الكتاب جدار استنادي لحماية الروح.. مصطفى علوش القراءة وحدها تشكل رصيدنا النفسي، ولا يستغرب أحد من معارفنا أن نقول يوماً إن ملكيتنا هي مئة رواية وألف قصيدة وخمسون موسوعة.. والآلاف من الأفكار المتصارعة في ذهن مرتّب لاستقبال المعرفة على مدار اللحظة.. هكذا يقول الصحفي، والكاتب والباحث والقارئ المحترف. وعلى مستوى التجربة الشخصية فقد أنقذتني القراءة من لحظات ملل كثيرة كان يمكن أن تُعاش فجاءت القراءة كبديل معرفي عن ثرثرات كثيرة و... وكلما توغلت في نوع معرفي معين فإن الآفاق التي يعطيها لي تجعلني أبحر أكثر. أثناء قراءتي لرواية باولو كويليو «ساحرة بورتوبيللو» وصلت الى مقطع على لسان ديدر أونيل وتعرف بإدّا وتوجّه فيه خطابها الى أثينا بطلة العمل تقول فيه: «أعيدي برمجة نفسك كل دقيقة من اليوم بأفكار تسهم في نموّك، عندما تشعرين بالغيظ والارتباك، حاولي الضحك على نفسك، اضحكي عالياً على المرأة التي ترزح تحت عذابات الشكوك والقلق، المرأة المقتنعة أن مشكلاتها أهم ما في العالم، اضحكي على سخافة الوضع المجردة». تأمّلت الدلالات العميقة فيه، فانبثق منه سؤال هذه المادة الصحفية: هل يمكن للقراءة أن تساهم في الحدّ من التوترات النفسية، وبعض أشكال القلق والأرق التي تصيبنا؟.. وحتى لا نبقى في الدائرة الضيّقة للرؤية ذهبنا الى عدّد من الكتّاب والقرّاء مستطلعين رأيهم في هذا السؤال: القراءة قد تجلب القلق «عمار ديوب» وهو أحد المشتغلين في حقل الكتابة ذكر أن الموضوع قد يكون معكوساً، فالقراءة ذاتها قد تساهم بكثير من القلق والضغط النفسي على الأفراد، وفي أحيان أخرى قد تعطيهم إمكانية لفهم الموضوع المثار بشكل أوسع، وبالتالي بامتلاك المعرفة يصل الإنسان الى جزء من حريته، وهذا قد يسهم أحياناً بنوع من الاستقرار. ولكن بصورة عامة القارئ المتمكّن يواجه مشكلات اجتماعية تدفعه أحياناً لنوع من العزلة الاجتماعية في سورية، لغياب حسّ النقد وإظهاره علانية بخصوص القضايا العامة سواء أكانت المعيشية أم الثقافية أم غيرها، ويلعب المنظور السياسي للقارئ دوراً معيناً إما باستقرار حالته النفسية، وإما بازدياد قلقه أو توتّره مما يحيط به من مشكلات عامة». القراءة تصعيد للميول الصحفي «أبيّ حسن» كان يحدّثني قبل يوم من ظهور فكرة سؤال الاستطلاع عن مرحلة قلقة عاشها في فترة من شبابه واستعان بالقراءة لتجاوزها، لذلك حاورته في السؤال المطروح، فقال: «أكتفي بسرد حادثة شخصية عاطفية، حدثت معي وأنا في سن الفتوة (18 عاماً)، عندما كنت في تلك السن من عمري، عرفت خفقة القلب الأولى، إذ فتنت بفتاة تصغرني سناً، وقد كان حبّي لها عذرياً محضاً، بالمعنى المألوف للحبّ العذري، لا بالمعنى الذي نَقَدَهُ (وعناه) د.صادق جلال العظم في كتابه (في الحب والحب العذري)، وفي الفترة ذاتها (وربما اللحظة) وقعت في غرام (جسدي) مع فتاة أخرى (كانت) تكبرني سناً، معها عرفت طعم القبلة الأولى، وصرت أعيش صراعاً متناقضاً بين انثيين أحبهما حباً متناقضاً، وبمقدور أي شخص منّا أن يتكهّن معاناتي النفسية التي يعيشها شخص قلبه وعقله مشطوران بين ضفّتين لا تلتقيان. بعد فسحة من الزمن سترتبط من كنتُ أهواها جسدياً برفيق دربها، وكان من الطبيعي أن أنسحب