اتفاق الطائف واتفاق الدوحة وعلاقات الشيعة والسنّة رضوان السيد منذ العام 2000، عام الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، صار سلاح «حزب الله»، وبالنسبة إليه أكثر من خصومه، قضية القضايا. فقد ارتبك الجميع في التحالف السوري - الإيراني، عندما أعلنت إسرائيل عن عزمها الانسحاب من الجنوب. وظلّ اللواء جميل السيّد يفتخر لسنوات باختراعه قضية مزارع شبعا، مبرراً لبقاء سلاح الحزب وبقاء الجيش السوري أيضاً في لبنان. لكن مزارع شبعا والأسرى الثلاثة وتحليق الطيران الإسرائيلي الدائم، كما لم تكف لبقاء الجيش السوري في لبنان (وهو في الأساس خارج الجنوب)، ما كفت أيضاً لتبرير استمرار «حزب الله» في السيطرة على الجنوب ومنع الجيش اللبناني من الدخول إليه، وفي النهاية اضيفت إلى مبررات السلاح والسيطرة والمربعات الأمنية والوجود داخل الحكومة وخارجها، مسألة التهديد الإسرائيلي المستمر وضرورة بقاء الحزب على سلاحه لحين التوصل إلى «سياسة دفاعية لبنانية» كافية بنظر الحزب (والحزب وحسب) لردع إسرائيل، كما ردعها الحزب وما يزال! والواقع أن سلاح «حزب الله» هو سلاح استراتيجي إيراني، أي أنه مسألة اقليمية ولا حل لها إلا في نطاق وسياق تسويات اقليمية أو صراعات اقليمية مدمرة، كما كان عليه الأمر تماماً مع وجود المقاومة الفلسطينية على الأرض اللبنانية بعد العام 1965. إن أمر سلاح «حزب الله» بعد العام 1999 غيره قبل ذلك العام. ولا يرجع ذلك إلى ظهور وظائفه على حقيقتها من جهة، وتغير العلاقة بسورية فقط (من التبعية إلى الندية)، بل وبسبب التغير في علاقات الشيعة بالسنّة في لبنان من جهة أخرى. فبعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وإلى 6 شباط (فبراير) 1984، ظهر تعاون وثيق بين القيادتين الدينيتين السنّية والشيعية، وغير بعيد عن القيادات السياسية. وفي هذا السياق كانت وثيقة الثوابت العشرة التي صاغها الشيخ محمد مهدي شمس الدين واذيعت من دار الفتوى والمتعلقة باعتبار المسلمين للبنان وطناً نهائياً، ومطالبتهم بالندية في المواطنة والحقوق والواجبات والشراكة الوطنية الكاملة. ثم كانت الصلاة المشتركة في الملعب البلدي ببيروتالغربية بمناسبة عيد الأضحى، والتي أعلن فيها المسلمون مجتمعين التمرد على سلطة الرئيس امين الجميّل التمييزية بقيادة المفتي الشيخ حسن خالد والشيخ شمس الدين. وامتد الأمر إلى معارضة المفاوضات مع العدو الصهيوني، والتي قامت بها الإدارة اللبنانية آنذاك من أجل تحقيق الانسحاب من لبنان وإقامة سلام مع إسرائيل. وجاء دخول ميليشيات الحزب الاشتراكي وحركة «أمل» إلى بيروت في 6 شباط 1984، وبدء حرب «أمل» بدعم سوري على المخيمات الفلسطينية، مقلقاً ومزعجاً لهذا الانتظام السنّي - الشيعي. وقد دفعت سورية ودفع أنصارها المسلحون الأمور بالفعل باتجاهات أخرى فكان «الاتفاق الثلاثي» بين الميليشيات الإسلامية والمسيحية بدمشق! وعندما فشل انعقدت مؤتمرات جنيف ولوزان دونما طائل. وعادت السعودية إلى التدخل، واشترت بالفعل وليس بالقول سلام لبنان وبقاءه، وبقاء العلاقات الإسلامية - الإسلامية، والعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، من الرئيس حافظ الأسد ومن الولاياتالمتحدة وصولاً إلى اتفاق الطائف الذي توّج صلاة الملعب البلدي، ووثيقة الثوابت وبشراكة البطريرك صفير القوية التي عزلت تمرد الجنرال عون ودفعت النواب المسيحيين باتجاه