيه, يعيشون في القرية التي انحدر منها والده السيد حسين اوباما وغادرها إلي أمريكا, وهو أيضا يأتي من مجموعة انسانية تنتمي لأهل البشرة السوداء, ممن كانوا قبل قرن من الزمان يحملون مقيدين في الأغلال في سفن العبيد بعد أن يتم اصطيادهم كما يتم اصطياد الثعالب والأرانب, إلي حياة رق وسخرة في مزارع ومصانع الاسياد البيض, فمجيئه سيدا للبيت الأبيض, وزوجته السوداء لمرتبة السيدة الأولي بين نساء أمريكا, لهو اعادة اعتبار لكل أولئك الاسلاف, وماعانوه من ظلم وقهر وعذاب. وبعيدا عن الأجواء الاحتفالية التي سمتها الصحافة اوبامانيا, بمعني أنها حالة تتحكم بالإنسان أشبه بالهستيريا المرضية التي يتم التعبير عنها بالفرح والضحك والرقص, بعيدا عن هذه الأجواء التي لايحكمها دائما العقل وانما العواطف والانفعالات, أقول, تعليقا علي ماحدث تلك الليلة في أمريكا, إن عالم تلك البلدان الصناعية المتقدمة, هو عالم السياسات, والثوابت التي تبقي راسخة برغم مايحدث من تبدل وتغيير في الشخصيات, وهناك سياسات رأيناها ولمسناها تبقي موجودة, برغم انتقال السلطة من أشخاص إلي أشخاص آخرين ينتمون لأحزاب مختلفة وربما يعتنقون مذاهب ويؤمنون بأفكار تتناقض مع الحاكم السابق, ولكن السياسات التي تحكمها المصالح وتصوغها مؤسسات دستورية, وأخري ذات حضور فاعل في مجالات السياسة والاقتصاد والإعلام, ومجاميع ضغط يسمون الواحدة منها اللوبي, كلها تجتمع علي أشياء هي التي تصنع ثوابت السياسة الأمريكية, خاصة في بعض المناطق والحالات التي تبدو كأنها قوالب جامدة مصنوعة من الصخر لاتتأثر بحرارة الجو السياسي ولابرودته, ولعل جلب الرئيس المنتخب لعنصر ضليع في صهيونيته لكي يصبح المدير التنفيذي لادارته, ينبيء ببعض هذه الثوابت التي نتحدث عنها, ولكننا بعد ان قلنا هذا الكلام لابد من أن نقول أيضا ان منصب الرئيس بالذات, له خصوصية, فقد اعطاه الدستور مايكفي من الصلاحيات ليكون هو الأقوي, ربما حتي في حالات اختلافه مع المجالس التشريعية مثل الكونجرس, وهو لابد أن يكون قادرا علي الفعل في مناطق كثيرة, تأتي قبل وبعد هذه الثوابت التي قد يعجز الرئيس عن زحزحتها, والدليل ان ما حدث خلال ادارة بوش, والفرصة التي أعطاها لمجموعة المحافظين الجدد, ما كان ليحدث تحت ادارة الرئيس الديمقراطي الذي سبقه بيل كلينتون, كذلك فلا أحد يتصور أن باراك اوباما سيعيد ارتكاب حماقات كتلك التي عاني منها العالم علي يد السيد جورج دبليو بوش, الذي سيغادر في شهر يناير القادم البيت الأبيض غير مأسوف علي رحيله. ** منشور بصحيفة "الاهرام" المصرية بتاريخ 12 نوفمبر 2008