المحافظون العرب يجدّدون النظام العربي رضوان السيد اعتدنا وعلى مدى ثلاثة عقود وأكثر، أن يكون الثوريون والتقدميون العرب هم الثائرون على النظام العربي، بحجة عدم فعاليته أو عدم تلبيته مطالب الجمهور العربي ورغباته. واعتدنا أن نرى المحافظين والمعتدلين جاهدين في الحفاظ على الحد الأدنى وعلى الشكل، لكي تهدأ الأمور، وتجري معالجة المشكلات بالتأني وبالتدريج. وقد استطاع الزعماء الثوريون - وبخاصة معمر القذافي وحافظ الأسد وصدام حسين - أن يسودوا في النظام العربي ويسيطروا عليه، وبسبب «المزاج» المعتدل والحريص للمحافظين العرب وبخاصة السعودية ومصر. فالرئيس صدام حسين جَرّ العرب معه جمهوراً أو سلطات الى حروب ونزاعات عدة، وحصد دائماً الإعجاب والشعبية. وكذلك الأمر مع العقيد القذافي الذي خاض حروباً عدة خاسرة داخل الدول العربية وفي أفريقيا ثم في اعمال خطف الطائرات والأعمال الإرهابية. وفي كل مرة كان على العرب الكبار أن يغفروا أو يتوسطوا لدى المُصابين للعفو أو المهادنة، بل كان عليهم أحياناً كثيرة أن يتضامنوا مع النظام العراقي أو النظام الليبي، لا لشيء إلا رأفة بشعبي البلدين، وخشية انهيار النظام العربي. والأمر مع الرئيس حافظ الأسد مختلف. فصدام حسين قبل غزو الكويت، والقذافي قبل محاولته غزو مصر، إنما كانا يمضيان باتجاه مزاجات الجمهور، وباتجاه التطرف في رفع راية فلسطين والمطالب العربية ومعاداة الإمبريالية. ولذا فقد كانت المآخذ عليهما تتناول الأساليب والقدرات. أما مع الرئيس الأسد الأب (بل والابن) فقد كان الأمر مختلفاً، وأقرب الى اتقاء الشر. إذ تحرك الأسد الأب لضرب المقاومة الفلسطينية، وتحرك للسيطرة على لبنان. ولذا فقد كان همُّ المعتدلين والمحافظين العرب التقليل من الأضرار التي يُنزلها النظام السوري بالقضية الفلسطينية، وبالاستقرار في لبنان، وبالتالي بالنظام العربي. من أجل التقليل من الأضرار جرى الاعتراف من جانب العرب الكبار بالوصاية السورية على لبنان لحوالي الثلاثة عقود، وبالأرجحية والتقدم في الشأن الفلسطيني لحوالي العقدين. وفي حين قضى النظام الصدّامي على نفسه بغزو الكويت، وبما ترتب على ذلك من حصار من جانب الولاياتالمتحدة، وفي حين همّش النظام الليبي نفسه بالانصراف عن العرب الى ابتلاء الأفارقة بثوريته ثم بالتصالح مع الولاياتالمتحدة والنظام الدولي، ظل النظام السوري قابضاً على عُنُق لبنان، وعلى ذراع الفلسطينيين حتى السنوات الأخيرة والى اليوم. ولا شك في أن القدرة على ذلك لا تعود الى تسليم العرب الكبار له بذلك اتقاء للشر والضرر وحسب، بل والى تلاؤمه المستمر مع السياسات الدولية والنظام الدولي، في حين دأب القذافي وصدام حسين على الاصطدام بالسياسات الدولية وبالنظام الدولي. فعندما دخل السوريون الى لبنان عام 1976 لإخماد النزاع الداخلي فيه، كانوا يحظون بدعم من الولاياتالمتحدة، وصمت من جانب إسرائيل، لأنهم كانوا يتصدون أيضاً وبالدرجة الأولى للمقاومة الفلسطينية ولياسر عرفات الذي اتخذ من لبنان مقراً له بعد إخراجه من الأردن عام 1970. وفي العام 1990 دعم الرئيس الأسد الحملة الغربية على صدام حسين لإخراجه من الكويت، وتلقى في المقابل تكليفاً جديداً بالاستمرار بقواته وإدارته في لبنان. وعندما ضاق اللبنانيون ذَرعاً بالإدارة السورية بعد العام 2000، كان التحالف السوري - الإيراني قد صار من القوة، بحيث صار الأميركيون والإسرائيليون يحسبون له ألف حساب، ويميلون لاعتباره من بين مرتكزات التوازن والاستقرار في المنطقة حتى العام 2004، وصدور القرار الدولي الرقم 1559. على أن المتغيرات التي فرضها الأميركيون بعد غارة أسامة بن لادن عام 2001 عليهم، أدخلت العرب في فيلم طويل متعدد الفصول، وانكشف خلاله الجميع من دون استثناء. فقد غزا الأميركيون أفغانستان والعراق، وامتلأت ارض المنطقة العربية وبحارها بالقواعد والبوارج البحرية الأجنبية. وفي ظل هذا الحصار للعرب تمدد الإيرانيون الى جانب الأميركيين في الأرض العربية أيضاً، بالوجود أو بالنفوذ، وشاركهم في ذلك السوريون حلفاؤهم الاستراتيجيون. وعندما بدأ الحصار من حول العرب