الطائف. فالوجه السعودي - السوري من الاتفاق، هو نفسه الوجه الإسلامي - الإسلامي أو السنّي - الشيعي، والذي سبق أن أنشأه أو جدده الشيخان شمس الدين والمرحوم حسن خالد. وبمقتضى الطائف ووثيقة الوفاق الوطني فيه صار النظام اللبناني برلمانياً للمجلس النيابي فيه - الذي تقوده الطائفة الشيعية - الأولوية، بعد أن كان القرار بيد رئيس الجمهورية، في حين صار القرار التنفيذي بيد مجلس الوزراء مجتمعاً، والذي يقوده رئيس الوزراء السنّي. وما ظهرت الآثار الإيجابية والمرجوة من وراء الطائف الذي سوى بين المسلمين والمسيحيين في المجلس النيابي، وفي مناصب الدولة الكبرى بسبب الوصاية السورية على سائر المؤسسات من جهة (وعدم تطبيق الدستور بالتالي)، وبسبب خروج المسيحيين الفاعلين منه او اخراجهم من جهة أخرى. وما اهتم السنّة والشيعة كثيراً لتهميش المسيحيين، لتهيبهم من الرئيس حافظ الأسد، ولأنهم رأوا ما اصاب أولئك الذين أظهروا امتعاضاً من هذا الاخلال بالطائف مثل البطريرك صفير وسمير جعجع، ومثل الرئيس حسين الحسيني والرئيس صائب سلام من المسلمين. بيد أن ثقل الوطأة السورية وتصرف أنصار سورية من ميليشيات الحرب، وأعباء استمرار النزاع المسلح مع إسرائيل، كل ذلك صعّد المناكفات مع المسيحيين، والمماحكات بين الرئيسين الحريري وبري، وألجأ مسيحيي النظام إلى سورية تعويضاً عن الضعف الذي اصاب رئاسة الجمهورية. هكذا حصل أيام رئاسة الهراوي الممددة، وأيام رئاسة لحود الممددة أيضاً. وكان الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 نقطة فاصلة في العلاقات بين «حزب الله» وسورية، وبين «حزب الله» ونظام الطائف، وأخيراً في موقع لبنان في الصراع الشرق أوسطي. فالنظام السوري، بالانسحاب الإسرائيلي من لبنان، ما عاد يستطيع الزعم بوجود الوظيفة الاقليمية لوجوده في لبنان، ومن أجل التحرير والجولان. ثم ان «حزب الله» هو الذي تولى عملياً مواجهة إسرائيل وبسلاح وانفاق وتكليف من إيران وتنسيق مع سورية، ويستطيع الاستمرار في القيام بذلك، في نطاق التحالف الاستراتيجي الندي وبالأولويات الإيرانية وليس بالأولويات السورية. وفقد النظام السوري وظيفة أخرى من وظائفه المتعددة، فقد كان معروفاً أن الرئيس الأسد هو حافظ حقوق الشيعة وضامنها في لبنان والعراق. أما بعد العام 2000 ثم على الخصوص بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، صارت إيران هي التي تتولى صون حقوق الشيعة أو تحصيلها، وليس في لبنان والعراق فقط، بل وفي سائر أنحاء العالمين العربي والاسلامي. و «حزب الله» في هذا السياق نموذج لهذا الفهم ولتلك الممارسات. وعلى أي حال، فإن هذه المستجدات كلها زعزعت ايضاً العلاقات بين الشيعة والسنّة، ذلك ان الحزب، وبسبب الحاجة الى زيادة شرعية بقاء سلاحه بعد الانسحاب الاسرائيلي عام 2000، تقدم على الرئيس بري في تولي حصة الشيعة في النظام اللبناني، واجتذب بذلك الطائفة وقرارها ووضعهما في خدمة الهدف الاستراتيجي الذي يعمل له، والذي بدا في أوضح وجوهه في حرب تموز عام 2006، وفي اجتياح بيروت يوم 7/5/2008. وما اقتصر التحرك والزلزال في المواقع على شيعة «حزب الله»، بل وجعل ذلك للسنّة - الذين كانوا قد بدأوا يشعرون بالقلق الشديد بعد اجتماع عين التينة، وسقوط حكومة الحريري، ومجيء حكومة عمر كرامي 2004 - على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري. تجلى التوافق الشيعي - السنّي الذي توّج