من حياتها بهدوء احتراماً للعادات والتقاليد والأعراف السائدة، ونظراً للبعد الجغرافي النسبي كذلك، وإن كنت قد انسحبت جسدياً، غير أ نه كان من المحال عليّ أن أنسحب عقلياً ووجدانياً، وكان من الاستحالة بمكان أن تفارق صورتها مخيّلتي، لاسيّما أني عشت فراغاً عاطفياً قاتلاً عقب الحادثتين السابقتي الذكر»!. بالعودة الى المطالعة ودورها في حالتي، وأثرها الكبير في مساعدتي في القضاء على جانب كبير مما انتابني من حالات اضطراب وتوتّر، صرت أقرأ عوضاً عن الساعتين أو الثلاث ساعات في اليوم، ما يزيد عن العشر ساعات يومياً، وعلى امتداد سنوات عقب «نكبتيّ» العاطفيتين، كنتُ أقرأ كل ما يقع بين يدي.. كتب تاريخ، فلسفة، أدب، مسرح، نقد...الخ.. وأحياناً أجد متنفسي في كتابة بعض ما يجول في خاطري ويعتمل في صدري. وسأكتشف في مرحلة لاحقة، من خلال قراءتي لبعض كتب علم النفس، أني كنت أمارس تصعيد الميول من حيث لا أدري، وقد أتى تصعيدي ذاك في وقته المناسب. عندما أتذكّر تلك الأيام، لا يمكنني تذكّرها (بكلّ مرارتها وحلاوتها وهي أشبه ما تكون بالنكتة) من دون أن أتذكّر كيف كان للمطالعة الدور الأبرز في تجاوزي لمحنتي تلك، وهي عملياً كانت محنة فعلاً. القلقون لا يمكن أن يقرؤوا.. «ريمة حجار» باحثة في علم الاجتماع الإعلامي، قاربت السؤال من جهة أكاديمية بحتة.. «ان ضغوط الحياة الاجتماعية ومتطلّباتها، وعدم قدرة الفرد على تحقيق رغباته وحاجاته تؤدي الى حالات من التوتر النفسي وبعض حالات القلق والأرق التي تتجلّى في عدم القدرة على النوم أحياناً، وبردّات الفعل السريعة أو ما يسمى بالعامية (النرفزة والتعصيب) فيبحث الفرد عن طرق للتخفيف من هذا التوتّر والقلق والأرق وغالباً لا يدرك الأسباب الحقيقية لها. فيلجأ بعض الأشخاص الى القراءة (قراءة الكتب والمجلات وغيرها) لعله يجد فيها تخفيفاً لتوتّره وإزالة لقلقه أو أرقه، ويعتقد كثيرون أنها الطريقة الأمثل لهذه الحالة، ولكن إذا تفحّصنا نفسياً هذه الحالات لوجدنا أن حالة التوتر تختلف عن القلق وهو بدوره يختلف عن حالة الأرق، فلكل منهما تصنيفه وأعراضه. أعتقد أن الفرد في حالة التوتّر لا يستطيع القراءة أو التركيز، فقد تكون أية وسيلة أخرى مثل الاستماع للموسيقا أو التوجّه الى بعض التدريبات الرياضية أو الرياضة العصبية، الأجدى. أما حالة القلق التي تصيب الفرد نتيجة الخوف من أمر ما كانتظار نتيجة مسابقة أو مقابلة تتعلّق بقضية مستقبلية هامة، فأهم علاج لها هو الصبر والتأنّي والهدوء والقناعة بالنتيجة مهما كانت مع توقّع الأسوأ حتى لا نُفاجأ بالسيئ، وكي نشعر بالسعادة بتحقيق الجيد أو الأفضل. وتبقى حالة الأرق وهي حالة عدم القدرة على النوم مع الشعور بالضجر والضيق وتوارد الأفكار والذكريات نتيجة أسباب وضغوط كثيرة قد ندركها أحياناً ولا ندركها أحياناً أخرى ولا نعرف ماهيتها. ومع ذلك نجد غالبية الأفراد يلجؤون الى القراءة للتخفيف من حالة الأرق لكي يمر الوقت لعل الفرد يصبح قادراً على النوم.. قد تعطي القراءة في هذه الحالة نتائج جيدة. وتنسي الفرد موضوع أرقه وتساعده على تمضية الوقت شريطة أن تكون من نوع خاص، أي الترفيهي البسيط الذي لا يحتاج الى تركيز عال، كالكتب العلمية