يتفكك نتيجة الخلاف الأميركي مع إيران حول موضوعات عدة، وجد العرب أنفسهم في واقع مزعج بل مأسوي. هناك الخراب العراقي المتنازَع عليه بين الأميركيين و «القاعدة» والإيرانيين. وهناك الانقسام اللبناني الذي يتصارع فيه الإيرانيون والسوريون والإسرائيليون. وهناك الانقسام الفلسطيني الذي يتخبط فيه الشعب الفلسطيني، وتتضرر من ورائه قضية فلسطين وتوشك أن تضيع، ويعاني منه، إضافة الى الفلسطينيين، المصريون والأردنيون، وتستمتع بنيرانه كل من إسرائيل وسورية وإيران. الإيرانيون والسوريون وحلفاؤهم في لبنان وفلسطين (وفي العراق الى حد ما) يعتبرون تصرفاتهم في الملفات الثلاثة عملاً من أعمال الممانعة والمقاومة لليهود وللأميركيين. بيد أن العرب الكبار رأوا وهم يحاولون الخروج من الحصار، أن الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين صاروا بمثابة رهائن في أيدي الإيرانيين والسوريين، والمطلوب فدية من الأعداء (الولاياتالمتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي) لإطلاق سراح الرهائن المساكين! في هذا الواقع الجديد، سلك العرب الكبار في البداية السلوك الذي تعوّدوا عليه: أي الخضوع للابتزاز، ومحاولة لملمة الصفوف، والخروج التدريجي من المأزق بالتفاوض والإقناع. وهكذا مضت القمم العربية والاجتماعات الثنائية في الأردن ولبنان والسودان وتونس والرياض. وبعد كل قمة أو اجتماع ثنائي كان السوريون وحلفاؤهم من الجماهير الغفيرة أو الغفورة، ينصرفون الى شتم العرب الكبار وشتم عدم فعالية النظام العربي، وشتم الاستسلام الى الولاياتالمتحدة وإسرائيل. وهذا في الوقت الذي يزيدون فيه من تسعير الانقسامات في البؤر النازفة، ومحاولة استحداث انقسامات جديدة، بل وتهديد أمن أولئك الحريصين على الاستقرار وعلى النظام العربي. وخاض العرب بقيادة السعودية في السنوات الثلاث الماضية محاولات لإعادة الوعي والانتظام على خطين: خط رأب الصدوع والانقسامات وخط انتهاج سياسات شاملة وواحدة في الصراعين الإقليمي والدولي. لكنهم وعلى مشارف القمة العربية في دمشق، وجدوا أن محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح، وأن الخطر يتفاقم على الأمة الواقعة بين ضغوط الأعداء والأصدقاء. لقد صار الأمر كمن يلحس المبرد. ولذا كانت الخطوة السعودية – المصرية – الأردنية، وهي خطوة غير معهودة في تاريخ العرب المعاصر، ومن جانب المحافظين العرب بالذات. قالوا للنظام السوري إن السكوت وكمّ الأفواه بحجة الحفاظ على التضامن العربي غير الموجود، هو كذب وضحك على الذقون. فما هو هذا النظام العربي الذي يعمل ضد نفسه؟! لا بد من توقف سورية عن سياساتها التدخلية غير البناءة في فلسطين والعراق ولبنان، وفي لبنان على الخصوص! وقد جرى التركيز على لبنان، لأن السوريين لا ينفردون بالطبخ والنفخ في العراق مع وجود الاحتلال الأميركي والتمدد الإيراني. ولأن السوريين لا ينفردون بالتخريب في فلسطين مع وجود الاحتلال الإسرائيلي، والجهاد «الحماسي». أما في لبنان فهم شبه منفردين، وتدخلهم سافر ومباشر. ما عاد من المفيد ولا المناسب تقديم الشكل على المضمون، ما دام هذا الشكل قد صار عبئاً على كل الملفات. وما الفائدة من الاجتماع في دمشق وإصدار البيانات، في حين تقع السياسات السورية ذاتها في أصل المشكلات وأصولها، ويصبح العرب الكبار بناة النظام العربي ورعاته شهود زور على ما يجري، وطعامهم مأكول، وأفعالهم مسْبوبة؟! ألقى الرئيس بشار الأسد خطاب القمة التقليدي. بيد أن الناس أصغوا الى كلمتي الرئيس فؤاد السنيورة، والأمير سعود الفيصل. وفي الكلمتين تذكير للنظام السوري بما فعل ويفعل، ودعوة لتجديد النظام العربي، نظام الدول الملتزمة بالحرية والتضامن والحرص على الانتماء الكبير ومقتضياته، والمصالح الكبرى ومقتضياتها. لا بد من أن يتغير النظام العربي ليصبح الالتزام بالقرارات النابعة من الإرادة العربية الجامعة ركيزة أساسية. فهل تتوافر الإرادة لتجديد النظام، أو نستمر في شتم الأعداء، والعمل ضد أنفسنا؟ «لا يلامُ الذئبُ في عدوانه إن يكن الراعي عدوَّ الغَنَمِ». عن صحيفة الحياة 1/4/2008