في الطائف مرة أخرى بعد الخروج السوري، بقيام التحالف الرباعي. بيد ان أحداً من الطرفين لم يحرص عليه أو يرعاه. فقد كان هم السنة وسط الزلزال الذي نزل بهم على أثر اغتيال الحريري، إبعاد سورية عنهم، وإقامة المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الحريري. وكان هم الشيعة بقيادة «حزب الله»، صون العلاقة مع سورية، وصون سلاحهم، من ضمن الاستراتيجية والتكليف الايرانيين. ولذا ما تفكك التحالف الرباعي فقط (والذي ما كان وليد جنبلاط حريصاً عليه أيضاً لصعود نجمه في 14 آذار (مارس) ولخوفه من سورية و «حزب الله» وسلاحه)، بل واتجه «حزب الله» ثم الرئيس بري بعد تردد، لكسر ما اعتبراه أرجحية سنّية في السلطة التنفيذية في الطائف. وتفتق الذهن الانقسامي عبر الوقائع العاصفة من الاغتيالات والأحداث الأمنية والسياسية، عن مطلب الثلث المعطل أو الضامن كما سماه السيد حسن نصرالله، اي أن يستحيل على رئيس الحكومة السنّي الوصول الى قرار بعد ان تبين لهم ان الرئيس السنيورة أنجز الحصول على الثلثين في حكومته من دونهم بعد انتخابات العام 2005 الاستثنائية النتائج. وعندما تعذر إسقاط الحكومة بالاعتصامات والاغتيالات أو الثلث المعطل أو الاستقالة، جرى إقفال مجلس النواب، ثم جرت الحيلولة دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد ان ازداد رجحان كفة 14 آذار عند ذهاب لحود. وكما كان الثلث المعطل، وإقفال المجلس مسمارين ضخمين في نعش الطائف، وفي العلاقات الشيعية - السنية التي قام عليها الاتفاق - جاءت التجاذبات بشأن قانون الانتخاب لتكمل الإجهاز على الطائف. كان الرئيس نبيه بري قد قال مرة إن «القضاء» قضاء على لبنان. لكن منذ التفاهم بين «حزب الله» والجنرال عون، تنافس الشيعة مع السنّة، كل على إرضاء مسيحييه. الرئيس الحريري الشهيد، كان قد وعد البطريرك في سياقات أخرى عام 2004 بالسير في قانون انتخاب يعتمد القضاء اساساً، وظل سعد الحريري على وعد والده. في حين سار الشيعة في الاتجاه نفسه إرضاء للجنرال عون، والطرفان إذا كانا يفعلان ذلك، إنما كانا يحطمان الطائف الذي شاركوا في صنعه بلورة لتوافقهم، واكتمل تحطم الطائف عندما دخل الخلل التفاهم السنّي - الشيعي بعد العام 2000، ثم بلقاء عين التينة (توحيد البندقية الشيعية)، ثم مقتل الباني الرئيس للتفاهم رفيق الحريري. جاء لقاء قطر بعد تفجر العلاقات الشيعية - السنّية في لبنان تفجراً نهائياً، وبلوغ حدود الحرب الأهلية بين الطرفين. وقد أحدث اللقاء «هدنة على دخن»، وهذه الهدنة أو هذا اللقاء يذكر من جهة بالاتفاق الثلاثي الذي لم يصمد، لكنه يفتح من جديد على تواصل عربي واقليمي، يشبه ذلك الذي حصل بعد فشل الاتفاق الثلاثي وأوصل الى الطائف. بيد ان التواصل هذه المرة إذا تطور باتجاه عودة حقيقية للاستقرار، يتطلب توازنات جديدة تصنعها في العادة وللأسف، الحروب وليس إرادات السلم الأهلي والاقليمي. قام الطائف على توافق اسلامي - اسلامي، وحاجة مسيحية، ورعت ذلك كله السعودية وسورية. أما اليوم فإن التوافق بين الطائفتين قد تحطم، والعودة الى الاستقرار والدستور تحتاج للتوافق الشيعي - السنّي الصعب بسبب اختلاف الأهداف والارتباطات. وتحتاج لما هو أكثر وأكبر من ذلك في مجال العلاقات العربية - العربية والعلاقات الاقليمية والدولية. تكاثرت الظباءُ على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيدُ عن صحيفة الحياة 27/5/2008