في تغييب العراق عبدالله اسكندر كوارث متعددة الاتجاهات في العراق هي حصيلة السنوات الخمس على الغزو الاميركي والاحتلال. والأرقام المهولة، المسجلة حتى الآن، تكشف استحالة المقارنة بين الأهداف المعلنة للغزو وبين الوضع الحالي. عشرات آلاف القتلى ومئات آلاف الجرحى، ملايين المهجرين، بلايين الدولارات المهدورة من دون أي اثر على البنية التحتية في البلاد. انقسام طائفي وعرقي ومناطقي وعشائري لم تشهد بلاد ما بين النهرين له مثيلاً في تاريخها الحديث. انهيار بنية الدولة العراقية انهياراً كاملاً، وتحول مؤسساتها السابقة الى قطاعات حزبية وطائفية تبتلع موازنات ضخمة لتوظيفها في النزاع الداخلي وحرب النفوذ. ابتلاع الثروة النفطية وتبديدها بالتهريب وانهيار قطاعي الزراعة والصناعة، بما يرتب خسائر ببلايين الدولارات. ومن الكوارث الاكثر عمقا على مستقبل العراق هو انهيار البنية الاقتصادية ودورة الانتاج المحلي ودعامات استمراره، ما حول العراقيين الى شعب فقير يستعطف المانحين لتأمين بقائه على قيد الحياة، وذلك في اكثر البلدان العربية غنى بالموارد الطبيعية والكفاءات. كما ان السلطة السياسية الجديدة غير قادرة على الاستمرار إلا من خلال الارتهان، سواء للقوات المحتلة مباشرة او لقوى الأمر الواقع الجديدة المتمثلة بايران. اي ان البلاد فقدت سيادتها على اقتصادها وقدرتها على تقرير المصير في المستقبل المنظور على الاقل. والتذرع بضرورة تحمل كل هذه العواقب في سبيل التخلص من حكم البعث وصدام حسين، ليس الا لتبرير العجز عن حماية الاستقلال العراقي، اقتصادياً وسياسياً، وتبرير تغيير طبيعة الدولة العراقية ومؤسساتها، واستمرار كونها حصيلة التقاطع الاميركي - الايراني. ولأن الأمور كذلك، ما تزال تفشل كل محاولات المصالحة وتفشل معها كل محاولات وقف العنف القادم من كل اتجاه. وإذا كان التركيز ينحصر في العراق لدى النظر الى حصيلة الغزو والاحتلال، فلأن هذه الحصيلة كارثية على المستويين الانساني والسياسي داخل بلاد ما بين النهرين. لكن مفاعيل الغزو وما شهده الاحتلال ترك وسيترك آثاراً عميقة في المنطقة كلها. ليس فقط في تشكل نزاعات جديدة تضاف الى القديمة المستمرة، وانما ايضاً في الظروف التي يمكن ان تدفع في اتجاه ديموقراطية جدية وحكم رشيد في المنطقة. هذا الخلل العميق في المنطقة لا يتعلق بصورة الطوائف والقوميات لذاتها ولتاريخها وطموحاتها فحسب، وانما يرتبط ايضا بفقدان قدرات الضبط والردع التي تمثلها الدول الجامعة على المستوى المحلي وبقدرة الردع الدولية، خصوصاً الاميركية. فالولايات المتحدة، القوة العظمى الوحيدة في العالم، قبل الغزو، انتهت بعد خمس سنوات من الاحتلال الى نمر من ورق. ومع انكفاء المجتمعات العربية الى مرحلة ما قبل الدولة، بالتزامن مع انهيارها في العراق، انطلقت شياطين الطوائف من بطون التاريخ ساعية الى استرداد ملك ضائع. وفي هذا الاطار، مع تنويعات محلية، لم تكن الازمة اللبنانية ان تأخذ هذا المنحى المصيري من دون النظر الى مفاعيل انهيار العراق وتركيب سلطته الجديدة على قاعدة عددية ترتبط اطراف كثيرة فيها ارتباطاً مرجعياً بإيران. وهذه القاعدة العددية تؤشر الى ازمة في اكثر من دولة خليجية، خصوصاً في ظل ديبلوماسية ايرانية هجومية في الداخل والجوار والخارج. في موازاة ذلك، وفّر الاحتلال، بتفكيكه الدولة العراقية، ملاذات عربية هذه المرة للتكفيريين الذين تشتتوا بفعل انهيار «طالبان» في افغانستان، ووفر ايضا للاسلاميين عموما مادة دعائية وتحريضية، وباتوا في موقع التهديد المتزايد للسلطات القائمة في اكثر من بلد عربي. وفي هذا المعنى غذّى الغزو التطرف ودعَّمه، على نحو توسع معه الاضطراب وضيّق الخيارات الداخلية للدول. وبات العالم العربي منقسماً أكثر من أي وقت مضى على قاعدة الموقف من العراق وتفاعلاته، وإن كانت الازمة اللبنانية هي الظاهر من هذا الخلاف. لقد اصبحت المنطقة العربية مكشوفة، مع انهيار العراق وغيابه، امام قواعد جديدة لنزاعات مستجدة في تاريخها الحديث. عن صحيفة الحياة 19/3/2008