والفلسفية، ويحمل شيئاً من الترفيه بعيداً عن القصص التراجيدية والحكايات المأساوية، لأن بعض أنواع القراءات قد تزيد توتّرنا، القراءة والكتاب هذا الصديق القديم الجديد له مكانته، وللقراءة صاحبة السلطة الآسرة لعشاقها أوقاتها التي يجب أن ترتبط برغبتنا بالقراءة وبقدرتنا على استيعاب ما نقرأ وتركيزنا على الأفكار المطروحة، ولا أ عتقد أنها الحل لعلاج توتّرنا وقلقنا وأرقنا خصوصاً في حياتنا العصرية. أما حالات القلق والتوتّر والأرق فعلاجها مرتبط بمدى قدرة الفرد على التعرّف على أسبابها الحقيقية وعلى تصالحه مع ذاته وتدريب النفس على التكيّف مع مختلف الحالات والرضى والسكينة التي تملأ روح الفرد، وقد دخلت الى حياتنا العصرية بعض طرق للترويض النفسي والتدريب العصبي والرياضة النفسية التي تساعد الفرد على التخلص والتخفيف من شدّة التوترات النفسية وحالات القلق والأرق. القراءة إدمان: «لينا وفائي» مهندسة وقارئة محترفة، وقد تكون قاربت القراءة مبتعدة قليلاً عن حَرْفية سؤالنا، فذهبت قائلة: «أغوص عميقاً في الذاكرة، أعود لطفولتي ومراهقتي الأولى، الى مكتبة أبي الغنية، أحمل منها وأقرأ، وتتفتح أمام عيني عوالم من الجمال والمعرفة، فتحملني رواية (كوخ العم توم) الى معاناة شعب كامل، وسعيه الى الحرية، وتعلّمني رواية (ذهب مع الريح) قدرة المرأة على المواجهة التي لا تضعف من رومانسيتها وحضورها كأنثى عاشقة. أكبر وتكبر معي متعة القراءة، تتنوع بتنوع ما أقرأ من الرواية والقصة القصيرة الى الفلسفة والفكر والسياسة، فيتشكل وعيي، وتتشكّل معارفي وشخصيتي، أنا الآن لست سوى وعاء تنصهر فيه كل تلك الكتب. يحضرني ما قرأت في كل ما أواجه في الحياة، والرواية نوعي الأدبي المفضّل، تحملني الى حيوات البشر، فأعيش مشكلاتهم، أغوص فيها، أتطوّر مع الشخصيات وأتقلّب معها، أتلمّس مشاعرها وأحاسيسها، فتبعدني تلك الحيوات قليلاً عن مشكلاتي الشخصية، وتعطيني الهامش اللازم لأصبح مشاهدة لها بدل أن أكون محورها، فأفهمها أكثر، وأعيشها بشكل مختلف، أكثر جدوى وأقل توتّراً. كلّما ضاقت الحياة، زاد التوتر والقلق، وكلما نقص الهواء وضاق التنفس، زادت الضغوطات فعصرت القلب وشلّت الحركة ألجأ الى الكتاب فيفتح لي نوافذ تطلّ على الحياة بكل صورها، بجمالها وبشاعتها، بسهولها الخضراء وجبالها الشامخة. ببردها القارص وحرّها الشديد، بكلّ تناقضاتها، فيتسع الأفق وتمتد الرؤية، ويصبح التحمّل أكبر. رواية (أنت جريح) لأوروال أوز مثلاً، عاشت معي أقسى تجاربي الحياتية، وساعدتني على تحمّلها في لحظات المواجهة والحقيقة. هل تصبح القراءة إدماناً، نعم لكنها أجمل وأروع إدمان، إنها إدمان يغني الحياة، أهرب إليها من ضغوط العمل، ومن شدّته وتعبه، فأمارسها ساعتين يومياً في أشدّ الأوقات ضيقاً وأكثر ظروف العمل شدّة، وأهرب إليها من الفراغ القاتل، بعد انقطاعي القسري عن العمل، فتملأ حياتي، تلوّنها، تعطيها معنى، وتساعدني أن أستمر. على شكل.. خاتمة القراءة.. حمتني من اختيار طرقات بشعة لإكمال الحياة.. وطوّقت ضعفي النفسي الدائم بشتّى أنواع الحماية الممكنة وقدّمت لي جدران حماية ذاتية، في وقت نعيشه لا جدران حماية فيه لأحد. **عن صحيفة "تشرين" بتاريخ 30 / 6 / 2007